وكان ريشترد قد سئمت نفسه هذه الفعال , وعافتها , وملأ اليأس قلبه , فانسحب الى عكا وأخذ يفكر فى العودة الى انجلترا . ولكن لما سمع ان صلاح دين عاود الهجوم على يافا ,
وأنه استولى عليها بعد يومين لا اكثر , أبى كبرياءه ان ينكص عن غرضه , وبعث فى نفسه روحا جديدة ,, واقلع من فوره الى يافا مع من أستطاع ان يحشدهم من الجنود .ولما وصل
الى الميناء نادى بأعلى صوته "الويل للقاعدين "وقفز وسط جنوده فى البحر , وأخذ يلوح ببلطته الدنمرقية الشهيرة ويقتل كل من يقف فى سبيله , ثم قام جنوده الى داخل المدينة ,وأخرج
منها جميع الجنود المسلمين , كل هذا ولم يكاد صلاح الدين يعرف ما حصل عام "1192 م " . فلما عرفه استدعى القسم الرئيسى من جيشه لانقاذ المدينة ,وكان عدد رجاله يربو كثيرآ
على عدد جنود رتشرد الثلاثة الألاف , ولكن شجاعة الملك وجرأته أكسبتاه النصر .
ولما راى صلاح الدين أن رتشرد رأجلا بعث له بجواد من عنده , وقال " أن من العار يقاتل هذا الرجل الشهم راجلا .وغضب جنود صلاح الدين من هذا العمل وأمثاله فلم يعودا
يطيقون صبرا عليه ; ,اخذوا يلومونه على ان ترك جنود حامية يافا أحياء ليقاتلوه فيها مرة اخرى .ثم سار رتشرد أخر الأمر -اذا جاز لنا أن نصدق رواة القصة المسيحيين -أمام جيش
المسلمين وحريته وحربته مدلاة الى جانبه , ولكن أحدآ يجرؤ على مهاجمته .<37> ثم تبدلت الحال فى اليوم الثانى , وجأءت الأمداد الى صلاح الدين , وأستولى الملل مرة أخرى
على رتشرد , وحبس عليه فرسان عكا وصور معونته , فأرسل يطلب الصلح من جديد , وأشتدت عليه الحمى فطلب فاكهة وشرابا باردا , فما كان من صلاح الدين ان بعث أليه
بالكمثرى والخوخ والثلج , وبطبيبه الخاص , وفى اليوم التالى من سمبتر 1192 م وقع البطلان شروط صلح يدوم ثلاث سنين , وقسمت فلسطين قسمين ;فأحتفظ رتشرد يجميع ما فتحه
من المدن الممتدة على طول الساحل عكا الى يافا ;وسمح السلطان للمسلمين والمسيحيين بحرية الأنتقال من أحد القسمين الى الأخر , وتعهد السلطان بحماية الحجاج المسيحيين الى
بيت المقدس على ان تبقى المدينة فى ايدى المسلمين "ولعل التجار الأيطالين الذين يهمون قبل كل شئ أن يسيطروا على الثغور البحرية , قد أقنعوا رتشرد بالتخلى عن المدينة المقدسة
نظير استيلائه على المدن الساحلية ".
وأقيمت المأدب والألعاب أحتفالا بالصلح ويقول صاحب سيرة رتشرد فى هذا : " والله وحدهيعلم مقدار السرور الذى ملأ قلوب الشعبين , وهو سرور يجل عن الوصف "<38>.
وزالت الى حين الاحقاد من الصدور ; ولما ركب سفينته الى أنجلترا أرسل رسالته الأخيرة الى صلاح الدين يتحداه , ويتوعده بأنه سيعود بعد ثلاثة سنين ويستولى على بيت المقدس
.وأجابه صلاح الدين بأنه اذا كان لابد أن تقطع يديه فأنه يفضا ان يقطعها رتشرد " الأنكتار "لا اى رجل سواه.<39>.وبعد فأن أعتدال الى صلاح الدين , وصبره وعدله قد غلبت
بهاء رتشرد , وشجاعته , ومهارته الحربية ; كما غلب المسلمون بفضل أخلاص زعمائهم ووحدتهم الزعماء الأقطاعيين المنقسمين على انفسهم ,والذين يعوزهم الولاء للغرض
والأخلاص فى المقصد ; وكان قصر خط التموين من وراء المسلمين أعظم فائدة من سيطرة المسيحيين على البحار . وكانت الفضائل والأخطاء المسيحية أبرز من السلطان منها
فى الملك المسيحى ;فقد كان صلاح الدين مستمسكا بدينه الى ابعد حد , وأجاز لنفسه أن يقسوا أشد القسوة على فرسان المعبد والمستشفى ; ولكنه فى العادة شفيقا بالضعفاء ,
ورحيما بالمستضعيفين يسمو على اعدائه فى وفائه بوعده سموا جعل المؤرخين المسحيين يعجبون كيف يخلق الدين الأسلامى "الخاطئ " فى ظنهم يصل فى العظيمة الى هذا الحد .
وكان يعامل خدمه أرق معاملة , ويستمع بنفسه الى مطالب الشعب جميعها , وكانت قيسمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب .ولم يترك خزانته الخاصة بعد موته ألا دينارآ واحدآ<40>.
وقد ترك لابن الظاهر قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها اى فلسفة مسيحيية :
"اوصيك بتقوى الله تعالى فأنها رأى كل خير ;وأمرك بما أمر الله به فأنه سبب نجاتك ;وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها , فان الدم لا ينام أبدآ ;وأوصيك بحفظ قلوب
الرعية والنظر فى أحوالهم , فأنت أمينى وأمين الله عليهم ;وأوصيك بحفظ قلوب الامراء وأرباب الدولة والأكابر , فما بلغت ما بلغت الا بمدرارة الناس . ولا تحقد على احدآ فأن الموت
لايبقى على احد ; ,احذر ما بينك وبين الناس فأنه لا يغفر الا برضاهم , وما بينك وبين الله يغفره بتوبتك اليه فأنه كريم .
ومات -رحمه الله - فى عام سنة 1193 م ولم تتجاوز سنة الخامسة والخمسين.
المفضلات