
-
واقع الحروب الإسلامية في التاريخ
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإسلام لم يكن في تشريعه إنسانياً رحيماً يتوخى خير الإنسانية وإقامة السلام فحسب، بل كان في واقعه التاريخي كذلك، وهنا يبدو الفرق بينه وبين غيره من دعاة الإنسانية في السلم، فلقد عهدنا شرائع دائماً تعلن للناس أصدق آيات البر والخير والرحمة في تشريعها وفلسفتها وأدبها، حتى إذا حكمت نسيت ذلك كله، وانقلبت إلى أبشع صور الحقد والقسوة والاستهزاء بحقوق الشعوب، والإمعان في سفك الدماء وإثارة الحروب. ولعل أقرب الأمثلة على ذلك في العصر الحديث، التناقض الواضح بين مبادئ الثورة الفرنسية، وبين أعمال الفرنسيين في البلاد الواقعة تحت حكمهم كبلاد الشمال الإفريقي العربي، التي ذاقت وما تزال تذوق أمرّ صنوف الاضطهاد والعسف والإذلال والنكال. ومثل ذلك يقال في الدول الكبرى التي أعلنت شرعة حقوق الإنسان في هيئة الأمم، ثم هي اليوم أول من يدوس حقوق الإنسان، ويعتدي على حرياته وكرامته وسيادته على أرضه ومقدراته. فالفرق شاسع جداً بين موقفهم التشريعي من السلم والعدالة وبين واقعهم التاريخي المليء بالفواجع والظلم والاستعباد.
أما الإسلام فلا يشك كل من درس تاريخه الحربي بإنصاف وتجرُّد أن حروبه امتازت في التاريخ بالميزات التالية:
1- أنها كانت دفاعية لرد عدوان، أو دفع أذى، أو احتفاظ بسيادة الأمة ضد أعدائها المتألبين عليها... وهذه حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا حروباً دفاعية لم يتوخَّ فيها إلا تحقيق الحرية الدينية التي أباها المشركون العرب على المؤمنين الجدد.
ثم كانت بعد ذلك حروب الردة في عهد الخليفة الأول، وهي ليست إلا دفاعاً عن كيان الدولة الذي قرر المرتدون أن ينقضوا عليه ويجعلوه أثراً بعد عين، ثم جاءت بعد ذلك حروب فارس والروم، أما الروم فقد كانت حروبنا معهم جواباً على ما بيّنوا من شر للدين الجديد، حتى أخذوا يؤلبون القبائل العربية المتاخمة لحدود الشام والحجاز على إخوانهم من أبناء الدين الجديد، وأما فارس فلقد كانت حروبنا معهم دفاعاً عن الكيان الجديد أيضاً، وإحباطاً لما بيتوا من شر في تأييد المرتدين وإمدادهم بالمال والسلاح، وحماية المرتدين الفارين من وجه الجيوش الإسلامية إلى سواد العراق.. وهكذا كانت الحروب التي بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وبدأها المسلمون مع فارس والروم، تتسم بسمة الدفاع لا العدوان، وما استمرارها بعد ذلك في سائر أنحاء الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية إلا امتداد طبيعي لم يكن من سبيل لإيقافه.
2- أنها كانت تحررية تتوخى تحرير الشعوب من طغاتها الظالمين، ومن أوضاعها الدينية والاجتماعية السيئة، فلقد قضت على تحكم الملوك في شؤون شعوبهم، تحكماً يزج بهم في كل حرب يريدها هؤلاء الملوك دون أن تكون للشعوب منفعة منها أو رأي في إيقادها.. وقضت على الحق الذي كان يزعمه الملوك والرؤساء لأنفسهم من أن مشيئتهم هي مشيئة الله وأن الخضوع لهم خضوع لله. بل رأينا الشعب ينظر إلى رؤسائه على أنهم أُجراؤه ووكلاؤه، "دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل أيها الأمير.. وأعادوا عليه القول فأعاد نداء معاوية بالأجير، حتى قال لهم معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول، فقال: يا معاوية! إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هَنَأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخرها، وفَّاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تفعل ذلك عاقبك سيدها"[1]!..
وإنك لتلمح في قول الرجل لعمر بن الخطاب على ملأ من الناس: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا" وفي قول آخر له: "لا نسمع ولا نطيع" حين رأى عليه ثوباً لم يعلم مصدره بل ظن أنه من مال الدولة، وفي موقف عمر منهما إذ لم يغضب من الأول، ولم يترفع عن بيان مصدر ثوبه للثاني.. إنك لتلمح في هذا كله روحاً جديدة في الشعوب، كانت وليدة الحرب الإسلامية التي انتصرت فأقامت أفضل أنواع الحكم الشعبي وأحكمه وأقربه إلى طبيعة الشعوب ونفسيات الجماهير.
بل إنكم لترون في قصة القبطي الذي ضرب ولدُ عمر بن العاص ولدَه، وشكواه ذلك إلى أمير المؤمنين له، مثلاً رائعاً من تحرر الشعوب لا نعلم له مثيلاً قبل الإسلام.. فهذا القبطي كان من أمة مغلوبة على أمرها قبل أن يفتح المسلمون مصر، وكان الروم يذلون كرامتها، ويستلبون أموالها، ويلهبون بالسياط ظهور رجالها ونسائها، ويتدخلون في حريتها الدينية ومذاهبها الكنسية، ولم يكن يرتفع لأحد منها صوت إنكار هذا الظلم أو التململ منه، فلما جاء الإسلام تفتح وعي الشعب المصري حتى اعتبر هذا القبطي أن ضرب ولد صغير – وهو ولد الحاكم – لولد صغير من أبناء المحكومين، من غير ذنب جناه الولد المضروب، ظلماً لا ينبغي السكوت عنه، فليهاجر من أجل شكواه شهراً كاملاً على ظهور الإبل، وليطلب من رئيس الدولة الأول – عمر بن الخطاب –أن يرفع هذا الظلم الذي جاءت الحروب الإسلامية للقضاء عليه ولتحرير الشعوب منه، وكان عمر عند ظن هذا الرجل، فارتاع لشكايته، واستقدم حاكم مصر وابنه، وحاكمهما وقضى على ولد عمرو أن يضربه الولد القبطي على رأسه ضرباً موجعاً أمام الجمهور.. ثم لم يكتف بذلك بل أمر أن يوضع السوط على رأس عمرو، وخاطبه بتلك الكلمات الخالدة: " متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟".
ألا إن ضرب ولد صغير لآخر مثله، يقع كل يوم في كل بلدة، لا بين ولدي الحاكم والمحكوم فحسب، بل بين أبناء الجيران، بل بين الإخوة الأشقاء في بيت واحد، ولا يخطر في بال أحد أن هذا يجب أن يهتم له رئيس الدولة بنفسه، وأن يعاقب الولد الضارب وأباه على ملأ من رجال الدولة وأعيانها.. ولكن ذلك وقع في الإسلام حيث يحرر الشعب من كل عبودية ظالمة.. ومن العبودية في نظر الإسلام أن يستطيل ولد الحاكم على أولاد الشعب فيضربهم معتزاً بسطوة أبيه وحكمه: "أنا ابن الأكرمين".
إن ضرب ولد لولد آخر من غير حق ظلم في الإسلام واستعباد! أي تحرير للشعوب، وأي حفاظ على كرامتها وحقها في الحرية أكثر من هذا وأكبر؟.. وأين من هذا ظلم شعب بأسره وإجلاؤه عن أرضه، وتشريده ليموت فريسة الجوع والمرض والبرد، أين من هذا ما فعله رئيس دولة كترومان في شعب فلسطين العربي المسالم؟. وأين من هذا استهزاء ترومان بشكوى مليون لاجئ, وإعراض ستين دولة في الأرض – هيئة الأمم – عن أن تصغي لشكاة شعب مظلوم وأن تصنفه وأن ترد له أرضه وحريته ؟!.
إن عمر أكرم في نظر التاريخ وأبر بالإنسانية وأرقى للشعوب حين أنصف ولداً مضروباً وردّ له كرامته وأنصفه في ظلامته، من ترومان حين هزئ بدموع مليون شردهم ترومان عن بلادهم، وأسكن فيها أفَّاقين من شعوب الأرض معتدين ظالمين.. وإن الحروب الإسلامية حين تبث في الشعوب روح التحرر من الظلم – ولو كان ضرباً من ولد صغير – وحين تجبر الحاكم على أن يرد هذا الظلم وينكره، أرحم بالإنسانية وأجدى عليها، من حروب تعلن أنها لتحرير الشعوب، وتمكين المستضعفين من حريتهم واستقلالهم.. ثم لا تنتهي هذه الحروب – كما حصل في الحربين العالميتين – إلا بازدياد الظلم الواقع على الأمم، وبتقسيم بلادها، وإمعان الأقوياء في سفك دمائها، وسلب أموالها وكرامتها، كما تفعل فرنسا اليوم في أفريقيا العربية، وكما تفعل إنكلترا في مصر، وأمريكا في إيران.. وكما فعلت إنكلترا وأمريكا وفرنسا وروسيا وبضع خمسون دولة أخرى حين أقروا قيام إسرائيل في قلب بلاد العرب على جثث ضحاياهم وشهدائهم...
3- أنها كانت أخلاقية .. تقيدت بمبادئ الحق والعدالة والرحمة مع المغلوبين والمحاربين حتى بعد انتصارها وحكمها .. وإنا لنقرأ التاريخ كله فلا نجد فيه مثل هذه الحادثة التالية:
"لما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز وفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر – بغير حق – فكتب عمر إلى عامله أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أُخرجوا، فنصب لهم "جميع بن حاضر الباجي" قاضياً ينظر في شكواهم، فحكم القاضي بإخراج المسلمين، على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك، وينابذهم وفقاً لمبادئ الحرب في الإسلام. حتى يكون أهل سمرقند على استعداد لقتال المسلمين فلا يؤخذوا بغتة، ولكن أهل سمرقند كرهوا الحرب وأقروا المسلمين فأقاموا بين أظهرهم"[2].
جيشٌ غالبٌ يدخل مدينة فيحكم عليه قاضي الدولة بالخروج لأنه دخل بغير حق. ويخضع الجيش للحكم فيخرج، ولا يدخلها بعد ذلك إلا أن يرضى أهلها!! هذا أروع ما رواه التاريخ من تقيد حربٍ بمبادئ الأخلاق والحق والعدالة، ولا أعلم في الدنيا كلها مثل هذا الموقف لأمة من أمم الأرض.. ولا في حرب من حروب التاريخ..
4- أنها كانت إنسانية .. لا لمصلحة قوم ولا أمة ولا جنس بل كانت لمصلحة أمم العالم كلها، فاتسع صدرها – بعد النصر – لجميع شعوب العالم، واستفادت من كل حضارات العالم، وأظلت للوائها أمماً وشعوباً متباينة اللغات والعادات، مختلفة الأعراق والديانات، ولعل الحروب الإسلامية هي الحروب الوحيدة التي أقامت بعد انتصارها حضارة اشترك في بنائها كل شعوب الأرض.. وهل كانت الإنسانية تنعم بثمار الفكر العبقري لعظماء الإسلام الخالدين، كأبي حنيفة وابن سينا والفارابي والغزالي – وهم من أصل غير عربي – لولا حروب الإسلام وفتوحاته؟!.
[1] السياسة الشرعية: 10.
[2] فتوح البلدان للبلاذري: 428
اللهم نصرك لغزة الذي وعدت
-
واقع الحروب الإسلامية في التاريخ
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإسلام لم يكن في تشريعه إنسانياً رحيماً يتوخى خير الإنسانية وإقامة السلام فحسب، بل كان في واقعه التاريخي كذلك، وهنا يبدو الفرق بينه وبين غيره من دعاة الإنسانية في السلم، فلقد عهدنا شرائع دائماً تعلن للناس أصدق آيات البر والخير والرحمة في تشريعها وفلسفتها وأدبها، حتى إذا حكمت نسيت ذلك كله، وانقلبت إلى أبشع صور الحقد والقسوة والاستهزاء بحقوق الشعوب، والإمعان في سفك الدماء وإثارة الحروب. ولعل أقرب الأمثلة على ذلك في العصر الحديث، التناقض الواضح بين مبادئ الثورة الفرنسية، وبين أعمال الفرنسيين في البلاد الواقعة تحت حكمهم كبلاد الشمال الإفريقي العربي، التي ذاقت وما تزال تذوق أمرّ صنوف الاضطهاد والعسف والإذلال والنكال. ومثل ذلك يقال في الدول الكبرى التي أعلنت شرعة حقوق الإنسان في هيئة الأمم، ثم هي اليوم أول من يدوس حقوق الإنسان، ويعتدي على حرياته وكرامته وسيادته على أرضه ومقدراته. فالفرق شاسع جداً بين موقفهم التشريعي من السلم والعدالة وبين واقعهم التاريخي المليء بالفواجع والظلم والاستعباد.
أما الإسلام فلا يشك كل من درس تاريخه الحربي بإنصاف وتجرُّد أن حروبه امتازت في التاريخ بالميزات التالية:
1- أنها كانت دفاعية لرد عدوان، أو دفع أذى، أو احتفاظ بسيادة الأمة ضد أعدائها المتألبين عليها... وهذه حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا حروباً دفاعية لم يتوخَّ فيها إلا تحقيق الحرية الدينية التي أباها المشركون العرب على المؤمنين الجدد.
ثم كانت بعد ذلك حروب الردة في عهد الخليفة الأول، وهي ليست إلا دفاعاً عن كيان الدولة الذي قرر المرتدون أن ينقضوا عليه ويجعلوه أثراً بعد عين، ثم جاءت بعد ذلك حروب فارس والروم، أما الروم فقد كانت حروبنا معهم جواباً على ما بيّنوا من شر للدين الجديد، حتى أخذوا يؤلبون القبائل العربية المتاخمة لحدود الشام والحجاز على إخوانهم من أبناء الدين الجديد، وأما فارس فلقد كانت حروبنا معهم دفاعاً عن الكيان الجديد أيضاً، وإحباطاً لما بيتوا من شر في تأييد المرتدين وإمدادهم بالمال والسلاح، وحماية المرتدين الفارين من وجه الجيوش الإسلامية إلى سواد العراق.. وهكذا كانت الحروب التي بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وبدأها المسلمون مع فارس والروم، تتسم بسمة الدفاع لا العدوان، وما استمرارها بعد ذلك في سائر أنحاء الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية إلا امتداد طبيعي لم يكن من سبيل لإيقافه.
2- أنها كانت تحررية تتوخى تحرير الشعوب من طغاتها الظالمين، ومن أوضاعها الدينية والاجتماعية السيئة، فلقد قضت على تحكم الملوك في شؤون شعوبهم، تحكماً يزج بهم في كل حرب يريدها هؤلاء الملوك دون أن تكون للشعوب منفعة منها أو رأي في إيقادها.. وقضت على الحق الذي كان يزعمه الملوك والرؤساء لأنفسهم من أن مشيئتهم هي مشيئة الله وأن الخضوع لهم خضوع لله. بل رأينا الشعب ينظر إلى رؤسائه على أنهم أُجراؤه ووكلاؤه، "دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل أيها الأمير.. وأعادوا عليه القول فأعاد نداء معاوية بالأجير، حتى قال لهم معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول، فقال: يا معاوية! إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هَنَأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخرها، وفَّاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تفعل ذلك عاقبك سيدها"[1]!..
وإنك لتلمح في قول الرجل لعمر بن الخطاب على ملأ من الناس: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا" وفي قول آخر له: "لا نسمع ولا نطيع" حين رأى عليه ثوباً لم يعلم مصدره بل ظن أنه من مال الدولة، وفي موقف عمر منهما إذ لم يغضب من الأول، ولم يترفع عن بيان مصدر ثوبه للثاني.. إنك لتلمح في هذا كله روحاً جديدة في الشعوب، كانت وليدة الحرب الإسلامية التي انتصرت فأقامت أفضل أنواع الحكم الشعبي وأحكمه وأقربه إلى طبيعة الشعوب ونفسيات الجماهير.
بل إنكم لترون في قصة القبطي الذي ضرب ولدُ عمر بن العاص ولدَه، وشكواه ذلك إلى أمير المؤمنين له، مثلاً رائعاً من تحرر الشعوب لا نعلم له مثيلاً قبل الإسلام.. فهذا القبطي كان من أمة مغلوبة على أمرها قبل أن يفتح المسلمون مصر، وكان الروم يذلون كرامتها، ويستلبون أموالها، ويلهبون بالسياط ظهور رجالها ونسائها، ويتدخلون في حريتها الدينية ومذاهبها الكنسية، ولم يكن يرتفع لأحد منها صوت إنكار هذا الظلم أو التململ منه، فلما جاء الإسلام تفتح وعي الشعب المصري حتى اعتبر هذا القبطي أن ضرب ولد صغير – وهو ولد الحاكم – لولد صغير من أبناء المحكومين، من غير ذنب جناه الولد المضروب، ظلماً لا ينبغي السكوت عنه، فليهاجر من أجل شكواه شهراً كاملاً على ظهور الإبل، وليطلب من رئيس الدولة الأول – عمر بن الخطاب –أن يرفع هذا الظلم الذي جاءت الحروب الإسلامية للقضاء عليه ولتحرير الشعوب منه، وكان عمر عند ظن هذا الرجل، فارتاع لشكايته، واستقدم حاكم مصر وابنه، وحاكمهما وقضى على ولد عمرو أن يضربه الولد القبطي على رأسه ضرباً موجعاً أمام الجمهور.. ثم لم يكتف بذلك بل أمر أن يوضع السوط على رأس عمرو، وخاطبه بتلك الكلمات الخالدة: " متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟".
ألا إن ضرب ولد صغير لآخر مثله، يقع كل يوم في كل بلدة، لا بين ولدي الحاكم والمحكوم فحسب، بل بين أبناء الجيران، بل بين الإخوة الأشقاء في بيت واحد، ولا يخطر في بال أحد أن هذا يجب أن يهتم له رئيس الدولة بنفسه، وأن يعاقب الولد الضارب وأباه على ملأ من رجال الدولة وأعيانها.. ولكن ذلك وقع في الإسلام حيث يحرر الشعب من كل عبودية ظالمة.. ومن العبودية في نظر الإسلام أن يستطيل ولد الحاكم على أولاد الشعب فيضربهم معتزاً بسطوة أبيه وحكمه: "أنا ابن الأكرمين".
إن ضرب ولد لولد آخر من غير حق ظلم في الإسلام واستعباد! أي تحرير للشعوب، وأي حفاظ على كرامتها وحقها في الحرية أكثر من هذا وأكبر؟.. وأين من هذا ظلم شعب بأسره وإجلاؤه عن أرضه، وتشريده ليموت فريسة الجوع والمرض والبرد، أين من هذا ما فعله رئيس دولة كترومان في شعب فلسطين العربي المسالم؟. وأين من هذا استهزاء ترومان بشكوى مليون لاجئ, وإعراض ستين دولة في الأرض – هيئة الأمم – عن أن تصغي لشكاة شعب مظلوم وأن تصنفه وأن ترد له أرضه وحريته ؟!.
إن عمر أكرم في نظر التاريخ وأبر بالإنسانية وأرقى للشعوب حين أنصف ولداً مضروباً وردّ له كرامته وأنصفه في ظلامته، من ترومان حين هزئ بدموع مليون شردهم ترومان عن بلادهم، وأسكن فيها أفَّاقين من شعوب الأرض معتدين ظالمين.. وإن الحروب الإسلامية حين تبث في الشعوب روح التحرر من الظلم – ولو كان ضرباً من ولد صغير – وحين تجبر الحاكم على أن يرد هذا الظلم وينكره، أرحم بالإنسانية وأجدى عليها، من حروب تعلن أنها لتحرير الشعوب، وتمكين المستضعفين من حريتهم واستقلالهم.. ثم لا تنتهي هذه الحروب – كما حصل في الحربين العالميتين – إلا بازدياد الظلم الواقع على الأمم، وبتقسيم بلادها، وإمعان الأقوياء في سفك دمائها، وسلب أموالها وكرامتها، كما تفعل فرنسا اليوم في أفريقيا العربية، وكما تفعل إنكلترا في مصر، وأمريكا في إيران.. وكما فعلت إنكلترا وأمريكا وفرنسا وروسيا وبضع خمسون دولة أخرى حين أقروا قيام إسرائيل في قلب بلاد العرب على جثث ضحاياهم وشهدائهم...
3- أنها كانت أخلاقية .. تقيدت بمبادئ الحق والعدالة والرحمة مع المغلوبين والمحاربين حتى بعد انتصارها وحكمها .. وإنا لنقرأ التاريخ كله فلا نجد فيه مثل هذه الحادثة التالية:
"لما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز وفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر – بغير حق – فكتب عمر إلى عامله أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أُخرجوا، فنصب لهم "جميع بن حاضر الباجي" قاضياً ينظر في شكواهم، فحكم القاضي بإخراج المسلمين، على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك، وينابذهم وفقاً لمبادئ الحرب في الإسلام. حتى يكون أهل سمرقند على استعداد لقتال المسلمين فلا يؤخذوا بغتة، ولكن أهل سمرقند كرهوا الحرب وأقروا المسلمين فأقاموا بين أظهرهم"[2].
جيشٌ غالبٌ يدخل مدينة فيحكم عليه قاضي الدولة بالخروج لأنه دخل بغير حق. ويخضع الجيش للحكم فيخرج، ولا يدخلها بعد ذلك إلا أن يرضى أهلها!! هذا أروع ما رواه التاريخ من تقيد حربٍ بمبادئ الأخلاق والحق والعدالة، ولا أعلم في الدنيا كلها مثل هذا الموقف لأمة من أمم الأرض.. ولا في حرب من حروب التاريخ..
4- أنها كانت إنسانية .. لا لمصلحة قوم ولا أمة ولا جنس بل كانت لمصلحة أمم العالم كلها، فاتسع صدرها – بعد النصر – لجميع شعوب العالم، واستفادت من كل حضارات العالم، وأظلت للوائها أمماً وشعوباً متباينة اللغات والعادات، مختلفة الأعراق والديانات، ولعل الحروب الإسلامية هي الحروب الوحيدة التي أقامت بعد انتصارها حضارة اشترك في بنائها كل شعوب الأرض.. وهل كانت الإنسانية تنعم بثمار الفكر العبقري لعظماء الإسلام الخالدين، كأبي حنيفة وابن سينا والفارابي والغزالي – وهم من أصل غير عربي – لولا حروب الإسلام وفتوحاته؟!.
[1] السياسة الشرعية: 10.
[2] فتوح البلدان للبلاذري: 428
اللهم نصرك لغزة الذي وعدت
-
الخاتمة
هذه – أيها السادة – هي أهم ما تتميز به الحروب الإسلامية في واقعها التاريخي، وبذلك استطاع الإسلام لأول مرة في التاريخ، أن ينشئ جيلاً ممتازاً في حب السلم والعمل له، وكره الحرب والابتعاد عنها إلا أن لا يكون منها مفر، وحينئذ لا ينسى أخلاقه ولا إنسانيته ولا روحه المسالمة المتسامحة مع أشد أعدائه لدداً وخصومة. إن نجاح الإسلام في ذلك نجاح منقطع النظير، وسر هذا فيما أعتقد أنه أحاط المسلم بجو سلمي في نفسه وفي بيته وفي جواره وفي مجتمعه، وانتزع من نفسه كل عوامل الشر ومطامع الغلبة والاستعلاء، وجعل العبادة هي المدرسة الأولى التي تربيه على حب السلم والتعاون مع الناس، حتى إذا اضطر إلى خوض غمار الحرب دفاعاً عن عقيدة، أو ذوداً عن حرمة، أو تحريراً لجماعة من طغيان الظالمين استبداد المتكبرين، رأى الناس فيه أسداً لا يعبأ بالموت ولا يبالي بالجراح، وله مع هذا رقة الموادعين وهدوء المسالمين، وسماحة المترفعين عن الأحقاد والضغائن..
وما أحوج الإنسانية اليوم إلى مثل هذه التربية التي ربى عليها الإسلام أبناءه، فكان لهم طهر الأنبياء، وبراءة الملائكة، وحمية الأبطال! ذلك أن الذين ينادون بالسلم من كلا المعسكرين المتحاربين اليوم، قد فقدوا السلم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي مجتمعاتهم، ففي أنفسهم معركة قائمة بين الأطماع والشهوات، وبين العقل والقلب، وفي بيوتهم نار مشتعلة تشب من اختلال التوازن بين الحقوق والواجبات: بين الرجل وبين المرأة، وبين الوالد وبين الولد. وفي مجتمعاتهم أحقاد موروثة، وضغائن مكبوتة، ومظالم اجتماعية تعمل عملها في إثارة الأعصاب واشتجار العداوات.. وهكذا يعيشون في حرب قبل أن يخوضوا الحرب، ويفقدون أثر السلم عندهم وهم يدعون إليه غيرهم، ويتظاهرون بالرغبة في إقرار السلام وهم يثيرون العداوات، ويدوسون الحرمات، ويتنازعون على استلاب ثروات الأمم وتقرير مصائر الشعوب.. ولذلك فهم دائماً وأبداًَ يعملون عمل المحاربين وإن تظاهروا بسيما المسالمين...
إن من فقد السلام في نفسه ومجتمعه أعجز من أن يعطي السلام لبلد غير بلده ولشعب غير شعبه، ولولا أن قادة الأمم القوية اليوم يعيشون في جو محموم مسموم داخل أنفسهم وبلادهم لاستطاعوا أن يجنِّبوا العالم خطر حربين عالميتين وطلائع حرب ثالثة قد لا تبقي على عالم الحضارة ولا تذر.. فهل يفتش ساسة العالم وفلاسفته وزعماء الإصلاح فيه عن شريعة تهديهم إلى السلم وتجنب أممهم والعالم ويلات الحروب؟ هل يفتشون عن ذلك في شريعة عملية كالإسلام تعطي السلم من نفوس عبدت الله الرحيم السلام، وجعلت تحيتها فيما بينها الرحمة والسلام، وهفت بأرواحها إلى المقام في الجنة دار السلام؟!. هل لهم أن يشاهدوا مؤتمر السلام العالمي الخالص لوجه الله، البالغ الأثر في خدمة الإنسانية.. في موسم كموسم الحج، يجتمع فيه الوافدون من مختلف بقاع الأرض ينشدون السلام في بيت السلام، في سموّ القديسين والشهداء، وفي أخلاق الرسل والأنبياء ?فلا رفث ولا فسوق ولا جدال?؟ هل لهم أن يشاهدوا مثل هذا المؤتمر الرباني في بقعة نائية من الأرض، وقد انتزع من قلوب الناس عوامل الحروب والفتن والخصومات ثم أعادهم إلى أوطانهم دعاة أمن، وحملة هدى، ورسل سلام، هل لهم أن يروا بأعينهم في مثل هذا المؤتمر العالمي الإلهي للسلام، قدرة الإسلام على خلق السلام في نفوس الناس، حتى ليجمعهم على صعيد الأخوة الكريمة المتعاونة الطاهرة مع اختلافهم في الألوان واللغات والأوطان؟..
يرحم الله برنارد شو ما كان أنصفه وأصدقه حين قال[1]: "إن محمداً يجب أن يدعى منقذ الإنسانية، ولو أن رجلاً مثله تولى قيادة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته بطريقة تجلب إلى العالم السلام والسعادة اللذين هو في أشد الحاجة إليهما".
اللهم أنت السلام, ومنك السلام وإليك يعود السلام، فحيّنا ربنا بالسلام.
[1] من رسالة له بالإنجليزية "نداء للعمل": مجلة الأزهر: الجزء العاشر من السنة الرابعة ص 720.
اللهم نصرك لغزة الذي وعدت
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة الشهاب الثاقب. في المنتدى استفسارات غير المسلمين عن الإسلام
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 11-10-2023, 01:34 PM
-
بواسطة أسد الإسلام في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 23-09-2015, 12:20 PM
-
بواسطة فداء الرسول في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 21-12-2012, 11:42 AM
-
بواسطة Abou Anass في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 15-01-2011, 11:02 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات