6- الفكر مع التسبيح يقوى في القلب ذكر الآخرة :
الإنسان ما دام يحيا في الدنيا لا ينفك عن همومها لأنه يحيا فيها بجسده وهذا الجسد له مطالب .. وتلبية هذه المطالب تستدعي حركة وسعي ، وكل من قصد شيئاً اهتم به .. ومن هنا لا ينفك إنسان عن هموم الحياة
ولأن الإنسان لم يُخلق للدنيا وإنما خُلق للآخرة فلابد أن يتحرك لآخرته ويسعى لتحقيق سعادته فيها وهذا يقتضي أن يحمل هم آخرته.
فكيف يعيش الإنسان في الدنيا وهو محمل بهموم المعاش ومع ذلك لا يغفل عن آخرته ؟
إن من الوسائل التى تكفل للإنسان عدم الغفلة عن آخرته والانشغال عنها بهموم الدنيا هي :
أن يستدعي الفكر ويديم الذكر بحقيقة وجوده في الدنيا وانتقاله إلى الآخرة وحتمية وجود حساب وجزاء , فكلما نظر إلى الكون ومعطيات الحياة التى سخرها الله له ثم تفكر في حكمة هذا الوجود وهذه النعم وذاك التسخير .. أدرك أنه لا محالة محاسب ومجازى على ما قدم , وإلا فان خلقه وتكريمه وتسخير الكون له سيكون مجرد عبث ولهو إن لم يتبعه بعث وحساب وجزاء .
وطالما أنه ينزه ربه عن العبث واللهو وأن يخلق شيئا سُدى بغير حكمة فسوف يظل مؤمناً بالجزاء ذاكراً له كلما رأى نعم الله تحيطه ومعطيات الكون تخدمه وكل شيء مسخر له.
والإنسان قد يؤمن بحقيقة ولكنه ينساها , فكثيراً منا يؤمن بحقيقة وجوده في الدنيا وأنه مبتلى فيها ومفارق لها بالموت ومنتقل إلى الآخرة للحساب والجزاء , ولكنه حين ينسى هذه الحقيقة ويزداد نسيانه وغفلته حتى تصبح الدنيا أكبر همه ويتضاءل هم الآخرة فيصبح وكأنه ناكراً مكذباً لها.
فانه بذلك النسيان والانشغال عن آخرته صار بلسان حاله متهماً لربه بعدم الحكمة من خلقه , والعاقل لا يتصور أبدا أن يعيش الناس في الدنيا على اختلاف عقولهم وقلوبهم وأعمالهم بين مؤمن وكافر وظالم ومظلوم وفاعل للخير وفاعل للشر ثم تنتهي الحياة بموتهم جميعا ويفنى وجودهم إلى الأبد فلا يتبع حياتهم حياة أخرى وبذلك يستوي من عاش كريماً ومن عاش لئيماً ومن فعل الخيرات مع من فعل المنكرات ولا يكون هناك فرق بين من آمن بالله وأطاعه وبين من كفر به وعصاه ولا يحاسب الظالم على ظلمه ولا يعاقب الفاجر ولا يكافئ البار
إن عقلك يرفض هذا التصور تماما .. ومع ذلك فأنت حين تعيش في الدنيا ولا تُدخل الآخرة في حساباتك أصبحت بذلك مقراً لهذا التصور ومصدقاً له بعملك .
فالغفلة عن الآخرة هي في الحقيقة استبعاد لها وإذا زادت هذه الغفلة صارت إنكاراً , فكما أن هناك من ينكر الآخرة بلسانه قائلاً لا بعث ولا حساب فإن هناك من يقر بلسانه وينكر بحاله , لذلك كثر خطاب الله تعالى في القرآن لعباده بمثل هذا الخطاب :
- ( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) " القيامة:36 "
أي مهملاً دون أمر أو نهي ، وقيل : أي بدون جزاء وعقاب
- وقال ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) " المؤمنون :115"
- وقال ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) " ص :28 "
فكل من شهد لله وأقر له بالكمال المطلق والحكمة في أفعاله وأحكامه وأنه لم يخلق الناس سدى وإنما خلقهم ليعبدوه ويعيدهم إليه ليجازيهم فلا ينبغي أن ينشغل عن هذا اليوم.
ولأن الإنسان له أعداء كُثر يدفعونه دفعا ًلينغمس في هموم الدنيا وملذاتها غمساً يحيط عقله وقلبه بحجاب يحجزه عن الفكر في آخرته , فعليه أن يقوي ذكر الآخرة في قلبه بالتفكر في هذا الكون الواسع البديع بسمواته وأرضه وشموسه وأقماره ونظامه وقوانينه وكل معطياته, فيتفكر في كل نعم الله التى سخرها له ثم ينزه ربّه أن يصدر منه شيء بدون حكمة وينزه أفعاله عن العبث واللهو وينزهه عن الظلم ومساواة من أطاعه بمن عصاه وبهذا الفكر وهذا التنزيه يوقن بوجود حساب وجزاء
فكلما حركت فكرك في كل شيء حولك ازددت يقيناً بأنك مسئول ومحاسب ومجازى لأنه لا يمكن أن يوجدك الله على هذه الخلقة البديعة في أحسن تقويم ويسخر لك كل ما في الكون ثم لا تكون مُطالب بعمل ومسئول عن نتيجة وإلا كان كل ذلك الإيجاد والإمداد هباءاً ولا فائدة منه , والله منزه عن ذلك
يقول تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ) (الدخان : 38)
ويقول : ( مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ )
(الدخان : 39)
والحق أنه خلقك لهدف وغاية , خلقك لعبادته , والحق أن لك وظيفة لابد أن تقوم بها وسوف تحاسب عليها , الحق أن هناك أمر ونهي وثواب وعقاب ...
فالفكر مع التنزيه يقوى إيمانك بالآخرة ويُشغل قلبك بها خوفاً ورجاءاً
* وقد جاءتك الآيات في آل عمران تحكي عن أصحاب العقول السليمة بأنهم يتفكرون في مخلوقات الله وما فيها من عجائب ومبتدعات ويستشعرون عظمة الله في قلوبهم وأنه لم يخلق الكون عبثاً وأن هناك ثواباً وعقاباً لذلك سألوه أن يجعلهم من أهل الجنة لا من أهل النار يقول تعالى ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) " آل عمران:191 "
"سُبْحَانَكَ " أي ننزهك عن كل ما لا يليق بعظمتك وجلالك , ننزهك عن أن تكون خلقت الكون بهذا الإبداع عبثا بدون هدف وحكمة ونثبت لك كمال الحكمة التي تقتضي عدم المساواة بين من آمن ومن كفر وبين الأخيار والأشرار ووجود يوم آخر فيه حساب وجزاء
فكان تنزيههم لله تعالى عن العبث واللهو وخلو فعله من الحكمة سبباً لاستدعاء اليقين بالجزاء وانشغال القلب به خوفاً ورجاءاً .
تماماً كالطالب الذي كلما نظر إلى ما أعده له الأب من وسائل المذاكرة التى تمكنه من النجاح منزهاً الأب أن يخلو فعله من الحكمة وأنه لم يفعل ذلك هباءاً ولا سُدى أيقن بأنه مطالب بالمذاكرة ومسئول عن النجاح ومعاقب على الإهمال و الفشل , وكلما تجدد نظره فيما أعده الوالد من معطيات يزداد إحساسه بالمسئولية وخوفه من الرسوب فتنشط نفسه للمذاكرة خوفاً من محاكمة الأب ورغبة في مجازاته .
لذلك كان من دعاء المؤمنين بعد هذا الفكر والتأمل والتنزيه
قالوا ( سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ )
فحيث أيقنوا بحكمة الله في وجود الجزاء مستدلين على ذلك بتنزيهه عما لا يليق به من العبث تضرعوا إليه طالبين النجاة من النار مُقرين أن دخول النار هو غاية الخزي والإهانة بعد هذا التكريم في الدنيا بتسخير هذا الكون البديع لهم.
فلا تغفل عن النظر لنعم الله حولك .. ولا تغفل عن تنزيهه كلما نظرت وقل } ما أنعم الله عليّ بكل هذه النعم هباءاً ولا سُدى- سبحانه- وإنما فعل ذلك لحكمة ( لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) النمل
ونزه ربّك عن أن يخلف وعده فهو لابد أن يبعثك بعد موتك ويحاسبك ليجازيك ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) " الزلزلة "
* وقد وصف الله المؤمنون الموقنون بوعده ووعيده فقال ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ) (الإسراء:107) ، ويقولون (حال سجودهم ) ( سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ) أي ننزه ربنا أن يخلف وعده بل نثبت له الكمال الذي يقتضي تحقيق وعده وانجازه
أما الذين لم يعرفوا الله تعالى بالكمال المطلق في قدرته وحكمته وأفعاله شكُّوا في البعث واستعجلوا الساعة
قال تعالى ( أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (النحل:1)
فأخبر سبحانه أن هذا الاستعجال بسبب عدم تنزيههم لله تعالى فهم نسبوا لله ما لا يليق من العجز عن تحقيق وعده , فكان شكهم في قدرة الله على إحياء الموتى والبعث والحساب سبب سخريتهم واستعجالهم العذاب لذلك قال تعالى : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي ننزه الله تعالى عن إشراكهم المؤدي إلى صدور هذا الاستهزاء والسخرية والتكذيب منهم
* وفي سورة يس حكى القرآن إنكار المشركين للبعث واستقصارهم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى في قوله تعالى ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ )
فكان الرد عليهم ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) إلى قوله ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
أي تنزيهاً لله تعالى عما يصفونه من العجز عن إحياء الموتى فهو المالك لكل شيء المتصرف في ملكه فإعادتهم وبعثهم بعد موتهم ليجازيهم من تمام ملكه ولهذا قال ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) من غير شك وبلا صعوبة
المفضلات