حقيقة الحياة الدنيا كتاب رائع جدا

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

بالصور: الكاتب المسيحى (روبير الفارس) يثبت احتيال رجال الكنيسه و ينسف خرافه معجزاتهم » آخر مشاركة: نيو | == == | فيديو: معجزة بلاغيه قرآنيه مستحيل تكرارها فى اى لغه من اللغات: تكرار حرف الميم 8 مرات متتاليه بدون تنافر!!! » آخر مشاركة: نيو | == == | موثق: من الادله الاركيولوجيه التى تثبت سماحه الاسلام تاريخيا » آخر مشاركة: نيو | == == | الرد على خالد بلكين في مقطعه القران ليس متواترا » آخر مشاركة: محمد سني 1989 | == == | القراءات العشر | المصحف المحفظ بالقراءات العشر » آخر مشاركة: ابو ياسمين دمياطى | == == | الرد على شبهة تضعيف حفص بن سليمان رحمه الله » آخر مشاركة: محمد سني 1989 | == == | موسوعة العقيدة والأديان والفرق والمذاهب المعاصرة - » آخر مشاركة: ابو ياسمين دمياطى | == == | موسوعة الفقه الإسلامي 2 كتاب الكتروني رائع » آخر مشاركة: عادل محمد | == == | الرد على التجسد في الإسلام » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | 1700 فائدة حديثية منتقاة من السلسلة الضعيفة للألباني - جمع وترتيب حسن بن مبارك » آخر مشاركة: ابو ياسمين دمياطى | == == |

مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

حقيقة الحياة الدنيا كتاب رائع جدا

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 24

الموضوع: حقيقة الحياة الدنيا كتاب رائع جدا

  1. #11
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي

    موت الإنسان

    هل انتم تدركون بأنكم في كل يوم تقتربون شيئاً فشيئاً من الموت ؟
    هل تعلمون بأن الموت قريب جدا منكم كباقي البشر ؟


    كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( سورة العنكبوت 57 )

    هذه الآية التي تذكر بأن الذين عاشوا على وجه الأرض والذين يعيشون الآن والذين سيعيشون في الغد دون استثناء قد ماتوا أو سيموتون. ولكن رغم هذه الحقيقة الواضحة، فالغريب أن أكثر الناس يرون أنفسهم بمنأى عن هذه الحقيقة الثابتة.

    دعونا نتأمل هذا المثال لشخصين:الأول يولد ويفتح عينيه ويستقبل الدنيا، والثاني يغمض عينيه للمرة الأخيرة ليودع هذه الدنيا. فلا الوليد الذي ولد استطاع أن يتدخل في ولادته، ولا الشخص الذي مات استطاع التدخل في موته. لأن الله وحده الذي يملك هذه المقدرة والقوة، يخلق من يشاء ويقبض روح من يشاء. فكل البشر خلقوا ليعيشوا لزمن معين، وبعدها سيموتون. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله:

    قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فإنه ملَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(سورة الجمعة 8 )

    فأكثر من الناس لا يرغبون في التفكير في الموت كثيراً، في نفس الوقت نرى انشغال الإنسان بأعماله اليومية يلهيه ويدفعه للتفكير بأشياء أخرى. فأمور مثل: في أي مدرسة سيدرس، وفي أي عمل سيشتغل، ماذا سيلبس، ماذا سيأكل. . . الخ. كل هذه الأشياء تعتبر من أهم القضايا عند معظم الناس، لأنهم يحسبون أن الحياة عبارة عن مثل هذه الأشياء فقط، وعند ذكر الموت أمامهم يحاولون التهرب والاختباء خلف كلمات لا تحمل أي معنى ولا تستطيع منع الموت أو تأخيره فيقولون مثلا: ( ما هذا ؟.. لماذا لا تبدأ كلامك بالخير؟) وهم يقدرون أنهم لن يموتوا إلا بعد وقت طويل من الشيخوخة، أي يحسبون أن هناك مدة لا تقل عن خمسين أو ستين سنة أو حتى أكثر، لذا نراهم لا يشغلون أنفسهم بمثل هذه المواضيع الكئيبة التي تنفر منها نفوسهم، بينما لا يملك أي أحد أي ضمان بأنه سيعيش بعد ثانية واحدة فقط.

    في كل يوم يمكن لكل شخص أن يقرأ كل شخص في الصحف ويرى من خلال شاشات التلفزيون العديد من حوادث الموت وبشكل كثيف, ويشاهد وفاة الأقرباء, ولكنه لا يفكر أنه في يوم ما سيشهد الناس موته ونهاية حياته. وعندما يواجه الإنسان الموت فإن جميع الحقائق والأمور المرتبطة بالحياة ستنهار، ولا يبقى منها شيء. فكروا الآن في حالكم. . . . فتح وغلق أعينكم، القدرة على الحركة في أجسامكم، تكلمكم، ضحككم وبإختصار كل فعالياتكم الحيوية، ولكن حاولوا أن تجسدوا أمام أعينكم منظركم وبأي حال ستكونون عقب وفاتكم.

    ستكونون في وضع لا تقدرون فيه على الحركة حيث ستتمددون وانتم لا تدركون ماذا يجري من حولكم، أما جسدكم الذي هو عبارة عن كتلة من اللحم والعظم فسيحمل من قبل أشخاص آخرين. فبينما يقوم أحدهم بغسل جسدكم لكي يكفن بالكفن الأبيض فإن المقبرة التي سيوضع فيها تابوتكم يتم حفرها وإعدادها لكم، حيث يوضع جسدكم في تابوت خشبي, وبعد الانتهاء من المراسيم في الجامع سيذهبون بكم إلى المقبرة، وسيكتب على لوح حجري أسمكم وتاريخ ولادتكم ووفاتكم، بعدها تخرجون من التابوت وتوضعون مع الكفن داخل تلك الحفرة، وبعدها ينهال التراب على الحفرة وتنتهي المراسيم بعدما يغطيكم التراب بشكل كامل. في البداية تكون الزيارات متعددة لقبركم, ثم تصبح زيارة واحدة في السنة، ومن بعدها ستنقطع هذه الزيارات. وعلاوة على هذا لن يكون لديكم خبرٌ أو أي علم عن هذه الزيارات.


    سيغدو فراشكم وغرفتكم التي استعملتموها لسنين عديدة فارغة، وكذلك سيتم توزيع ممتلكاتكم الشخصية والخاصة لجهات مختلفة. سيذهب أقرباؤكم إلى دائرة الأحوال المدنية للتبليغ عن وفاتكم، وبالتالي مسح أسمكم من هذه الدنيا. سيكون هناك من سيبكي من خلفكم وستكونون في ذاكرتهم، ولكن مع تقدم الأيام والسنين فإن عامل النسيان يزداد تأثيره, لذلك فبعد مرور عشر سنين فلن يظل هناك من يتذكركم على الرغم من هذه السنين الطويلة التي عشتموها معاً. ومع هذا يجب إدراك حقيقة أن الذين تركتموهم من ورائكم من أقرباء وأصدقاء سيبدأون في ترك هذه الدنيا تدريجيا, لهذا فإن بقاء ذكراكم أو عدم بقائه لا يشكل أي معنى أو أي أهمية .

    وبينما يتم كل هذا في الدنيا، فإن جسدكم سيمر وبشكل سريع بمرحلة التفسخ والانحلال. فعند دفنكم في التراب تبدأ البكتيريا والحشرات الأرضية مباشرة بمهامها. وتؤدي الغازات المتراكمة في البطن إلى انتفاخ الجسم، وينتشر هذا الانتفاخ إلى سائر أجزاء الجسم حتى يصل الجسم إلى حالة يصعب معها التعرف عليه. ونتيجة للضغط المتولد من هذه الغازات سيندفع الدم من فمك وأنفك بشكل رغوة دموية, ومع تقدم عملية تفسخ الجسد فإن كلا من الأظافر والشعر وراحة اليد وباطن القدم ينفصلون شيئا فشيئا عن أماكنهم. وبالإضافة إلى التغيرات التي تطرأ على المظهر الخارجي للجسد فإن الأعضاء الداخلية تمر أيضاً بعملية التفسخ و الانحلال.


    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  2. #12
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي



    نأتي الآن إلى النقطة التي تعتبر أفظع حادثة: إن البطن سينفجر من إحدى المناطق الأكثر ضعفاً نتيجة لامتلائه بالغازات، حيث ستنبعث رائحة كريهة يصعب تحملها. وخلال هذه الفترة أيضاً تبدأ عملية انفصال أجزاء الجسم الأخرى ابتداءًً من منطقة الرأس، حيث تبدأ العضلات بالانفصال من أماكنها، ويبدأ الجلد والمناطق الهشة من الجسد بالتساقط, ونتيجة لهذا يبدأ الهيكل العظمي بالظهور تدريجياً, ويأخذ الدماغ بعد تفسخه تماما منظر التراب أو الصلصال، وتبدأ مناطق اتصال العظام بالتفكك والانفصال, ويتبعها انفصال أجزاء الهيكل العظمي, وهكذا تستمر هذه العملياث حيث يتحول الجسد بكامله إلى كومة من العظام والتراب. وهكذا لا يمكن الرجوع ولو لثانية واحدة للحياة قبل الموت ومشاهدة العائلة، أو أي لقاء مع الأصدقاء والأحبة من أجل التسامر. ولن يبقى أمامه فرصة اعتلاء المناصب العليا، لأن جسده سيتفسخ ويتحول إلى هيكل عظمي. والخلاصة أن الجسد الذي نحسب أنه هو جوهرنا ينتظره مصير مرعب وهو الفناء، ولكن الروح يبقى، وهذا الروح سيكون قد ترك ورحل عن هذا الجسد. أما هذا الجسد الذي تركته وراءك فسيتحلل ويتفسخ بشكل مخيف.

    حسنا!. . . ما سبب كل هذا ؟

    لو أراد الله ما جعل جسد الإنسان بعد موته يصل إلى هذه الحالة المزرية, ولكن هناك معنى كبيرا ومغزى عميقا لهذا الأمر. قبل كل شي على الإنسان أن يعلم أنه ليس عبارة عن جسد فقط, وأن هذا الجسد قد أعطى له كهيكل خارجي, فعليه أن يفهم هذا عندما ينظر إلى هذا المصير المرعب, ويعلم أن له وجوداً يتجاوز هذا البدن. وأن ينظر الإنسان ويتدبر مصير موت جسده الذي طالما انحنى أمام شهواته ونزواته، وكأنه سيعيش ببدنه هذا إلى الأبد. وأن هذا الجسد لا بد له في يوم ما أن يدفن تحت التراب، ويتفسخ ويتحلل، وتأكله الديدان، ويتحول إلى هيكل عظمي, ولربما لا يكون هذا اليوم ببعيد، بل قد يكون على بعد خطوة واحدة قادمة فقط.

    على الرغم من كل هذه الحقائق فإن هناك ميلا في روح الإنسان للرفض وعدم التفكير في القضايا التي تنفر منها نفسه ولاتميل إليها. وتتوضح هذه الحقيقة بصورة جلية عندما يتعلق الأمر في موضوع الموت. وكما ذكرنا سابقا فإن الموت يتذكر عند مرور الذكرى السنوية الأولى لأحدهم إن كان من الأقرباء أو الأصدقاء، ولكن الأغلبية من الناس ترى الموت شيئاً بعيداً عنهم على الدوام. فهل للإنسان الذي يستبعد الموت وضع يختلف عن الذي يموت وهو يمشي في الطريق؟ أو من الذي يموت وهو نائم في فراشه ؟ أم يحسب نفسه أكثر شباباً وأنه سيعيش لسنين طويلة ؟ نفس هذه الأفكار نفسها ستكون قد وردت إلى ذهن أحدهم وهو يمشي في الطريق لكي يصل إلى مدرسته, أو شخص تأخر في الوصول إلى اجتماع مهم في شركة فاضطر إلى قيادة السيارة بسرعة عالية مما تسبب في وقوع حادث مروري له, أو شخص أصيب بمرض لم يكن ينتظره وفي وقت غير متوقع. وسيصاب قراء الجرائد بذهول وهم يطالعون خبر وفاة شخص كان بالأمس فقط برفقتهم. ومن الغريب أنه قد لا يخطر على بال أحدهم احتمال تعرضه للموت بعد فترة قصيرة من قراءته هذا الخبر على الرغم من وجود الكثير من الأعمال التي يجب إنجازها وإكمالها من قبله والتي بسببها قد يعتقد أن الموت مازال مبكرا ولم يحن وقته بعد. قد يكون نمط تفكيرهم هذا هو السبب. ولكن هذا يعني الهروب من الحقيقة. ويذكر الله تعالى عدم جدوى هذا الهروب :

    قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أو الْقَتْلِ وَ إذا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا(سورة الأحزاب 16)

    ويجب ألا يغيب عن بالنا بأن الإنسان جاء إلى الدنيا عارياً وسيغادرها عارياً، ولكن بعد ولادته فإنه من أجل قضاء حاجاته يقوم باستعمال هذه النعم المسخّرة له بشكل مسرف وجاهل، وينقلب موضوع الظفر بهذه الحاجات إلى أهم غاية في حياته. بينما من المعروف أنه لا يأخذ معه عند موته ما كان يملكه من ثروات ونقود، بل مجرد قطعة قماش بيضاء طولها بضعة أمتار حتى يدفن فيها.

    ( ولد الإنسان عاريا وسيغادرها عاريا)، فالشيء الوحيد الذي سيرافقه في الآخرة هو عمله وإيمانه أو عدم إيمانه.



    بعد الموت مباشرة



    صورة لجسم الإنسان قبل تفت أجزاء جسده



    صورة توضح تآكل وجه إنسان ميت من قبل الحشرات الأرضية في القبر


    اللهم أستر علينا فوق الارض وتحت الأرض ويوم ألعرض
    أمين
    اللهم احسن خاتمتنا يا رب العالمين أمين


    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  3. #13
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي

    زينة الحياة الدنيا


    يسعى الإنسان طوال حياته لتحقيق أهداف وغايات منها ماهو مادي ومنها ماهو معنوي. مثل الغنى والمال والمركز الاجتماعي وزوجة وأولاد. وهي تعتبر من الزينات التي لا يستطيع الإنسان التخلي عنها في هذه الحياة, فجميع الطاقات والجهود توجه من أجل الحصول على هذه الأشياء.

    وعلى الرغم من معرفة الإنسان أن كل هذه الأشياء تأتى وتذهب، وأن كل شئ على وجه الأرض يفقد قيمته ويبلى مع الزمن، بل ويفنى. . . على الرغم من كل هذا فإن الإنسان يظل مرتبطاً بشدة بهذه الأشياء، ولا يستطيع التخلي عنها بسهولة. فعلى الرغم من معرفتهم إن أغراضهم وممتلكاتهم ستبلى وأن مزارعهم لن تبقى دائما بنفس الخصوبة, وأن زوجته التي طالما كأن يوليها كل الاهتمام سيأتي يوم تفقد فيه جمالها وحسنها، والأهم من كل هذا وعلى الرغم من كل هذا فهو يعرف أنه سيأتي يوم يترك فيه كل ما كان يملكه وسيرحل إلى غير رجعة،. . . مع كل هذا فإنه يظل مرتبطاً بزينة الحياة بهذا الشكل القوي.

    سيدرك هؤلاء بعد موتهم أنهم قضوا حياتهم في سبيل الحصول على شئ واحد فقط, وأنهم خدعوا بهذه الدنيا التي سحرتهم وبهرتهم بزينتها وجاذبيتها الزائلة, وأنهم قد أعطوا للأشياء الفانية قيمةً أكبر مما تستحق. وسيدركون أن ما كان يجب عليهم أن يعملوه في الدنيا هو إظهار العبودية لله تعالى وليس الانشغال عنه واللهث وراء ماكانوا يظنونه ملكا وحاجة من حاجاتهم, بينما الله تعالى هو المالك الحقيقي لهذه الأشياء, والقرآن الكريم يشير إلى هذه الرغبة الملحة في تملك زينة الحياة الدنيا بقوله :

    زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الأنعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(آل عمران 14 )

    فجميع القيم الدنيوية من ثروة وزوجة وأولاد وتجارة تحاول أن تلهي الإنسان عن الله عز وجل وعن الآخرة, وتغريه كي يعيش فقط من أجل الدنيا. لكن الذين يدركون عظمة الله ويقدرونها حق قدرها يعلمون أن كل شيء في الدنيا متاع زائل، وما هو إلا وسيلة امتحان للإنسان وأختبار له, ويعلمون بأن واجبهم هو القيام بوظيفة العبودية والحمد والشكر لربهم الذي وهب لهم جميع هذه النعم والخيرات, بينما الذين لا يؤمنون بالله حق الإيمان يتعلقون بأهداب الدنيا تعلقاً شديداً يؤدي بهم إلى ضعف إدراكهم وتمييزهم للأمور، وهذا يؤدي بهم إلى اعتبار أن هذه الدنيا -بكل ما فيها من نواقص - وكل القيم المتعلقة بها أشياء مهمة, رغم أن الله تعالى وعد الإنسان بإعطائه أشياء أفضل وأثمن وأجمل وأحسن في دار الآخرة, ونبهه إلى أنه لكي يحصل على هذه النعم والعطايا الأخروية فما عليه سوى القيام بوظيفة العبودية كما يجب والعمل على كسب رضاه. لكن الغريب أن الإنسان يحول نظره إلى الدنيا ويركز اهتمامه عليها قانعاً بما تحويها من نعم زائلة! وحتى لو كان ذلك الشخص لا يؤمن بتاتاً بأي دين, وحتى لو كان ملحداً فإن عليه -على الأقل- أن يضع في حسبانه احتمال أن يبعث بعد الموت, وهذا الأمر ينبغي أن يدفعه كي يتصرف بطريقة عقلانية أكثر. أمّا المؤمنون فهم على قناعة كاملة بأن ذلك البعث ليس مجرد احتمال، بل هو حقيقة ثابتة لا شك فيها. ولكونهم يعُون هذه الحقيقة ويدركونها حق الإدراك فهم يجتهدون طوال حياتهم للابتعاد عن الأعمال التي توصلهم إلى جهنم, وفي الوقت نفسه يسعون بكل جهدهم في سبيل الظفر بالجنة. فهم يعلمون بأن الذين يقضون حياتهم في سبيل مصالحهم ومتعهم الدنيوية ويضعون جل جهدهم في هذا السبيل سوف يصابون يوم القيامة بخيبة أمل شديدة تبعث على ندم كبير وحسرة أليمة.

    فما جمعه من مال وما كنزه من ذهب ونقود في البنوك, وما اشتراه من بيوت وأراض وسيارات لن تكون له طوق نجاة يوم القيامة, ولن تحميه ولن تحمي عائلته ولا عشيرته التي كانت دوما مصدر ثقته, بل إن جميع هؤلاء سوف يديرون وجوههم عنه. لكن ورغم كل هذه الحقائق يظل الكثير من البشر يرون أنه لا بديل عن هذا النّوع من الحياة، ويستمرون في ارتباطهم الأعمى بالدنيا متجاهلين الآخرة. ولقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى:

    أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُر حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ (سورة التكاثر 1 – 2)

    ما تم استعراضه حتى الآن من وسائل الزينة والإغراء ما هي إلا إحدى خفايا الامتحان, فلقد خلق الله الإنسان ومنحه جميع الخيرات التي يحتاج إليها، وهي خيرات مغرية وجذابة. ولكن هذه الحياة الدنيا مؤقتة وقصيرة في الآن نفسه، وهي تمكن الإنسان من عقد مقارنة بين الحياتين (بين حياة الدنيا وبين حياة الجنة)، وهنا يكمن السر. فالحقيقة أن حياة الدنيا جميلة جداً، وعظيمة ومتنوعة تليق بعظمة الله. فالعيش فيها والتمتع بها من النعم التي ترجى من الله, لكنها لن تكون بحال من الأحوال أهم من الآخرة وأهمّ من كسب رضى الله تعالى, ولهذا يجب على البشر ألا ينسوا الغاية من هذه النعم وهم يتمتعون بها, والله تعالى يحذر الإنسان في القرآن الكريم بقوله:

    وَمَا أوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ( سورة القصاص 60 )

    أجل!… نرى البشر متعلقين بالقيم الدنيوية وغافلين عن الآخرة، ولكن ثمة حقيقة أخرى مهمة يتناسونها وهي أن ارتباطهم بالمباهج الدّنوية وسعيهم المستمر من أجل الحصول على هذه المتع لا يمنحهم في هذه الدنيا السعادة الحقيقية. ويرجع السبب في هذا إلى النفس البشرية التي لا تقنع بما لديها أبدا، بل تحاول باستمرار وبمختلف الوسائل الحصول على الأفضل والأحسن, فالإنسان يحاول باستمرار أن يحصل على الأفضل، ولكنه لا يمكن أن يحصل على جميع مايريد نظراً لطبيعة هذه الدنيا. لأنه مهما امتلك من أشياء, فإن هناك بالتأكيد أشياء أفضل وأحسن وأجمل مما يملكه، لذا فالإنسان في هذه الدنيا لا يستطيع الحصول على الطمأنينة وراحة البال التامة.

    هل الغنى الحقيقي في هذه الدنيا؟

    يعتقد الكثير من الناس بأنه يمكنهم أن يؤمنوا لأنفسهم حياةً مثالية رائعة خالية من النواقص، تلبي احتياجاتهم إذا صرفوا جهداً أكبر، وحاولوا تحقيق أهدافهم بشكل جدي، وهم يتصورون أن الثروات والإمكانيات المادية تلعب دوراً رئيسياً في تحقيق هذا, وبذلك يمكنهم أن ينشئوا عائلة سعيدة، ويعيشوا حياة مريحة, ويكسبوا مركزاً اجتماعياً جيداً ومكانة عالية بين الناس. وفي الحقيقة فإن إهدار الإنسان لعمره، وصرفه أكثر وقته في سبيل تحقيق هذه الأهداف هو خطاً كبير. فالناس يتناسون تماماً الحياة الأبدية الحقيقية ألا وهي الآخرة، لأنهم قضوا أعمارهم في هذه الحياة الدنيا وهم يفكرون فقط في راحتهم وسعادتهم.

    فعلى الرغم من أن أهم وظائفهم هي العبودية التامة لله تعالى, نراهم وقد أنشغلوا بهذه الدنيا, ونراهم يغفلون عن شكر الله تعالى -الذي خلقهم ومنحهم هذا الغنى والمال - على هذه النعم ويجعلون جل هدفهم كسب رضى الآخرين واستحسانهم. بينما بيٌن الله في قرآنه الكريم بأن القيم الدنيوية زائلة وخادعة وليست لها أهمية كبيرة:

    اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَ الأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(سورة الحديد 20)

    فالخطأ الذي يقع فيه الكثير من البشر هو اعتقادهم بأن الآخرة شيء بعيد, أو عدم إيمانهم أصلاً بوجودها مما يجعلهم يعتبرون أنّ الدنيا "أرفع مكانة ً وأسمى من الآخرة, وهؤلاء الأشخاص يتوهّمون عدم فناء الثراء الذي حصلوا عليه, وهم بذلك يعرضون صورة واضحة للجهل والتكبر عند تحويل وجوههم عن النعم التي وعدها الله تعالى لهم في الآخرة مكتفين بما لديهم من متاع زائل. ولقد عرفّ الله تعالى في قرآنه الكريم أحوال مثل هؤلاء الناس ومصيرهم بقوله :

    إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أولئك مَأْوَاهم النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(سورة يونس 7-8 )

    لقد ظهرت أمثال هذه الحالة النفسية طوال التاريخ، فمنذ القدم كان الملوك و الأمراء والحكام والفراعنة يحسبون بأن الغنى سيجعلهم يعيشون مخلدين، حتى أن البعض منهم كان يدفن جزءً من ماله في قبره، وذلك لعدم إعطائهم أي احتمال لوجود قيمة أعلى من قيمة النقود والأموال التي يملكونها, وقد توهّم بعض الناس بأن هؤلاء الأشخاص هم في الطريق الصحيح وظنوا بأنهم هم الفائزون.

    والحقيقة أن أمثال هؤلاء الناس الذين يبدو أنهم قضوا حياتهم وهم يتمتعون بها قد واجهتهم نهاية غير النهاية التي كانوا يتوقعونها, والقرآن الكريم يخبرنا عن أمثال هؤلاء فيقول:


    أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ (سورة المؤمنون 55-56)

    فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أنفسهم وَهُمْ كَافِرُونَ (سورة توبة 55 )

    لكن هناك شيئا مهما يجب ألا يغيب في أي وقت عن أذهان هؤلاء الأشخاص، وهي أن الغنى كله ملك لله تعالى وحده، وأن صاحب الملك الحقيقي هو الله تعالى وهو يوزع حصصاً من ملكه على من يشاء من عباده. وفي مقابل هذه النعم يريد من عباده أن يشكروه، وأن يؤدوا له فروض العبودية على الوجه الصحيح, لذا فإن الشخص الذي منحه الله الغنى لا يستطيع أحد أن يسلبه منه, كما لا يستطيع أي أحد أن يعاونه ويساعده على استعادة ثروته إلا هو، وكل هذا عبارة عن جزء من طبيعة الابتلاء الذي جعله الله للعباد في هذه الدنيا. والمؤمن الواعي والعاقل يدرك هذا الأمر، بينما الشخص الغافل هو الذي ينسى أنه سيأتي يوم يقدم فيه حسابه للذي خلقه :

    اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخرة إِلَّا مَتَاعٌ (سورة الرعد 26


    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  4. #14
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي

    هل الغنى والمكانة الاجتماعية في هذه الدنيا مهمة حقا؟

    يحسب الكثير من الناس أنهم إن أكملوا نواقص مطالب العيش فإنهم سوف يجنون من هذه الدنيا حياة مثالية خالية من العيوب. وعلى هذا الأساس فإنهم بعد أن يملكوا أسباب الغنى التي طالما حلموا بها سوف تكسبهم تقديرا ومكانة في المجتمع، بالإضافة إلى السعادة التي تغمرهم بفضل ذلك النعيم. والحال أن الشخص الذي ينسى الله واليوم الآخر لن يعيش الحياة التي طالما حلم بها وتمنى أن يعيشها، لأنه سيحاول الحصول على المزيد وعلى الأحسن مما يملك بعدما حصل في البداية على مطالبه الأولى. سوف يحصل على المال ولكن لن يكتفي بشيء منه، وسيعمل من أجل الظفر بالمزيد منه. سيملك بيتاً ولكنه سيرى بالتأكيد بيتاً أجمل من الذي يملكه، لذا سيبذل المزيد من الجهد لكي يحصل عليه. ومع تغير ذوقه سنويا فإنه سوف يسعى لتغيير أثاث بيته وديكوره, وكذلك شراء الملابس الجميلة، لهذا فالآية الكريمة توضح بجلاء الحالة النفسية لمثل هؤلاء المنكرين :

    ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (سورة المدثر 11 – 15 )

    فعلى الشخص العاقل أن يفكر تفكيرا سليما: فالذي يملك عدداً كبيراً من البيوت ويملك أحدث السيارات، والذي يملك أكبر قدر من الملابس, وباختصار؛ فحتى لو كان أغنى إنسان، فإنه سيكون محددا بلبس ملابسه، وباستعمال سيارته. فالشخص وإن كان لديه قصر فاره، فهو لا يستطيع أن يسكن في غرفه العديدة في آن واحد، ويأكل في قاعاته كلها في لحظة واحدة. أو الذي يملك أجمل الملابس ترى كم قطعة من هذه القطع يمكن أن يلبسها فوق بعضها البعض في آن واحد ؟. وإذا نظرنا إلى حياة هؤلاء الناس نرى أنّ الذي يملك قصراً كبيراً وواسعاً ومتكونا من عشرات الغرف لا يمكنه استعمال جميع الغرف فلا يتسنى له سوى السكن في غرفة واحدة أو في غرفتين أو ثلاث فقط. وحتى لو كانت خزانة الملابس مليئة بمختلف أنواع الملابس, فإنه لا يسعه سوى ارتداء بدلة واحدة. وحتى لو كانوا يملكون آلاف الأنواع من الأطعمة التي خلقها الله فإنه لا يسعهم سوى أكل وجبة أو ثلاثة وجبات، ولو حاولوا أكل المزيد من الطعام فسيتحول هذا إلى عذاب. ويمكن الإكثار من سرد مثل هذه الأمثلة.

    ولكن مما لاشك فيه أن هناك أمرا مهما يتمثل في أن تقدم الإنسان في العمر، وتوجهه بسرعة إلى النهاية الحتمية التي لا مفر منها يصبح مانعاً أمام استمرار تلذذ الشخص بكل هذه الطيبات. ولكن الشخص الغافل يظل طوال حياته غير مدرك لهذه الحقيقة، ويحسب أن ماله سيخلده ( سورة الهمزة 3).

    إن أمثال هؤلاء الأشخاص يكونون مرتبطين بشكل أعمى بمثل هذا الاعتقاد المنحرف حتى أنهم يوم الحساب وأمام رب العالمين عندما يرون أن العذاب واقع بهم لا محالة سيعرضون ما يملكونه فداء لأنفسهم، بل يكونون مستعدين لأن يفتدوا بأولادهم وبأزواجهم، بل حتى بعشيرتهم لتخليص أنفسهم, ولكن بالطبع فإن يوم الحساب قد أزف، ولن ينفعهم أي شئ، ولن يقبل منهم أي شئ بعد الآن :

    يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَنْ فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلَّا إنها لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ( سورة المعراج 11- 15 )

    لذلك فإن الذين يدركون بأن كل الغنى عائد لله سبحانه وتعالى, ويدركون بأن ما جمعوه من مال ومركز اجتماعي سيظل في هذه الدنيا الزائلة، لذا لا يجرون خلفها في أي وقت بهذا الشكل المحموم, كما لن يشعروا بالغرور عندما يملكون أسباب الغنى، ولا ينسون ربهم, ويقومون بشكر وحمد الله على هذه النعم، ويكتفون بما لديهم من مال. وقد وعد الله تعالى مثل هؤلاء الناس الذين لا يرتبطون بالأطماع الدنيوية بحياة كريمة ومريحة.

    إن الذين يقدرون الله حق قدره، ويؤمنون به يدركون جيدا زوال هذه الدنيا, وأن المال والموقع لا يؤمن لصاحبه إلا منفعة وفائدة مؤقتة، لذا يدركون أنه لا وجه للمقارنة أبدا بين هذه الحياة الدنيا الزائلة وبين الحياة الأبدية في دار الآخرة.

    لذلك فإن الشخص المؤمن الذي يملك مقومات الغنى لا يستعمل هذه المقومات من أجل ظلم الناس وسلب حقوقهم, ولا تجعله أسباب الغنى مرتبطا بشكل أكبر بهذه الدنيا، بل على العكس تجعله يقترب أكثر من الله تعالى فيحمده ويشكره على هذه النعم. وهو لا يأكل حق أحد, ويحاول جهده استثمار هذه الأموال في أعمال الخير, ويعرف بأن الرتبة العالية، والمكانة اللائقة به هي عند الله عز وجل. لذا فبدلاً من الجري خلف غنى دنيوي سوف يهتم بالتخلق بالأخلاق الرفيعة، والعيش بهذه الأخلاق من أجل كسب الغنى الحقيقي في يوم الآخرة. ولعل أجمل مثال لنا في هذا الخصوص هو تصرف سيدنا سليمان عليه السلام، فعلى الرغم من حصوله بفضل الله تعالى على غنى كبير، وملك عظيم، فإن سيدنا سليمان عليه السلام يبين لنا بوضوح غايته من طلب هذا الغنى :

    فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( سورة ص 32 )

    فالذين لا يملكون مثل هذا الإدراك يعتبرون أنه لا قيمة لما ربحوه، بل يعتبرون أن جميع ما لديهم من مال وثروة شيء قليل لا يشبع نهمهم. ولعله يغيب عن بالهم بأنهم لن يستطيعوا استخدام هذه الثروة التي حصلوا عليها أكثر من 60 – إلى 70 سنة. وينسون حقيقة بأنه سيأتي يوم يتركون وراءهم في الدنيا كلا من أولادهم وبيوتهم وسياراتهم، وجميع ثرواتهم وسوف يموتون ويدفنون تحت التراب.

    ومع ذلك يمضون عمرهم وهم يلهثون للوصول إلى الشهرة وإلى الغنى الذي يطمحون في الحصول عليه, وعليه فإن الشخص الذي ينسى خالقه رب العالمين معتقدا بأن أمواله ستكون مصدر أمنه وخلاصه وسعادته فإنه في النهاية سيلاقي الخسران في الدنيا والآخرة :

    أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(سورة آل عمران 10 )

    ويوضح القرآن الكريم الشخص الذي تنحصر غايته في جمع المال وعده:

    يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إنها عَلَيْهِمْ مُوصَدَة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ(سورة الهمزة 2- 9 )

    إن إدراك المعنى الحقيقي للغنى - الذي يدركه المؤمنون -يجعلهم لا يعيرون اهتماما كبيرا لزينة الدنيا, ولا يعطونها أكبر من حجمها, ويدركون أن كل شئ هو من عند الله تعالى, وهم الذين يختارون حياة الآخرة, ويفضلونها على هذه الدنيا الزائلة. إن المؤمنين الذين فضلوا شراء الآخرة عن حياة الدنيا هم ولاشك قد اختاروا الغنى الأبدي والتجارة الرابحة. وهذه الحقيقة قد ذكرها القرآن الكريم:

    إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالَهُمْ بأن لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَ الإنجِيلِ والقرآن وَمَنْ أو فَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( سورة التوبة 111 )

    والذين يهملون هذه الحقيقة ويرتبطون بشكل وثيق بهذه الدنيا سوف يرون بجلاء من سيكون هو الرابح الحقيقي.

    الزواج

    لعل من أهم المواضيع التي تربط الإنسان بالحياة الدنيا هي الزواج, ولعل من أهم الأهداف التي ينشدها كل شاب و فتاة هو إنشاء زواج ناجح, ولهذا السبب فإن الإنسان يبدأ وهو في مطلع شبابه بوضع هدف البحث عن نصفه الثاني. ولكن نرى الآن في مجتمع الجاهلية أن العلاقات التي تربط الرجل والمرأة تكون مبنية على أسس خاطئة ومنحرفة. وأن هذه العلاقات تكون مبنية على أساس الرومانسية والعواطف والمنافع المتبادلة. بالأخص فإن ما تأمله النساء في أغلب الأحيان هو الحصول على زوج غني، حيث نلاحظ أن هناك من الفتيات من تسعى في هذا السبيل وتتزوج من رجل حتى وإن كانت لا تحبه، وكذلك نجد في الوقت نفسه شابا يختار شريكة حياته لكونها تمتلك جسماً جميلا. ولكن أفراد مجتمع الجاهلية هذا قد غابت عن أعينهم حقيقة مهمة ألا وهي أن جميع ما يتعلق بالخواص المادية لأي شئ يمكن أن ينتهي ويتلاشى، وأن الله تعالى قادر في أي لحظة على سلب ممتلكات أي شخص وغناه, وأن جميع الصفات الجسمانية الجميلة سيأتي يوم تنتهي فيه وتتلاشى. وأن الصفات مثل الصحة والقوة والجمال سينتهي بعد الزواج عاجلا أم آجلا خلال فترة الشيخوخة إلى غير رجعة, ولا يمكن اكتسابها مجدداً.

    وفي بعض الأحيان ليس شرطاً انتظار مرور الأعوام لكي يشيخ المرء, بل يمكن أن يتعرض هذا الشخص إلى حادث كأن يتعوق أو يصاب بالشلل أو يصاب بمرض قاتل.

    ترى ماذا سيحصل لهذا النظام المبني على أسس ومنافع مادية؟ على سبيل المثال، ماذا سيعمل رجل تزوج من امرأة من أجل حسنها وجمال وجهها، ثم فقدت زوجته هذه حسنها وجمالها نتيجة لتعرضها لحادث, أو فقدته لتقدم عمرها إذ تبدأ مظاهر الكبر في تغيير ملامح وجهها.

    سيدرك لا محالة أن زواجه الذي كان من أهم غاياته في الحياة قد أسس على دعائم خاطئة. ما نريد قوله هنا هو أن الزواج لكي يكون ناجحاً يجب أن يكون مبنياً على أسس وٍدعائم صحيحة متى ما كانت غايته الوحيدة هو كسب رضى الله تعالى, ومتى ما كان باستقامة الأحكام والقواعد التي وضعها الله تعالى, وأي اتجاه أو العمل بعكس هذا لن يمنح ذلك الفرد السعادة والاستقرار لا في الدنيا ولا في الآخرة. وفي يوم الآخرة سيدرك هذا الشخص الذي أسس حياته وخططها وفق نظام دنيوي ومادي بحت، وضحى بكل حياته في هذه السبيل. . . سيدرك مدى تفاهتها وقصرها, ولكن الوقت سيكون قد فات عند إدراك هذه الحقيقة



    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  5. #15
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي



    ونراه يتهرب يوم القيامة من زوجته التي كانت أقرب الناس إليه في الدنيا حتى أنه لا يرغب حتى في رؤيتها, بل ويصل الأمر به أنه يكون مستعدا لتقديم زوجته فدية لكي ينجو من عذاب القيامة, والله تعالى يوضح حال مثل هؤلاء الناس فيقول :

    يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ ( سورة المعراج 13-11 )

    نرى من خلال هذه الآية الكريمة كيف أن الشخص المنكر العاصي يمكن أن يضحي بأخيه وزوجته وباقي أفراد عائلته الذين لا يمثلون له أية أهمية أو قيمة يوم القيامة. كما إن هؤلاء الناس الذين هم على استعداد للتضحية ببعضهم البعض لم يكونوا ليستروا أخطاء بعضهم البعض في الحياة الدنيا سيقومون بلعن بعضهم البعض عند دخولهم إلى جهنم, وسيكون مصير الذين أسسوا في هذه الدنيا الزائلة علاقات خارجة عن رضى الله تعالى وعن الحدود التي رسمها لهم الإحباط والخسران المبين يوم القيامة. وهنا يستعرض القرآن الكريم لنا مثالا آخر في هذا الخصوص مثال أبي لهب وزوجته الذين ألقيا في نار جهنم :

    تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ( سورة المسد 1 – 5 )

    أما إذا كانت هناك نية خالصة لكسب رضى الله تعالى, فإن هذه الرابطة المتبادلة والحب المتبادل سيكونان مبنيين على أسس مختلفة تماما. لذا فإن أمورا أخرى مثل الغنى والشهرة والجمال لن تكون العامل الأساسي الذي يحدد هذه الرابطة المشتركة. فالمؤمن الحقيقي الذي يؤمن بزوال هذه الحياة سيكون ميزانه وقسطاسه هو التقوى. وبدرجة ارتباطه بالله تعالى وحبه وخوفه منه عاليا بمعنى متى ما كانت درجة تقواه عالية سيكون شعور الحب تجاه ذلك الإنسان عاليا أيضاً.

    لذا فإن على المؤمن أن يكون أساس اختياره لشريكة حياته هو التقوى أي محاولة كسب رضى الله تعالى وحبه، عندها سيكون هذا الزواج على قدر كبير من الطمأنينة والأمن لأصحابه. وذكر الله تعالى في قرآنه الكريم مايتعلق بـ هذه المسألة :

    وَمِنْ آياته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة الروم 21 )

    بالإضافة إلى هذا فإن المؤمنين الذين يرتبطون في الدنيا بروابط التقوى سيكونون هم الرابحون في يوم القيامة, وسيكون هؤلاء المؤمنون الذين قضوا جل حياتهم وهم يدعون إلى الجنة بتصرفاتهم الجميلة والخيرة من أقرب الأصدقاء لبعضهم البعض في الآخرة. والله تعالى يخبرنا من خلال آياته الكريمة ما يخص المؤمنين والمؤمنات في يوم القيامة فيقول :

    وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أو لِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(سورة التوبه 71 )

    الأولاد
    يوجد في فطرة كل إنسان الرغبة في إدامة ذريته ونسله وأن يخلف أحدا من صلبه في هذه الحياة الدنيا بجانب رغبة التملك والحصول على الثروات وهي رغبة لا تعرف الشبع أبدا. وكما بين القرآن الكريم فإن هذه الرغبة إن لم توضع قواعدها على أساس كسب رضى الله تعالى فستؤدي به إلي الابتعاد عن ذكر الله والانشغال عنه. والأهم من هذا أنه يمكن أن تأخذ طريقا منحرفاً. بل يمكن أن تكون عنصراً يجعله ينحرف عن طريقه الصحيح حيث قد يجعله يشرك مع الله شريكاً آخراً. إن الله تعالى يمتحن الإنسان في الأولاد ليرى فيما إذا كانت تصرفاته تدخل ضمن دائرة كسب رضى الله تعالى أم لا. ونحن نرى هذا الأمر بوضوح من خلال الآية الآتية:

    إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (سورة التغابن 15)

    والملفت للنظر استعمال كلمة "فتنة" في هذه الآية للأولاد والأموال, فالكثير من الناس تراودهم فكرة إنجاب الأطفال - الذين يعدون من زينة الحياة الدنيا - هدفا مهما لهم في هذه الحياة, ولهذا السبب ذكر الله تعالى في قرآنه الكريم أن الأطفال هم موضع امتحان كبير لبني البشر في هذه الدنيا، وأنه يجب أن تكون نية إنجاب الأطفال خالصة لوجه الله تعالى, وعكس هذا الأمر سيخفي في طياته شركاً خفياً. وقد أعطى الله تعالى في قرآنه الكريم مثالاً على هذا النوع من العائلات والأسر التي نست الله وجعلت من هذا الأمر ( أي أن يكونوا أصحاب أطفال ) غايتها الوحيدة في هذه الحياة وعد هذا الأمر نوعا من الشرك بالله تعالى:

    هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ( سورة الاعراف 189 – 191)

    والتصرف الصحيح هو أن يكون طلب الأولاد من أجل كسب رضى الله تعالى. إذا ألقينا نظرة على القصص المذكورة في القرآن الكريم وجدنا أن طلب الأنبياء للذرية كان دوماً ضمن حدود الرضى الإلهي. وهناك الكثير من الأمثلة والقصص تتناول هذا الموضوع :

    إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( سورة آل عمران 35)

    وكذلك كان دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام:

    رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( سورة البقرة 128 )

    فإذا كانت رغبة إنجاب الأطفال وفق الأسس المذكورة في الآية الكريمة, فإن هذا سيؤدي ولا شك إلى نتيجة طيبة, لأنه من أنشأ مؤمنا معتمدا على أخلاق القرآن الكريم وكان في نيته كسب رضى الله تعالى فإنه بهذا العمل يدخل ولاشك في نطاق العبادة, وخلاف هذه النية فإن ذلك يقود الإنسان إلى عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة.

    وإذا غفل أحدهم أن هذا الطفل لطف ونعمة من الله تعالى أنعمها عليه, وأنه أمانة أو دعها الله عنده, وحاول أن يتفاخر ويتباهى به على غيره وعلى من حوله، وأنه عائد له وملك له, عندها سيكون قد انحرف عن الطرق القويم. إن ثمن هذا التصرف سيكون فادحاً يوم الآخرة, وفي ذلك اليوم سوف ينسى أولاده الذين كانوا من أهم المناصرين له في الحياة الدنيا, بل سيكون على استعداد تام للتضحية بهم كي ينجو من العذاب الأليم. ولكن لن يكون هناك أي مفر من عذاب ذلك اليوم. وفي الحقيقة فإن الأطفال سيكونون سبباً للمشاكل، ليس في الآخرة فقط بل حتى في الحياة الدنيا. . . . سيكونون مصدرا للكثير من المشاكل لأفراد مجتمع الجاهلية. فبعد ولادة الطفل فإن العائلة تقضي زمنا طويلا وتبذل جهداً كبيراً من أجل تربية وتنشئة الطفل, وهذه الصعوبات تبدو ظاهرة للعيان في الأشهر الأولى للحمل. لأن على الأم الشروع في تنظيم حياتها كلها على أساس طفلها الذي تحمله في بطنها, فعليها أن تبدي عناية بما تأكله وتشربه, وتكون حريصة كل الحرص في حركاتها وسكناتها, وألا تقوم بأي حركة مفاجئة قد تؤذي بها جنينها, وفي الأشهر الأخيرة للحمل فإن حركات الأم تبدأ في التثاقل بشكل مطرد حيث تكون تلك الحركات غير متوازنة. كذلك فبعد الولادة فإن الطفل يشكل وحده شغلا شاغلا كبيرة للأبوين حيث تبدو الأم وكأنها مقيدة بجانب ولدها، لأنها تكون بجانب وليدها على الدوام. وهي إلى جانب انتظارها كي يكبر وليدها بأسرع وقت, تمر السنين متتابعة لدرجة أنها لا تشعر بمرورها.

    دعنا ننظر إلى الموضوع من ناحيتين:

    الأولى: أنه إذا كان الصبر على كل هذه المشاق هو من أجل كسب رضى الله تعالى فإنه يدخل ضمن حدود العبادات الكبرى.


    الثانية: هنا يكون الوضع مختلفاً مع الشخص الذي يتحلى بالثقافة الجاهلية. فحسب تلك الثقافة فإن كل هذه المشاق التي يتكبدها الشخص تمثل له عناء لا داعي لها, ولا تحمل في طياتها أي هدف. ويعيش أفراد الثقافة الجاهلية أكبر خيبة أمل عندما يكبر أولادهم. فمن الطبيعي أن يتبنى هذا الطفل الأفكار الخاطئة والتصرفات البعيدة عن معايير الأخلاق -والتي هي نتاج المجتمع الجاهلي - عندما لا ينشأ على الأخلاق وعلى أسس التربية الفاضلة التي أمر بها الله تعالى, وتكون نتيجة هذه التربية الخاطئة والأخلاق الفاسدة نشوء جيل من الأولاد يعصون آباءهم وأمهاتهم, وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى نشوء أفراد لا يحملون معاني الوفاء والإخلاص، لأن الآباء والأمهات يرون في أولادهم نوعاً من الضمان لهم في المستقبل، فهم يظنون بأنهم سيكونون عونا كبيراً لهم في فترة شيخوختهم, ولكن الشخص الذي ينشأ وفق أخلاق يشوبها التمرد والجحود, يكون بعيدا كل البعد عن مثل هذا التوقع وهذا الظن ولا يخطر ذلك على باله، ويكون بعيدا عن مثل هذا الخلق الفاضل. فهو يعمل في الحقيقة على الحفاظ على مصالحه وعلى رغباته الشخصية, وهو مستعد لتنفيذ رغبات والديه إن كانت هذه الرغبات متوازية ومتماشية مع خططه ومصالحه الشخصية فقط, وليس لهما مكان عنده خارج هذا النطاق. لذا ليس من الصدف النادرة أن تكون نهاية الوالدين عند مثل هؤلاء الأولاد في إحدى غرف دار العجزة.

    بينما الطفل الذي ينشأ على أخلاق القرآن الكريم تكون تصرفاته غير هذه التصرفات تماما. لأن القرآن الكريم يذكر بجهد الأبوين في تنشئة أطفالهم ويلزم الأبناء باحترامهما وعدم القيام بأي تصرف يؤلمهما أو يحزنهما. فالله تعالى يقول:

    وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( سورة الإسراء 23 – 24 )


    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  6. #16
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي



    ونفهم من هذه الآية أن تنشئة الإنسان وتربيته على ضوء هذه الحقائق تعتبر من المهام الأصيلة. ولكن إن تمت تنشئة الطفل على أسس دنيوية وما توفره من فوائد ومنافع مؤقتة وزائلة, فستكون كالأعمال الدنيوية الزائلة الأخرى التي لا تحمل هدفاً نبيلا ولا غاية فاضلة. وعلاوة على هذا فإن الشخص الذي يربي أولاده من أجل كسب رضى الله تعالى لن يخسر شيئا حتى وإن لم يلتزم أولاده بالأسس الأخلاقية الإسلامية وبأخلاق المؤمنين الصالحين. لأنه إنما يقوم بأداء ما عليه ويترك الباقي لرب العالمين. وبما أن الله تعالى ولي أمر الناس جميعا، فإن الشخص الذي يقوم بتربية أولاده حسب ما يرضاه الله تعالى فإنه سيحصل في النهاية على أجر ويكتب له في حسانته.

    أما الذي يكون جل تفكيره محصورا في الدنيا ويربي طفله على هذا الأساس فإنه إضافة إلى أنه لن يجد في ولده ما كان يطمح إليه في الدنيا, فإنه في الآخرة لن تكون له أي فائدة لولده، ولا أي فائدة لولده له. ويشير القرآن الكريم إلى هذه المسألة بقوله تعالى :

    فإذا جَاءَتْ الصَّاخَّة يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيه وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (سورة عبس 33 – 37 )

    فكما ذكرنا سابقا فإن الإنسان خلق فقط من أجل أن يؤدي فروض العبودية الحقة لله رب العالمين, و جميع مظاهر الزينة التي وفرت له في الحياة الدنيا ليست سوى وسيلة اختبار له فيما إذا كان سيقوم بفروض العبودية إذاء الله تعالى أو فيما إذا كان سيعيش حياة مناسبة من أجل كسب رضى الله تعالى أم لا.

    لهذا لاشك أن الإنسان بعد موته سوف يحاسب على العبادات التي أداها في الحياة الدنيا أو على ما اقترفه من عصيان وجحود وتمرد, وعلى حسب هذه الأفعال فإنه سوف يكافأ مكافأة سخية بأن يفوز بالسعادة الأبدية ويدخل الجنة أو أن يخسر خسراناً مبينا ويدخل عذاب جهنم.

    ولهذا السبب, فإن كل أنواع هذه الزينة والتي تخلب لُباب البشر لا تحمل أي قيمة تذكر عند الله تعالى. إن الذي يقرب الإنسان من الله تعالى ويجعله ينجو من عذاب جهنم يوم الحساب ليس ما يمتلكه من أولاد وأموال، بل ما يملكه من تقوى وإيمان ثابت لا يتزحزح, وهذا هو ما توضحه الآيات الكريمة بشكل واضح :

    وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أو لَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ( سورة سبأ 37 )

    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أولادهم مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( سورة آل عمران 116 )

    لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أولادهم مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أولئك أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(سورة المجادلة 17 )

    الكوارث

    إن الدنيا التي نعيش فيها هي مليئة بالكثير من الأخطار الداخلية والخارجية وإن كنا لا نعي ذلك كثيرا مثل النيازك والثقوب السوداء والنجوم المذنبة, وهذا يمثل جزأً صغيراً من تلك الأخطار. و إذا نزلنا إلى أعماق الأرض نصادف وجود طبقة سائلة تصل درجة حرارتها إلى آلاف الدرجات المئوية, وليس من الغريب أن نقول بأن هناك كرة نارية تغلي تحت أقدامنا، وبالإضافة إلى هذا, فإن هناك غلافا جويا يحيط من كل جهة بكرتنا الأرضية وتقوم بوظيفة الحماية. وبالإضافة إلى وظيفة الحماية التي يقوم بها الغلاف الجوي, فإن هناك حوادث جوية يكون مصدرها الغلاف الجوي والتي تحمل تأثيراً قويا جداً مثل العواصف والأعاصير.

    كل عناصر التهديد هذه تكون فعالة بين الحين والآخر, وتكون هناك خسائر مادية وبشرية نتيجة لهذه الحوادث والتي تسمى باسم الكوارث الطبيعية, وتأتي الزلازل وانفجارات البراكين والفيضانات والأمواج البحرية العملاقة والعواصف والأعاصير والحرائق الكبيرة في مقدمة هذه الحوادث حيث أن كل من هذه الآفات الطبيعية لها تاثيرات مختلفة. والعامل المشترك لكل هذه الآفات الطبيعية هو أنه في زمن قصير يمكنها أن تدمر مدناً ومافيها من أناس ومخلوقات حية, وتكون هذه الخسائر فادحة وجسيمة. والإنسان لايملك أي إمكانية وقوة تجعله يحول دون وقوع هذه الحوادث, وما دام الإنسان لا يواجه هذه الكوارث فإنه لا يريد التفكير فيها مع علمه بإمكانية حدوثها في كل لحظة.

    إن الحياة على وجه الأرض تسير وفق ميزان دقيق جداً, لهذا فإن هذه الأشكال من الحوادث الكبيرة لا تكون فعالة على مساحات شاسعة, وبأخذ جميع أنواع الأحياء على وجه الأرض ومن ضمنها الإنسان فإن هناك حماية خاصة لهم, لكن الله تعالى يريد تبصرة الإنسان من حين إلى آخر إلى إمكانية كون المكان الذي يعيش عليه غير آمن. كما أن الله تعالى يدفع الإنسان لكي يدرك من خلال هذه الكوارث التي استعرضناها فقدان القدرة على التحكم في الكوكب الذي يعيش عليه, ويجعلهم يشهدون عجزهم وضعفهم بأنفسهم, وأن يأخذ وا العبر والعظات من خلال تفكيرهم بعدما شهدوا كل هذه الكوارث. حسناً, فيما عدا هذا, ترى أي نوع من أنواع العبر والعظات يكون الإنسان قد استفادها من كل هذا ؟

    كما استعرضنا في بداية الكتاب بأن هذه الدنيا هي المكان الذي خلقه الله تعالى لكي يمتحن به الإنسان ولكي يميز بين الصالح والطالح, وأن الله تعالى قد بين هذه الحقيقة بقوله تعالى :

    وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِي سِتَّةِ أيام وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ( سورة هود 7 )

    إن هذا الامتحان الخاص بالدنيا قد هيئ بشكل كامل خالي من أي نقص إلى درجة أن كل أمر وكل حادث يحدث في هذه الدنيا يعود إلى سبب معين. وكل تفصيل من تفاصيل هذه الحوادث يقع ضمن قاعدة السبب – النتيجة. فمثلا إن إمكانية وقوف الإنسان وسيره على وجه الأرض يعود إلى قانون الجاذبية الأرضية والتي تمنحه هذه الإمكانية وتساقط الأمطار تحدث نتيجة الغيوم والرياح والموت والحوادث و الأمراض لابد وأن تحدث لسبب ما.

    ومما لاشك فيه أنه يمكن ملء صفحات عديدة تزخر بأمثلة توضح علاقات السبب – النتيجة, ولكن المهم هنا هو كون هذا النظام غاية في الكمال والاتساق, وإحدى خصائص هذا النظام كونه في كل حادثة يساير منطق البشر. فالله تعالى يحذر وينذر البشر بين الحين والآخر بإرساله الكوارث الطبيعية ولنأخذ مثلا ً لإحدى هذه الكوارث, ففي الزلازل, تموت أعداد كبيرة من البشرمن شيوخ وشباب، رجال ونساء وحتى أطفال صغار. فكثير من الناس الذين تغلب عليهم الغفلة ينظرون إلى هذه الكوارث ويعتبرونها شيئاً طبيعياً, ولا يفكرون في أن كل هذا قد خلق من أجل غاية معينة. والآن لنتأمل جيدا ماذا كان سيحدث لو أن هذه المصيبة قد حلت فقط بالذين اقترفوا الآثام والذين هم خارجون عن الطريق الذي رسمه الله تعالى للبشر ؟

    لاشك أن مفهوم الامتحان يكون قد انتهى تماما, ولكن الله تعالى لم يكن ليسمح بهذا. وكما ذكرنا أعلاه فجميع الحوادث التي تحدث على وجه الأرض قد هيئت إلى حد كبير بشكل طبيعي ضمن ميزان دقيق لا يقبل الخطأ. والإنسان المؤمن الذي يدرك وجود الله والذي يكون صاحب فهم عميق يدرك أن هذه الحوادث والتي تحمل هذا الشكل الطبيعي قد حصلت لحكمة معينة, وكما ورد في الآية الكريمة:

    كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( سورة الأنبياء 35)

    فإن الله تعالى قد أشار إلى أنه يمتحن بني البشر بين الحين والآخر بحوادث سيئة وطيبة. فقد يقع حدث ما يذهب ضحيته كثير من الناس، فيحزن أناس لكثرة هؤلاء الضحايا، لكن ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن الله تعالى صاحب العدالة الأبدية سوف لن يحرم يوم القيامة أحدا من أخذ حقه.

    إن كل ما يواجه الإنسان في هذه الدنيا من حوادث هو بمثابة التجربة والامتحان, وسوف يلاقي الجميع يوم القيامة جزاءهم وما كسبت أيديهم سواء أكانوا من الصابرين, أم كانوا من الغافلين عن هذا الامتحان. لذا نرى أن الذين يدركون عظمة الله حق الإدراك, والمرتبطين من أعماق قلوبهم بالله تعالى هم المدركون لسر هذه الدنيا. فإذا أصابتهم مصيبة يهرعون إلى الله تعالى تضرعا وخيفة ويطلبون عفوه ومغفرته, لأنهم يعرفون أن الله تعالى قد وعدهم في قرآنه الكريم بقوله تعالى :

    وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَ الأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعُونَ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ( سورة البقرة 155- 157 )

    فكما ورد في الآية الكريمة، فإن جميع البشر, المؤمنين وغير المؤمنين سيتم اختبارهم من خلال بعض الحوادث, فبعضهم من خلال الآفات الطبيعية, وبعضهم من خلال حوادث تقع في حياتهم اليومية, والبعض الآخر من خلال بعض الأمراض والمحن وهي حقائق ليست ببعيدة في هذه الدنيا عن الإنسان. وهذه المصائب التي تلحق ببعض الأفراد يمكن أن يشمل تأثيرها نواحي مادية ونواحي معنوية من حياة الإنسان.

    على سبيل المثال, قد يلحق الإفلاس بشخص كان في يوم ما يعيش حياة مرفهةً، وقد تفقد إمراة حسناء جمالها إلى غير رجعة أو أن يتعرض الإنسان إلى مرض ليس له دواء أو علاج, ومثال ذلك أيضا تعرض بعض المدن بين الحين والآخر إلى عاصفة مفاجئة تسبب دمارا واسعا غير متوقع، وهذا يكشف أن حياة الإنسان مرهونة ببعض اللحظات القصيرة. المهم من كل هذا أن يستوعب الإنسان الدروس اللازمة ويستنتج منها العبر والعظات. والله تعالى يريد أن يرسل رسالة إلى بني البشر من خلال هذه الكوارث التي تحدث كل هذه الأضرار المادية والمعنوية لكي يعوا ما هم فيه وأن يعودوا عن ضلالهم وانحرافهم إلى الطريق المستقيم الذي رسمه الله تعالى لجميع البشر في هذه الدنيا.

    وكما هو الحال بالنسبة لبقية الأشياء التي لم يخلقها الله عبثا ً في هذه الدنيا, فإن الله تعالى الذي ابتلى البشر بهذه الكوارث كي تكون لهم إحدى وسائل الإنذار والتنبيه. وبين الله تعالى قد بين في قرآنه الكريم بأن ليس هناك أي شيء يمكن أن يحدث في هذا الكون من دون إذن من الله بقوله تعالى:

    مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (سورة التغابن 11)
    وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ( سورة آل عمران 145 )

    وإلى جانب جميع هذه الكوارث والصعاب فإن هناك حكمة ً وغاية ً وراء كل هذا:

    إن الإنسان الذي يرى نفسه في هذه الدنيا صاحب قوة وجبروت، سيدرك مدى عجزه وضعفه أمام الكوارث التي يمكن أن تحدث في أي لحظة بمشيئة الله, فيكون بلا حول ولا قوة لكي يساعد نفسه أو حتى يقدم المساعدة للآخرين, ولأن كل شيء بيد الله تعالى فليس هناك قوة غير الله سبحانه وتعالى الذي يمكن أن تقدم الفائدة أو الضرر. وهذه الحقيقة تبينها الآية التالية:

    وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( سورة الأنعام 17 )


    في هذا القسم سوف نقوم باستعراض جميع أنواع الكوارث, والآفات الطبيعية, وتأثيراتها والتي وقعت إلى الآن على سطح الأرض, لكي يدرك الذين يرتبطون بهذه الدنيا ارتباطا كليا أنها ليست المكان الذي يستحق كل هذا الاهتمام, والتذكير بأهمية كون حياة الآخرة هي المكان المثالي الذي يستحق العيش فيه.

    فالذي نستعرضه أمام أنظار القراء الكرام هي حقائق تظهر كيفية وقوع الإنسان في حالة من العجز المطلق أثناء وقوع هذه الكوارث وحتى بعد انتهائها. إن هذا العجز الذي يعيش فيه الإنسان آية تعبير على أن قوة الإنسان ليست لها أية أهمية أمام قوة وعظمة رب العالمين, وأن الله وحده هو الذي يجب اللجوء إليه لطلب الحماية والمساعدة


    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  7. #17
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي

    الزلازل

    وهي تمثل أكبر الحوادث الطبيعية تدميراً، فعند وقوعها تخلف أضراراً فادحة, وهي أكثر ما تهدد بني البشر بالمقارنة مع بقية الكوارث الطبيعية الأخرى, وحسب الإحصاءات الرسمية المتوفرة فإنه يحدث يحدث زلزال واحد في كل دقيقتين على الكرة الأرضية, وإذا قمنا بحساب عدد هذه الزلازل الواقعة خلال السنة الواحدة على الكرة الأرضية نجد أن الأرقام تصل إلى ملايين الهزات الأرضية، فمن بين 300000 هزة أرضية تكون 20 هزة منها مدمرة, حيث إن قوتها التدميرية يمكن أن تدمر مدينة بكاملها، وهذه الزلازل لا تقع باستمرار في أماكن آهلة بالسكان, لذا فإن نتائج مثل هذه الهزات الأرضية لا تكون دوماً مصحوبة بخسائر بشرية. ومجموع الزلازل السنوية فإن هناك مايقارب الخمس هزات التي تقع في مختلف انحاء الكرة الأرضية تحمل معها الموت والدمار.

    ومن خلال إلقاء الضوء على المعطيات العلمية السابقة نفهم أن الناس لايواجهون الزلازل بشكل مستمر, حيث تقع في كل دقيقتين هزة أرضية في بقاع متفرقة من الكرة الأرضية ولكن أغلبية البشر لايحسون حتى بوقوعها, لأن شدة هذه الزلازل محسوب بدقة كبيرة. هذا لاشك يمثل دليلاً واضحا على الحماية التي يوفرها الله تعالى لجميع البشر، ففي أيامنا هذه إذا وقع زلزال ما فإن المدينة وأطراف المدينة التي تعرضت لزلزال يمكنها أن تحس بوقوع هذا الزلزال. ويمكن لله تعالى إن شاء، وبكل سهولة أن يرسل زلزالاً تكون قوته التدميرية تلف جميع أنحاء الكرة الأرضية وأن تقضي على جميع معالم الكرة الأرضية. وطبقا للأبحاث العلمية فإن التركيبة الجويولوجية للكرة الأرضية تجعلها من الطبيعي أن تتعرض لهذا الزلزال, فتكون خطوط الزلزال والفراغات المتكونة بين الطبقات الأرضية. . . . إلخ تجعل حقيقة وقوع الزلزال شيئا طبيعيا لامفر منه. وبالاطلاع على أحد المصادر العلمية الذي يتناول احتمالية وقوع الزلزال نراه يورد مايلي:

    إن القوة الكامنة في أعماق الكرة الأرضية تستطيع كسر الطبقة الصلبة من القشرة الأرضية, وعندما لاتستطيع صخور القشرة الأرضية مقاومة هذه القوة فإنها تتكسر مولدة بذلك طاقة تدميرية كبيرة, ونتيجة لهذه الهزة العنيفة فإنه يمكن أن تكون النتيجة هو دمار شامل لجميع مباني تلك المدينة مخلفة أنقاضاً ضخمة تدفن تحتها إلى غير رجعة جميع سكان تلك المدينة.
    (الكوراث الطبيعية, Readers Digest,1996)

    مما لاشك فيه أنه لو أراد الله تعالى إحداث هزة أرضية في مكان ما فليس من الشرط أن تكون ظروف الطبقات الأرضية مناسبة أو غير مناسبة لحدوث مثل هذه الهزة. فلو شاء الله تعالى لأحدث هذه الهزة وفي أي وقت يشاء, وإن كانت مغايرة لكافة القوانين الطبيعية. لكن الله تعالى يجعل الظروف الطبيعية على وجه الأرض في غاية عدم الأمان والاستقرار كي يذكر الإنسان بأن حياته في هذه الدنيا مرتبطة بخيط رفيع جداً, وعلى هذا الأساس فإن القرآن الكريم يحذر البشر فيما يتعلق بموضوع الكوارث بقوله تعالى :

    أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأرض أو يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ

    أَوْ يَأخذ هُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِين أو يَأخذ هُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فإن رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
    ( سورة النحل 45 – 47 )

    فلو شاء الله لجعل هذه الهزات التي تستمر بضع ثوان متواصلة لساعات أو حتى لمدة أسابيع ويمكن أن يجعلهم يعيشون في خوف مستمر. لكن الله تعالى يحمي البشر برحمته, وبهذا الشكل فإن الله تعالى يذكر البشر بعظمته وعدم إمكانية تحدي مشيئته, ويذكر الإنسان أيضاً بأن انشغالهم بهذه الدنيا سوف لن يكون جزاءه أي مكافاة وفوز, ومن الأهمية بمكان أن نذكر بالهزات الأرضية التي وقعت في القرن العشرين

    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  8. #18
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي

    عبر من التاريخ

    إن التاريخ البشري مليء بالكثير من الحوادث التي يمكن اعتبارها عبراً لمن كان يثق بما يملكه من قوة وتقدم علمي متناسيا قدرة الله تعالى وعظمته. وكل واحدة من هذه الحوادث تحمل في طياتها أهمية كبرى بتذكير الإنسان أنه لا الغنى ولا القوة ولا العلم ولا المعرفة، وباختصار كل شيء يمكن أن يقف ضد إرادة وتقدير الله تعالى وقوته وعظمته التي هي فوق كل شئ في هذا الكون.

    ويمكن ذكر عدد لا يحصى من هذه الحوادث ولكن يمكن الإشارة إلى إحدى أهم هذه الحوادث والتي وقعت لسفينة تحمل اسم تايتانك قبل قرابة 86 عاما في المحيط الاطلسي والتي تعتبر من أكبر الكوارث البحرية إلى حد الآن.

    فقد كانت تايتانك هذه السفينة العملاقة المدهشة والتي صممت لنقل المسافرين عبر المحيطات هي ثمرة جهود 15 ألف عامل، حيث كانت تعتبر في ذلك التاريخ من أعظم وأكبر سفن نقل المسافرين، إذ صممت لكي تكون بطول 275 مترا وارتفاع 55 مترا.

    فقد جعلوا يصدقون أنفسهم أنهم ببناء هذه السفينة وفق أحدث تكنلوجيا ذلك العصر ستكون تماما بمأمن عن الغرق مهما كانت الظروف. ولكن كانت هناك حقيقة مهمة يبدوا أنها قد غابت عن بال هؤلاء الناس ألا وهي أنه ليس هناك أي حد يمكن أن يقف ضد ماقدره الله تعالى.

    وهكذا فإن ثقبا ً صغيراً قد تسبب على نحو لم يكن في الحسبان في إغراق هذه السفينة وفي وقت قصير, حيث لم تستطع كل هذه التكنولوجيا أن تنقذها من مصيرها المحتوم. وقد ذكر الذين نجوا من هذه الحادثة أنه بعدما تأكد للجميع بأن السفينة على وشك الغرق، توجه الركاب إلى مقدمة السفينة وأخذوا يتضرعون بالدعاء.

    وقد ذكر القرآن في كثير من آياته كيف أن الإنسان إذا وقع في مصيبة توجه بالدعاء إلى الله تعالى لكي ينقذه, ولكن حال زوال هذه المصيبة عنه ينسى ما قام به من دعاء ورجاء لله تعالى :

    رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَ إذا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أو يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ( سورة الإسراء 66 – 69 )

    فيجب على الإنسان أن لاينسى ربه سواء تعرض لمثل هذه الحوادث أو لم يتعرض لها. فكل شئ في هذه الدنيا زائل, وإن القوة جميعا ًهي لله تعالى، لأن الإنسان عندما يواجه مثل هذه الحوادث والمصائب فإنه لايملك فرصة لتلافي أخطائه السابقة لأن الله تعالى قد يفاجئه بالموت في أية لحظة:

    أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( سورة الأعراف 185 )

    رحمة من الله تعالى

    فَكُلًّا أخذ نَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أرسلنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أخذ تْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أنفسهم يَظْلِمُونَ (سورة العنكبوت 40 )

    كانت غايتنا إلى حد الآن بيان حقيقة مهمة حول الغاية من خلق الإنسان. فكل شئ له علاقة وارتباط بالله سبحانه وتعالى.

    وكما تشير الآية الكريمة الآتية فإنه لاتوجد أية قوة تستطيع أن تتحدى ما قدره الله تعالى وما قضى به:

    وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( سورة يوسف 21 )

    ولكن، وكما بينت الآية الكريمة فإن أغلب البشر لايعرفون هذه الحقيقة, فهم يعيشون في هذه الدنيا ظناً منهم أنه سوف لن تصيبهم أية مصيبة حتى أنه لايدور في خلدهم أنهم قد يواجهون في يوم ما إحدى هذه الكوارث التي تحيط بهم, ولكنهم يرون أن تلك الحوادث بعيدة عنهم كل البعد إذ أنها لا تمسهم بشكل مباشر. فهم عند سماعهم لإحدى هذه الكوارث يتأثرون لفترة قصيرة بهذه الحادثة ولكنهم ينسونها بعد فترة قصيرة.

    نحن نعلم من تذكير الله تعالى لنا أنه من الخطإ الاعتقاد بأن عد الأيام الجديدة القادمة ستكون على نفس منوال اليوم الحالي. وبالإضافة إلى مااستعرضناه سابقا، فعلى الأشخاص الذين عاشوا تجارب كارثية، أن لايغيب عن بالهم بأن الأيام التي يعيشونها الآن لن تكون مختلفة عن باقي الأيام التي عاشوها, ولكن الفرق الوحيد هنا أن الله تعالى قد جعلهم يواجهون حادثة فقدوا من خلالها وفي لحظة واحدة جميع ما كانوا يملكونه.

    هناك عدد غفير من الناس يعيشون في غفلة عن هذه الحقيقة فهم يتناسون كون الدنيا دار مؤقتة للبقاء، ويغفلون كذلك عن حقيقة كونهم سوف يحاسبون أمام الله تعالى. فهم بضلالهم هذا ينشغلون في حياتهم الدنيا بأشياء لن تجلب لهم أي نفع بدلا من العيش من أجل كسب رضى الله تعالى.

    ومن هذه الناحية فإن الصعاب التي تحل بالإنسان تمثل رحمة من الله تعالى للذين يعيشونها وكذلك الذين يشهدون هذه الصعاب. وإن الله تعالى يحث البشر من أجل السعي في الطريق الذي رسمه الله تعالى لهم, وأن يجعلهم يشهدون بأن هذه الدنيا الزائلة عبارة عن خدعة كبيرة.

    ولهذا السبب فإن الله تعالى في الحقيقة يقدم الفرصة للبشر من خلال ما يتعرضون له من مصائب ومحن, وهذه المصائب تمنحهم الفرصة كي يتوبوا ويعدلوا من تصرفاتهم.

    وقد بين الله تعالى من خلال قرآنه الكريم مايجب أخذه من دروس وعبر من كل هذه الحوادث بقوله تعالى:

    أو لَا يَرَوْنَ أنهم يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (سورة التوبة 126 )



    الحضارات البائدة

    وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أو تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (سورة مريم 98 )

    لقد اختار الله تعالى الدنيا كمكان خاص لكي يختبر فيه الإنسان وأسكنه إياها. وطوال التاريخ أرسل الله تعالى كتب الحق بواسطة رسله لكي يدعوا البشر إلى طريق الحق, وأيضاً لكي ينذرهم ويخيفهم فيما إذا انحرفوا عن هذا الطريق. واليوم يوجد لدينا كتاب الحق يرشدنا إلى الهداية، وقد أرسله الله تعالى للمؤمنين، وهذا الكتاب يدعى القرآن الكريم وهو يفرق بين الخطإ والصواب والحلال والحرام ويخبرنا عما أصاب الأقوام الغابرة نتيجة لكفرهم وضلالهم. وينذرنا بأننا سوف نلقى المصير نفسه إذا سلكنا طريق الضلال.

    وقد ذكر الله تعالى في قرآنه الكريم أنه أرشد جميع الأقوام عبر التاريخ للطريق الصحيح مذكراً إياهم بواسطة رسله بأن دار الآخرة هي دار البقاء الحقيقي, وأن هذه الدنيا زائلة لامحالة. ولكن، ورغم ذلك نرى أن القرآن يخبرنا بأن أكثرية البشر ضلوا في عنادهم وعدم استجابتهم لنداء هؤلاء الرسل, ونتيجة لهذا فإن الله تعالى قد سلط عليهم عذاباً لم يكونوا يتوقعونه أبدا ومحى بعضهم تماما من خارطة الوجود كما ذكر في القرآن الكريم بقوله تعالى :

    وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (سورة الفرقان 38 - 40 )

    إن الدروس والعبر التي يجب أن نستقيها من خلال مراجعة ما حل بمصير الأقوام الغابرة قد عبر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى:

    أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهم فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأرسلنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ سورة الأنعام 6 )

    وهناك آية أخرى في هذا الموضوع تحذر الناس وتخوفهم وتعظهم:

    وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أشد مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيص إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (سورة ق 36 – 37 )

    وكما رأينا في الآيات السابقة فمن أهم أسباب نقل أخبار ما عاشته المجتمعات الغابرة هو تحذير الإنسان اليوم حتى لا يقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من أخطاء.

    من الخطإ النظر إلى المصائب وإلى الكوارث وآثارها التي حلت بالأمم السابقة من الزاوية التاريخية فقط:

    فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (سورة البقرة 66 )

    وهذه الحوادث التي كما وردت في الآية الكريمة بمثابة عبرة وتذكرة للآخرين. ولكن من المفيد أيضاً القول هنا : إن الله تعالى بدلاً من أن يرسل العذاب فورا على الذين يظلون على كفرهم وضلالهم, فإنه يرسل المنذرين لعل تلك الأقوام ترجع عن غيها وفسادها.

    بالإضافة إلى هذا أشار القرآن الكريم إلى حقيقة الذين يلاقون الصعاب في الدنيا إذ هي ليست سوى تذكرة إلى ما سيلاقيونه من عذاب أليم في الآخرة بقوله تعالى:

    وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (السجدة 21 )

    ولكن الهلاك سيصيب تلك الأقوام والذين لم ينتهوا من خلال ماجاءهم من نذير ووعيد, والذين استمروا وازدادوا في طغيانهم. ولقد عاقب الله تعالى الأقوام التي نشرت الفساد بأن أزالهم وجاء بأقوام آخرين لأنهم قضوا أعوامهم وأشهرهم وأيامهم في السعي خلف أهداف فارغة بعدما منحهم الله تعالى الغنى والعيش داخل بيوت جميلة, فلم يكونوا يدركون أن كل مالديهم من أغراض سيصيبها التلف والبلى, ولم يكونوا يعقلون بأن الذي يملكونه بين أيديهم سوف يزيل يوما ويختفي, فهم عاشو يومهم من دون التفكير في غدهم، وعاشوا دنياهم دون الاستعداد لآخرتهم, فقد ظنوا أن حياتهم الدنيوية دائمة لا تنتهي على الرغم من كون حياتهم الأبدية التي تبدأ بعد وفاتهم قريبة جداً منهم. وهذه الخديعة لم تمنحهم أي فائدة حيث أصبحت هذه الكوارث التي حلت بهم,عبرا لاتنسى على الرغم من مرور آلاف السنين حيث انتقلت من جيل إلى آخر.

    قوم ثمود
    قوم ثمود هو أحد الأقوام التي دمرها الله تعالى لكفرهم وطغيانهم والصد عن سبيل الله
    .
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  9. #19
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي

    [COLOR="Navy"]وكما أشار القرآن الكريم فقد كان أهل ثمود وقومه أغنياء وأقوياء, وكانوا يشتهرون كثيراً بأعمال الحرف الفنية, وقد بينت الآيات الكريمة مهارة قوم ثمود حيث قال الله تعالى:



    وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ (الأعراف 74 )

    وآية أخرى تبين حال معيشة قوم ثمود :

    أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (سورة الشعراء 146 – 149)

    وقد بعث الله تعالى سيدنا صالح عليه السلام رسولا لكي ينذر قوم ثمود ويخيفهم من عذاب الله الشديد حيث ملكهم الغرور نتيجة عيشهم حياة مرفهة ومريحة.

    وكان سيدنا صالح عليه السلام شخصا معروفا بين قومه, وقد ذهلوا حين دعاهم لكي يبتعدوا عما هم فيه من ضلال وانحراف. فالأكثرية من قومه لم يقبلوا دعوته لهم إلا قلة من قومه أذعنوا لما دعاهم إليه, ولقد اتخذ الأغنياء وأصحاب النفوذ والقوة عند قوم صالح عليه السلام موقفا عدائياً إذاء دعوته حيث كان هؤلاء الأشخاص هم الأكثر عنادا وإنكاراً لسيدنا صالح عليه السلام ولدعوته, وقد عمد هؤلاء المعاندون والمنكرون إلى الضغط على الذين أذعنوا لرسالة سيدنا صالح عليه السلام من خلال التضييق عليهم وعرقلة مسعاهم. وحينما كان سيدنا صالح عليه السلام يدعوهم لعبادة الله تعالى كانوا يظهرون غضبهم الشديد. وفي الحقيقة فإن هذا الصد والغضب لم يكن شيئا خاصا بقوم ثمود, بل هم وقعوا في الخطإ نفسه الذي وقع فيه قبلهم كل من قوم نوح وقوم عاد.

    والقرآن الكريم أشار إلى الأقوام الثلاثة هذه بقوله تعالى :

    أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أيديهم فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أرسلتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إليه مُرِيبٍ[/COLOR(سورة إبراهيم 9 )

    وقد كانوا قوما جادين في الوقوف ضد صالح عليه السلام بل وضعوا الخطط لقتله. وقد حذرهم نبي الله صالح عليه السلام من خلال ما ورد في الآيات التالية:

    أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلِ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيوتًا فَارِهِينَ (سورة الشعراء الآية 146_149)

    حيث خاطب أشراف ثمود الذين كانوا يظنون بأن هذا النعيم الذي هم فيه سوف لن يزول أبدا, بعدما خدعوا بالمظاهر الدنيوية الكذابة وزينتها الزائلة وقد ازداد طغيان قوم ثمود وظلمهم لأنهم كانوا غير مؤمنين بأن هناك عذابا شديدا سيلحق بهم. وقد وصل الأمر بمكابرة قوم ثمود وضلالهم بأن تحدوا سيدنا صالح عليه السلام وقالوا له:

    فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أمر رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ( سورة الأعراف 77 )

    ومقابل هذا أخبرهم نبي الله صالح عليه السلام بعدما أوصى الله تعالى له بأن الهلاك واقع بهم لامحالة خلال ثلاثة أيام:

    فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أيام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( سورة هود 65 )

    وهكذا هلك قوم ثمود وتحقق إنذار سيدنا صالح عليه السلام:

    وَأخذ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِين كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُوداَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ( سورة هود 67 – 68 )

    ومن هنا يتبين أنه ما من قوم عاشوا على وجه الأرض عاندوا وتكبروا إلا أصابهم الله تعالى بالعذاب غير آبه بماكانوا يملكونه من عظمة وثروة.

    واليوم نرى بأنه ليس هناك أي أثر لقوم ثمود وماكانوا يملكونه من مال وقوة, والذين تمادوا في طغيانهم وكفرهم حتى أنهم كانوا مستعدين لقتل رسول الله صالح عليه السلام. لقد كان مصير هؤلاء البشر الذين لم تعرف حتى أسماءهم مثل مصير بقية الكفار والمعاندين، نار جهنم خالدين فيها, وهذه النهاية هي عبرة ينبغي على البشر أن يتدبروها ويفكروا فيها.

    أهل سبأ
    تناول القرآن الكريم أهل سبأ :


    لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آية جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور فَأَعْرَضُوا فَأرسلنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ( سورة سبأ 15 – 17)

    فوفقا لهذه الآية الكريمة فإن أهل سبأ كانوا يعيشون حياة مرفهة، حدائق وبساتين وافرة, وكل ما كان الله تعالى يطلبه من قومه هو أن يشكروه على هذه النعم التي أسبغها عليهم, ولكن هؤلاء كذبوا بذلك وحسبوا بأنهم يملكون القوة والقدرة الكبيرتين, واغتروا بما لديهم, فكان العذاب هو مصيرهم الحتمي.

    السومريون العظماء


    عندما نبتعد عن شواطئ دجلة والفرات في جنوب العراق تمتد أمامك قفار شبيهة بالصحراء, تبدوا هنا وهناك تلال عديدة في هذه القفار الواسعة, لأن بقايا وآثار مدن كبيرة توجد تحت التلال المغطاة بالرمال, وقد أنشئت قبل 45 قرنا، وكانت تنبض بالحياة, محاطة بالقنوات والجداول والبساتين والحدائق الغناء. ولم يتبق من هذه المدن الآن سوى الرمال التي تنثرها العواصف وتاوى إليها بنات آوى والعقبان, ويخيم عليها صمت الموت. بينما كان يعيش فيها في يوم ما مجتمع حقيقي وحياً كمجتمعاتنا المعاصرة. وقد عاش أناس ذلك الزمان كما نعيش نحن في هذا العصر, وأسسوا وبنوا مدنا عظيمة ومدهشة.

    هذه الجمل تعود إلى عالم الآثار الشهير "Guy Rachet".


    لقد كانت الجنازة التي تم إعدادها لملكة ذلك العهد، وتدعى بوابي حقا ملفتة للنظر. فقد تم نقل معلومات من مصادر مختلفة فيما يخص هذه الجنازة. فقد تم تزيين جسم الملكة الميت بشكل مدهش لامثيل له, فقد تم تزيين فالقسم العلوي من جسدها زين بغطاء وقلائد مصنوعة من الفضة والحجر الأزرق والعقيق الأحمر وعشرات الأنواع المختلفة من الأحجار الثمينة, بالإضافة إلى طبقة إضافية من أحجار اللؤلؤ الثمينة والعقيق الأبيض، بينما القسم الأسفل للجسد وحسب ما نقلت عنه المصادر التاريخية فقد كانت مغطاة بغطاء وأهداب هذا الغطاء كانت تحوي على أحجار اللؤلؤة المحفورة, وكذلك نفس مجموعة الأحجار الثمينة والتي كانت تغطي القسم العلوي من الجسد. وكذلك كانت هناك باروكة شعر ثقيلة تغطي رأس الملكة وفوقها تاج على شكل ورود وأوراق من الذهب الخالص, وتزين أذنيها بأقراط تحوي أحجارا ثمينة وكانت توضع قرب راس الملكة مجوهرات ثمينة لها خاصية اللمعان الشديدة عند سقوط الضوء عليها حسب ما نقلته لنا المصادر التاريخية(11).

    ولكن رغم دخول الملكة قبرها مع كل هذه الكنوز, فإنها لم تحفظها من أن لا تتحول في النهاية إلى هيكل عظمي حالها حال كل البشر الذين دفنوا تحت التراب.

    فقد دفنت تحت التراب حالها حال الفقير والضعيف والذي اعتبرته حقيرا لايعني عندها شيئا فإن بدنها قد أصبح غذاء تتغذى عليها الحشرات الأرضية والبكتيريا حيث تتعفن شيئا فشيئا, وينتهي بها الأمر إلى أن تكون هيكلاً عظمياً.

    إن هذا المشهد المثير يمثل عبرة لنا, ومفاده أنه مهما كانت درجة الغنى ومهما عاش الإنسان حياة مملؤها الأبهة والعظمة فإن كل هذه سوف لن توفر له أي فائدة تذكر


    .
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  10. #20
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    09:13 AM

    افتراضي

    حضارة كريت

    هذه الحضارة التي اختفت فجأة كانت تمثل أولى أكبر الحضارات في القارة الأوروبية التي كانت مهدها مدينة كريت القرن الرابع عشر قبل الميلاد. فقد أنشأ القادمون من آسيا واليونان الذين سكنوا فيها قبل 2000 سنة قبل الميلاد, القصور الفخمة والعظيمة. ولكن أهم ماكان ما يلفت النظر عند هذا الشعب هو مفهوم الهوى المنحرف.

    لذلك فقد كان الله تعالى يرسل لهم بين الحين والآخر هزات أرضية خفيفة الشدة كي ينذرهم وينبههم لكي يبتعدوا عن هذا الانحراف ولكي يتذكروا يوم القيامة. ولكن في النهاية حدثت كارثة كبيرة. فقد انفجر بركان في جزيرة ثيرا التي هي جزء من مجموعة جزر كيكلادس التي تقع في شمال جزيرة كريت، ونتيجة لهذا الانفجار الهائل حدثت هزة أرضية عنيفة(12) دمرت القصور العظيمة في جزيرة كريت، وقد غطت السحب البركانية الرمادية سماء المدينة وغرقت المدينة في ظلام دامس, كما أن الرماد غطى أنقاض القصور المتهدمة. فقد حدث في البحر هيجان عظيم لم يشهد له مثيل من قبل, فقد دفن ميناء كانوسوس تحت مياه البحر. لقد كان انهيار قصور كريت شيئاً يبعث على الرعب, فقد غطت الأمواج البحرية العملاقة في وقت واحد جميع المدن الساحلية ودفنتها تحت المياه.

    لم تكن حضارة كريت التي كانت في العديد من النواحي من أهم الحضارات في تلك الفترة أن تعتقد بأن نهايتها ستكون على هذه الشاكلة المرعبة، حيث أن هذه الكارثة المرعبة كانت السبب الرئيسي في هلاك أغلبية سكانها وتدمير قصورها العظيمة, فمن ورائهم لم يبق هناك أناس يتباهون بغناهم, وكذلك لم يبق ما كانوا يحلمون به من حياة خالدة. وما تبقى هو مجرد أطلال حضارة اندثرت ومجرد أبنية متهدمة متناثرة هنا وهناك. ويشير القرآن الكريم إلى وجوب اتخاذ مصير مثل هذه الحضارات القديمة عبرة للإنسان المعاصر بقوله تعالى :

    أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (سورة السجدة 26 )

    كارثة بومبي
    حسب ما تورده المصادر التاريخية فقد كانت مدينة بومبي ( تقع الآن في إيطاليا ) قبل 2000 عام من أكثر المدن التي تتمتع بحياة رغيدة. وقد كانت المدن في العصور القديمة تعرف من خلال ما تشتهر به من ترف وبهجة لا تعرف الحدود، لذلك كانت مدينة بومبي إحدى هذه المدن. والزائر الآن لايجد في هذه المدينة سوى خرائب هنا وهناك حيث كانت في يوم ما محلا تنتشر فيه محلات بيع الخمور وبيوت الدعارة, وكانت هذه المدينة التي كان يقصدها الأغنياء من أهل روما ويفضلونها تقع في وسط تحدها من جهة غابات جبال فينوس والبحر من جهة أخرى. ولكن نتيجة لانفجار إحدى أهم براكينها في التاريخ أدت إلى طمس معالم هذه المدينة الجميلة، ويمكن اليوم رؤية جميع تفاصيل حياة أهل روما بعدما تحولوا إلى أحجار بفعل الحمم البركانية التي انبعثت نتيجة ذلك الانفجار الهائل.

    لقد وقعت الكارثة في صباح 24 آب من سنة 79 ميلادية حيث جاء أغنياء الرومان لقضاء الصيف في القصور الفخمة المبنية على سفوح جبل فيزرف في مدينة بومبي(13). فقد بدأت في بادي الأمر بهزة أرضية انطلقت بعدها أصوات انفجارات مدوية منطلقة من الجبل هزت السماء. وحسب مانقلته المصادر التاريخية فإن أعمدة من النيران كانت تنطلق باتجاه السماء والتي كان يعقبها دخان عظيم. وفي الوقت نفسه كانت السماء ترتج بفعل الانفجارات الجديدة, وبدأت وابل من الأحجار والرماد والتراب والحمم البركانية في التساقط على المدينة على شكل قطع صلبة. وقد تملك سكان مدينة بومبي الرعب الشديد لكونهم كانوا أقرب من جبل فزوف البركاني فأخذوا في الفرار بعدما تملكهم الخوف الشديد نتيجة لتقدم سيل من الطين الحار الملتهب والذي تحرك باتجاه المدينة على شكل أمواج متدفقة, وأما الذين لم ينجحوا في الهرب فقد دفنوا تحت أنقاض البنايات المتهدمة وتحت الحمم البركانية المنصهرة ولكن الشئ الذي يبعث على الحيره بل ويجب أن يتخذ عبرة هو ماوجده وماشاهده علماء الآثار من معلومات نتيجة الحفريات التي أجروها هو تردد أكثرية أهالي المدينة في ترك المدينة خلال الكارثة. فقد لجأ الأغنياء والذين لم يفكروا في ترك أموالهم وممتلكاتهم إلى بيوتهم كي يحتموا من تساقط الرماد الحارق عليهم إحساسا منهم بإمكانية ان يجدوا الملاذ الآمن, ولكن الوقت قد فات لكي يفروا وماتوا.

    فقد انمحت من التاريخ خلال يوم واحد جميع أشكال الحياة في كل من مدينة بومبي وبعض القرى المحيطة بها. وقد ذكر القرآن الكريم أخبار الذين لاقوا حتفهم على هذه الشاكلة بقوله تعالى :

    ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (سورة هود 100)

    بعد إجراء الحفريات والبحوث تبين أن سكان بومبي كانوا وكأنما قد تجمدوا فجأة , فقد ظهر شكل الأهالي وهم متحجرون أثناء لفظهم أنفاسهم الأخيرة,فقد دهمتهم الكارثة فجأة. وحسب ما أخبر عن ذلك القرآن الكريم :

    وَكَذَلِكَ أخذ رَبِّكَ إذا أخذ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أخذ هُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (سورة هود 102 )



    لقد دمرت مدينة بومباي ذات العشرين ألف نسمة وقتل معظم سكانها مع جميع ما كانت تمتلكها من آثار فنية جميلة. ولقد دمر الزلزال هذه المدينة الجميلة وقضى على آثارها الجميلة.



    إن ما نشاهده اليوم من آثار تعود إلى حضارات عاشت قبل مئات الآلاف السنين تظهر بوضوح أنه على الرغم من كل ما كانوا يتمتعون به من غنى, فإن هذا لم يمنحهم أي فائدة تذكر. وإن كل شئ تركوه من خلفهم أضحى ميراثا للذين أتوا من بعدهم, وتجدر الإشارة هنا إلى أن أكبر وهم وقع فيه أولئك الذين عاشوا في مثل هذه المجتمعات واندثروا هو اعتقادهم بأنهم سيملكون النعم الدنيوية إلى الأبد, وماصنعوه من أبنية سوف تجعلهم مخلدين إلى الأبد، وهذا الوهم نراه واضحاً في يومنا هذا، فالملاحظ أن الإنسان يحاول أن يجعل ذكراه تعيش إلى الأبد بقيامه بعمل مختلف الآثار الفنية لترسيخ هذه الفكرة, والقسم الآخر منهم من يضحي بالكثير كي يقوم بجمع المزيد من الأموال ظناً منه أنها ستعود عليهم بالفوائد الكبيرة.

    وهؤلاء قد تجاوزوا الذين سبقوهم من قبل لما أبدوه من الزيغ والضلال وحتى عدم اكتراثهم لجميع أنواع الإنذارات التي أرسلها الله تعالى لهم ليكفوا عن ما هم عليه. ولكن هناك حقيقة مهمة جدا ً يجب على هؤلاء الأشخاص أن لاينسوها, وهي أخذ عبرة خلفتها شواهد وآثار عظيمة لمجتمعات وجدت من قبل ثم اندثرت فلم يبق في هذه الدنيا أحد منهم مخلدا. والذين سعوا إلى تخليد ذكراهم قبل موتهم في هذه الدنيا بما قام به من أعمال وما تركه من آثار لم تجلب لأجسامهم المتآكلة أي منفعة تذكر, ولكن بقايا الآثار الموجودة تمثل عبرة للذين يريدون أن يستخلصوا العبر والدروس من هذه الدنيا, ولكي لا ينسوا ويتذكروا ما سيحل بهم من عذاب إلهي أليم. ولهذا فإن الله تعالى من خلال هذه الأمثلة ينذر الذين يتعلقون برغبة شديدة بهذه الدنيا. ومما لاشك فيه أن الذين يتدبرون ويأخذون الدروس من هذه الحوادث سيعلمون أن الله تعالى قد أوجد هذه الحوادث, وأنه قادر في أي لحظة أن يمتحن البشر بإرسال أشد أنواع العذاب. إن الدنيا هي فقط مكان الاختبار والامتحان. فالذي يؤدي هذا الامتحان حسب ما يطلب منه فإنه سيكون رابحا. أما الذين يرون هذه الدنيا دار بقاء، فإنهم سيواجهون خسارة مماثلة كما هو الحال بالنسبة للأقوام التي مر ذكر أحوالها في الأمثلة السابقة. وهذا بالتأكيد ناتج عما جنته أيديهم وأنهم في الآخرة سيحاسبون على ما اقترفته أيديهم وماقاموا به من الأعمال ولاشك أن الله تعالى هو الذي يعرف المحسن من المخطئ


    .
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 1 2 3 الأخيرةالأخيرة

حقيقة الحياة الدنيا كتاب رائع جدا

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. حقيقة الدنيا
    بواسطة المهتدي بالله في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-08-2009, 03:24 PM
  2. أدب الدنيا والدين للماوردي كتاب الكتروني رائع
    بواسطة عادل محمد في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-11-2008, 06:06 PM
  3. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 19-08-2008, 10:43 AM
  4. اصطناع المعروف لابن أبي الدنيا كتاب الكتروني رائع
    بواسطة عادل محمد في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 09-08-2007, 07:10 PM
  5. أدب الدنيا والدين للمواردي كتاب الكتروني رائع
    بواسطة عادل محمد في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-07-2007, 06:33 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

حقيقة الحياة الدنيا كتاب رائع جدا

حقيقة الحياة الدنيا كتاب رائع جدا