« آل عمران »

تمهيد :
تتفقُ البشريّةُ علىٰ أصولٍ عدة ؛ وتتقيد بقيمٍ وقناعات ؛ وتتقبلُ مفاهيم بعينها ولا تحيد عن مقاييس توضعها ، ثم تتباين وتتعارض - عند تفعيلها أو تطبيقها إو إخراجها - علىٰ ما عند كل منها داخل حدودها الجغرافية و وفق منظومتها العقدية وتمشياً مع تراثها ، فـ الجميع يتفق علىٰ أن الظلم مرفوض والعدل مقبول والعنصرية والعبودية نظام لا يصلح للإنسان بصفته الأصلية ، والحرية في الإختيار هي أساس أصيل في كينونته الوجودية ... وهذا ينطبق علىٰ بقية مفردات سلسلة الأصول التي تعارفت عليها الإنسانية منذ بداية الخليقة وحتى الأن ؛ وأيضاً مجموعة القيم وحزمة المفاهيم والقناعات والمقاييس ؛ بيْدَ أن الإنسان نفسه هو الذي يجحف ويظلم و يتعدى فيعطي لنفسه حق التعديل والتغيير بل تسول له نفسه حق إنهاء حياة إنسان آخر .. قد يغايره في العقيدة أو في كيفية رعاية الشؤون ، والملفت للإنتباه أن الذي يشقى هو الإنسان عينه ؛ سواء الخارج عن المنظومة المعترف بها أو هذا الذي داخل إطارها .
وقصةُ السيد المسيح عيسىٰ ؛ كلمة الله ـ عليه السلام ـ ابن مريم الصديقة مثالٌ صارخ لهذا الإعتداء علىٰ النفس البشرية وتصفيتها فكرياً أو معنوياً أو جسدياً ... حين تتم المخالفة والمعارضة - لما عند القوم من سلوكيات حياتية ـ وترافقهما المناصحة ؛ فـ فريق لا يقبل وفريق وقع عليه الظلم والإعتداء .
قصة « آل عمران » هذه ؛ محاولة من الكاتب لإعادة قراءة التاريخ من مصادره المتعددة وعرض رؤية كل فريق وتبني وجهة نظر مقبولة تقنع العقل فتطمئن النفس وينعقد عليها القلب ؛ ويبقى للإنسان العاقل وحده الإختيار الكامل في قبول العرض أو مناقشته في هدوء مع مَن يملك الدليل أو الحجة أو رفضه بالكليّة دون التجني علىٰ موروث أو مصادره ما يملكه الآخر من أدلة وبرهان بُنيَّ عليه عقيدة وإيمان .. هذا جانب ، والآخر - وهو الأهم ـ تقديم تهئنة حارة بعيد الميلاد المجيد لقطاع كبير من أتباع السيد المسيح ابن العذراء الصديقة مريم البتول .

توطئة :
تتفق مراجع ومصادر اليهود و النصارى والمسلمين على أصل قصة آل عمران ، ثم يأتي مِن بعد ذلك التفصيل والبناء القصصي وفي إثناء العرض تأتي من علوٍ أنوارٌ لتسلط الضوء الساطع على ٰ مفاصل العقيدة في الدين لتؤكد علىٰ أسس الإيمان كـ القدرة المطلقة للآله مثل خاصية الخلق والإيجاد من عدمٍ ، فتسقط المقارنة/ المقاربة بقدرة الإنسان في إيجاد ما يحتاج إليه في حياته الدنيا من أدوات وأشياء أو ما يظنه صالح بمقياس عقله وإدراكه لما ينفعه في حياته .
في هذا الجزء من بحثي " التصفية والتربية " وعماده مقارنـ(بـ)ـة الأديان ؛ نتعرض لقصص الأنبياء ونخص هذه العائلة الكريمة بمزيد تفصيل ، كي نأصل بعض القواعد ونؤكد على بعض الحقائق .

وقد سبق أن نشر على الموقع بحثا للكاتب عن الشريفة " ماريا بنت شمعون القبطية ؛ سليلة الملوك وزوج نبي وأم ابن نبي ـ إبراهيم ـ وأم المؤمنين ؛ رضي الله عنها .
***
من المسائل الهامة والتي من شأنه هو سبحانه وتعالى دون سواه وتخصه دون منازع ؛ مسألة :

الإصطفاء :
يذكر سبحانه وتعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام واختار الخُلَّص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته ، ثم خصص فقال : « وَآلَ إِبْرَاهِيمَ » فدخل فيهم بنو إسماعيل ، ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب ؛ وهم « آل عمران » ، والمراد بـ « عمران » هذا والد مريم عليها السلام ، فقال جلَّ في علاه وعلا في سماه وهو أصدق القائلين : « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم » .
سَطرَ ابنُ الأثير في موسوعته فكتب :" كَانَ عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ، وَكَانَ آلُ مَاثَانَ رُءُوسَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ ، وَكَانَ مُتَزَوِّجًا بِحَنَّةَ بَنْتِ فَاقُودَ ، وَكَانَ زَكَرِيَّاءُ [1] بْنُ بَرْخِيَّا مُتَزَوِّجًا بِأُخْتِهَا إِيشَاعَ [2] ، وَقِيلَ : كَانَتْ إِيشَاعُ أُخْتَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ " [3] ، وجاء في بداية ابن كثير :" وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَوْجَ أُخْتِ مَرْيَمَ أَشْيَاعَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ ، وَقِيلَ : زَوْجُ خَالَتِهَا أَشْيَاعَ ؛ فَاللَّهُ أَعْلَمُ " [4] .

أصل ميلاد مريم
ثم بيّن مَن أمره بين الكاف والنون " أصل ميلاد مريم " « إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم » [آل عمران:35] [5]

« أم مريم »
هي امرأة عمران واسمها حَنّة بنت فاقوذا [6] أم مريم ، والمراجع المسيحية تذكر كذلك اسمها هكذا : " حنة أم مريم العذراء وزوجة يوياكيم . و لا نجد هذا الاسم في الأناجيل القانونيّة بل في إنجيل يعقوب وإنجيل مولد مريم . [8]

جدة عيسى عليه السلام:
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تسميها " القديسة " حنة ؛ فـ هي والدة السيدة العذراء مريم والدة " الإله " ، كانت هذه الصدِّيقة ابنة لـ " ماثان بن لاوي بن ملكي من نسل هارون الكاهن " ، واسم أمها " مريم من سبط يهوذا "، وكان لـ " ماثان " هذا ثلاث بنات : الأولى مريم باسم والدتها وهي أم سالومي القابلة ، والثانية صوفية أم أَلِيصَابَات ؛ والدة القديس يوحنا المعمدان ، والثالثة هي هذه القديسة حنة زوجة الصديِّق يواقيم من سبط يهوذا ووالدة السيدة العذراء مريم . بذلك تكون السيدة البتول و سالومي و أليصابات بنات خالات .

هذا ما قررته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية .

تكمل الكنيسة قولها :" وإن كنا لا نعلم عن هذه الصدِّيقة شيئًا يذكر إلا أن اختيارها لتكون أمًا لوالدة " الإله بالجسد " لهو دليل على ما كان لها من الفضائل والتقوى التي ميزتها عن غيرها من النساء حتى نالت هذه النعمة العظيمة ".
وتردف الكنيسة فتقول :" إذ كانت عاقرًا ؛ كانت تتوسل إلى الله أن ينزع عنها هذا العار ، فرزقها ابنة بركة لها ولكل البشر ، هي العذراء مريم . " [9] .

و لا يعرف في العربية امرأة اسمها حنة .

أما بالنسبة لاسم جدة مريم عليها السلام ، فلم يرد له ذكر فيما اطلعنا عليه من كتب التفسير .
****
إشكالية الترجمة من الأصل الأرامي أو اليوناني :
المتتبع لترجمة جدة المسيح يجد التالي :
[ أ . ] المراجع المسيحية
[ 1 . ] حنة زوجة الصديِّق يواقيم ،
وفي موضع آخر
[ 2 . ] " حنة أم مريم العذراء وزوجة يوياكيم .
دون ذكر نسبها .

أما الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فتقول :
[ 3 . ] حنة ؛ ابنة لـ " ماثان بن لاوي بن ملكي من نسل هارون الكاهن " ،

[ ب . ] في المراجع الإسلامية :
نقرأ التالي :
[ 1.] امْرَأَةُ عِمْرَانَ ، وَهِيَ " حَنَّةُ بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ مَرْيَمَ " [10]
وَهِيَ
[ 2. ] " حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلَ ، مِنَ الْعَابِدَاتِ " [11]
فـ ذكر الطبري " امْرَأَةُ عِمْرَانَ ؛ هِيَ أُمُّ مَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ أَمِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَكَانَ اسْمُهَا فِيمَا ذُكِرَ لَنَا حَنَّةَ ابْنَةَ فَاقُوذَ بْنِ قَبِيلٍ ، فـ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي نَسَبِهِ ؛ وَقَالَ غَيْرُ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ: ابْنَةُ فَاقُودَ - بِالدَّالِ - ابْنِ قَبِيلٍ .".
ابن جرير يطمئن القارئ بجملة إعتراضية إذ يقول :" .. فِيمَا ذُكِرَ لنا .. " . [12]
[ 3 . ] وتفسير القرطبي وغيره ذكر :" أن اسمها حنة بنت قاعود بن قبيل "
****
[ ج . ] القرآن الكريم
جاءت الإشارة إلى أم مريم في سورة آل عمران عند الآية الخامسة والثلاثين حيث قال تعالى : « إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » [آل عمران:35] .
ولم يصرح القرآن الكريم باسمها كما يبدو من الآية . ولو كان هناك فائدة ترجى لذكر اسمها ونسبها ، أو أخبر بذلك رسوله ؛ خاتم الأنبياء وآخر المرسلين ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، بيْدَ أن أمانة البحث ألزمتني ذكر ما جاء في المراجع والمصادر بخصوص هذا الباب - باب نسب جدة عيسى عليه السلام .

الجزء القادم من البحث : " جد عيسى عليه السلام "
.Dr
MUHAMMAD
ELRAMADY

الرمادي من الْإِسْكَنْدَرِيَّة
23 محرم 1433هـ ~ 18 ديسمبر 2011م

ـــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي والمراجع :
[ 1. ] شرح كلمة زَكَرِيَّا الكاهن ؛ أبو يوحنا المعمدان في الكتاب المقدس : " اسم عبري: זְכַרְיָה. معناه " يهوه قد ذكر " ، وقد تسمى بهذا الاسم اثنان وثلاثون شخصاً في الكتاب المقدس : فهو كاهن من فرقة أبيا (لو 1: 5) ، وفرقة أبيا وهي الفرقة الثامنة من الفرق الأربع والعشرين التي قسم إليها داود الملك بني هارون الكهنة (1 أخ 24: 1, 10) .- وهو أبو يوحنا المعمدان وقد ذكرت صفاته وصفات امرأته بأبسط العبارات وأتمها وضوحاً ، وكانا ؛ هو وامرأته أليصابات - من بنات هارون ، كانا كلاهما ورعين بارين سالكين في جميع وصايا الرب وباذلين وسعهما ليحصلا على نعمة الروح القدس (لو 1: 6) . أما مولد يوحنا فأعلن بطريقة عجيبة خارقة للعادة . فلم يصدق بل شك وطلب علامة غير اعتيادية دفعاً لما في نفسه من الريبة فكانت آيته أن فقد قوة النطق وبقي صامتاً إلى اليوم الثامن بعد ميلاد الصبي إذ دعاه يوحنا حسب قول الملاك له ، وفي الحال انطلق لسانه وعاودته قوة النطق . فأخذ يشكر الله ويحمده مملوءاً من الروح القدس ومسبحاً الرب بنشيد أشبه بالتسابيح العبرانية القديمة (لو 1: 57-80) . و " لم يكن لهما ولد إذ كانت أليصابات عاقراً ، وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما " (لو 1: 5-7) . وفي إحدى نوبات فرقته ، " أصابته القرعة أن يدخل إلي هيكل الرب ويبخر . فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور" (لو 1: 8-11) ، وبشره أن امرأته ستحبل وتلد له ابناً يسميه يوحنا ، " يكون عظيماً أمام الرب.. ومن بطن أمه يمتليء من الروح القدس.. لكي يهيء للرب شعباً مستعداً " . ولما أبدي زكريا شكه في إمكان حدوث ذلك ، أصابه بالخرس فكان صامتاً إلي يوم ختان يوحنا (لو 1: 13-22 , 62-64) . ولما ولد الصبي وأرادوا أن يختنوه في اليوم الثامن حسب الوصية ، وأرادوا أن يطلقوا عليه اسم أبيه ، طلبت أمه أن يسمي يوحنا ، فاعترض أقرباؤها ، ثم " أومأوا إلي أبيه ماذا يريد أن يسمي . فطلب لوحاً وكتب قائلاً اسمه يوحنا فتعجب الجميع ، وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله ". وإذا امتلأ بالروح القدس ترنم بالأنشودة الجميلة عن خلاص الرب لشعبه المسجلة في إنجيل لوقا (1: 67-79).
[ 2 . ] يشرح قاموس الكتاب المقدس كلمة أَلِيصَابَات فيقول : " هذه هي الصيغة اليونانية لاسم لفظه في اللغة العبرية " اليشبع " أي " الله قسم " وهو اسم امرأة تقية من سبط لاوي ومن بيت هارون . واسمها في العبرية هو نفس اسم امرأة هارون " اليشبع ". وكانت أليصابات هذه زوجة زكريا وصارت فيما بعد أم يوحنا المعمدان الذي ولدته بعد أن كانت قد تقدمت بها السن . وقد زارت العذراء مريم اليصابات في أرض يهوذا الجبلية . وقد أوحي إلى اليصابات بالروح القدس فرحبت بمريم داعية إياها " أم ربي " (لو 1: 5-45) . وتُعَيِّد لها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يوم 16 أمشير . [ قاموس الكتاب المقدس ] ، ومع أنها كانت من سبط يختلف عن السبط الذي جاءت منه مريم في الناصرة إلا أنهما كانتا قريبتين . فـ أليصابات امرأة زكريا تمتُ بصلة القرابة للعذراء مريم (لو 1: 36) . ولم يذكر الكتاب المقدس صلة هذه القرابة .
[ 3. ] ابن الأثير؛ عزالدين أبو الحسن علي ، الكامل في التاريخ ، دار الكتاب العربي ، سنة النشر 1417هـ / 1997م .
[ 4. ] إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي؛ البداية والنهاية ، دار عالم الكتب ، سنة النشر 1424هـ / 2003م .
[ 5. ] ابن كثير ، قصص الأنبياء ، الجزء الثاني .
[ 6. ] هذا مارود عند البغوي 1 294 ، أما القرطبي 2 4 42 فقد ذكر اسمها هكذا " فاقود بن قنبل " ، أما في تاريخ الطبري 1 585 فقد ورد اسمها " بنت فاقود بن قبيل .
[ 7. ] قدير الشوكاني 1 334 بنت فاقود بن قبيل أم مريم فهي جدة عيسى وعمران هو ابن ماثان جد عيسى.
[ 8. ] موسوعة البشارة الشبكة الإلكترونية .
[ 9. ] موقع القديس " تكلا ".
[ 10. ] الحسين بن مسعود البغوي ، تفسير البغوي ، دار طيبة ، دون ذكر سنة النشر .
[ 11. ] محمد بن جرير الطبري ؛ التفسير ، دار المعارف ، دون ذكر سنة النشر ، وانظر أيضاً إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ، البداية والنهاية ، دار عالم الكتب ، سنة النشر 1424هـ / 2003م .
[ 12. ] محمد بن جرير الطبري ؛ التفسير ، رقم 6856 ، دار المعارف ، دون ذكر سنة النشر .