أيام التطهير (طيهور)
«طيهور» كلمة عبرية تعني التطهير. بعد إعلان إقامة الدولة اليهودية مساء يوم 14 أيار، كانت الأوامر التي تلقتها الوحدات في الميدان من الأعلى تستخدم هذا التعبير بصورة متكررة وبصراحة. وقد اختارت القيادة العليا هذا النوع من اللغة كي تشحن الجنود الإسرائيليين بالطاقة قبل أن ترسلهم لتدمير الريف الفلسطيني والمناطق الحضرية. وكان هذا التصعيد في الخطاب الاختلاف الوحيد عن الشهر السابق. أمّا عمليات التطهير فقد تواصلت بلا هوادة.
استمرت الهيئة الاستشارية في عقد اجتماعاتها، لكن بوتيرة أقل، لأن الدولة اليهودية أصبحت أمراً واقعاً(fait accompli) ، لها حكومة، ومجلس وزاري، وقيادة عسكرية، وأجهزة سرية، إلخ، وكل في مكانه. ولم يعد أعضاؤها مشغولين بخطة الطرد الرئيسية، إذ إن الخطة دالِتْ، منذ وضعها موضع التنفيذ، كان كل شيء فيها يسير على ما يرام، ولم تعد بحاجة إلى تنسيق أو توجيه. وتركز اهتمامهم الآن على تفحص ما إذا كان لديهم قوات كافية لتحمّل «الحرب» على جبهتين: ضد الجيوش العربية، وضد المليون فلسطيني الذين أصبحوا في 15 أيار، بموجب القانون الدولي، مواطنين إسرائيليين. لكن بحلول نهاية أيار، كانت حتى هذه المخاوف قد تبددت.
وإذا كان ثمة جديد طرأ على طريقة عمل الهيئة الاستشارية، فإنه لم يتعدّ الانتقال إلى مبنى جديد قائم على قمة هضبة مشرفة على قرية الشيخ مونّس، التي تم إخلاؤها. وقد صار هذا المبنى، بعد إعلان الدولة، المقر الرئيسي لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي. ومن هذا الموقع المتميز، كان في استطاعة الهيئة الاستشارية أن تراقب عملياً الهجوم الذي بدأ في الأول من أيار ضد القرى الفلسطينية المجاورة. ولم يكن هذا الهجوم هو الوحيد الذي نفذ في ذلك اليوم، إذ تزامنت معه عمليات مماثلة في الشرق والشمال. وفي وقت لاحق كُلِّف لواء ألكسندروني مهمة تطهير القرى الواقعة إلى الشرق والشمال من تل أبيب ويافا. وبعد ذلك، أُمر بالتحرك شمالاً والبدء، مع وحدات أُخرى، بإخلاء الساحل الفلسطيني من السكان الفلسطينيين صعوداً حتى مدينة حيفا.
وصلت الأوامر إلى اللواء في 12 أيار. «يجب أن تحتلوا وتدمروا خلال 14 و15 أيار: الطيرة؛ قلنسوة؛ قاقون؛ إيراتا؛ دنابه؛ قطبا؛ الشويكة. وعلاوة على ذلك، يجب أن تحتلوا قلقيلية، لكن لا تدمروها [المدينة في الضفة الغربية التي فشل لواء ألكسندروني في احتلالها والمحاطة اليوم كلياً بجدار عازل أقامته إسرائيل، يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار]». وخلال يومين وصل الأمر الثاني إلى رئاسة أركان لواء ألكسندروني: «عليكم أن تهاجموا وتطهروا كلاً من طيرة حيفا؛ عين غزال؛ إجزم؛ كفر لام؛ جبع؛ عين حوض؛ المزار.»
وباستعادة الطريق الذي اتبعه اللواء، يبدو أن القوات فضلت تنظيف المنطقة بصورة منهجية من الجنوب إلى الشمال، وإنجاز تدمير القرى بالترتيب الذي بدا صحيحاً من وجهة نظرها، بدلاً من اتباع التعليمات حرفياً في ما يتعلق بأي قرى يجب مهاجمتها أولاً. وبما أن القائمة بكاملها كانت الهدف الإجمالي، فإنه لم تُذكر أولويات واضحة. وقد بدأ ألكسندروني بقريتين واقعتين إلى الشمال والشرق من تل أبيب: كفر سابا وقاقون، اللتين طُرد سكانهما كما يجب. وادعت الأمم المتحدة أن حالة اغتصاب حدثت في أثناء احتلال قاقون، وعززت شهادات أدلى بها جنود يهود هذه الواقعة.
كان إجمالي عدد القرى في المنطقة الممتدة بين تل أبيب وحيفا أربعاً وستين قرية، في مستطيل من الأرض يبلغ طوله 100 كلم وعرضه 15 - 20 كلم، أُبقي منها في نهاية المطاف قريتان فقط: الفريديس وجسر الزرقاء. وكان من المقرر طرد سكانهما أيضاً، لكن أعضاء المستوطنات اليهودية المجاورة أقنعوا قادة الجيش بعدم المساس بهما، مدَّعين أنهم بحاجة إلى القرويين للقيام بأعمال لا تتطلب مهارة في مزارعهم ومنازلهم. واليوم يخترق هذا المستطيل طريقان سريعان رئيسيان يصلان بين المدينتين الرئيستين، تل أبيب وحيفا: الطريق السريع رقم 2 والطريق السريع رقم 4. ويستخدم هذين الطريقين يومياً مئات الآلاف من الإسرائيليين في تنقلاتهم من دون أن يكون لديهم أية فكرة عن الأماكن التي يعبرونها، ناهيك عن تاريخها. وقد حلّت مستعمرات يهودية وغابات صنوبر وبرك تجارية لتربية الأسماك محل المجتمعات الفلسطينية التي كانت ذات يوم مزدهرة هناك.
كانت سرعة تقدم لواء ألكسندروني في تطهير المستطيل الساحلي مرعبة- خلال النصف الثاني من الشهر وحده، طهّر القرى التالية: المنشية (في منطقة طولكرم)؛ البطيمات؛ خربة المنارة؛ قنير؛ خربة قمبازة؛ خربة الشونة. وقد قاوم عدد قليل من القرى بشجاعة فلم يتمكن لواء ألكسندروني من احتلالها؛ إلاّ إنها في النهاية احتُلت في تموز (يوليو) وجرى تطهيرها. خلاصة القول: مرت عمليات التطهير العرقي في السهل الساحلي الأوسط بمرحلتين: الأولى في أيار، والثانية في تموز، وفي النصف الثاني من أيار، كانت «الغنيمة» الكبرى قرية الطنطورة، التي احتلها لواء ألكسندروني في 22 أيار 1948.
المجزرة في الطنطورة
كانت الطنطورة بالنسبة إلى لواء ألكسندروني عالقة «كعظمة في الحلق»، على حد ما جاء في الكتاب الرسمي الذي يروي تاريخ لواء ألكسندروني في الحرب. وجاء دور الطنطورة في 22 أيار.
كانت الطنطورة قرية فلسطينية قديمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يقطنها في ذلك الوقت نحو 1500 نسمة يعتمدون في معيشتهم على الزراعة، وصيد الأسماك، وأعمال وضيعة في حيفا المجاورة. في 15 أيار 1948، اجتمعت مجموعة صغيرة من أعيان الطنطورة، بمن في ذلك مختارها، بضباط من الاستخبارات اليهودية عرضوا عليهم شروط الاستسلام. وساور الأعيان شك في أن الاستسلام سيؤدي إلى طرد سكان القرية، فرفضوا العرض.
بعد أسبوع، في 22 أيار 1948، هوجمت القرية ليلاً. في البداية، أراد القائد اليهودي المسؤول إرسال عربة إلى القرية تحمل مكبراً للصوت لدعوة السكان إلى الاستسلام، لكن لم يتم ذلك.
أتى الهجوم من أربع جهات. وكان ذلك أمراً غير مألوف؛ فاللواء كان يهاجم عادة من ثلاث جهات، تاركاً لغرض تكتيكي الجهة الرابعة، لتكون بمثابة «بوابة مفتوحة» يمكن أن يطرد الناس من خلالها. لكن غياب التنسيق جعل القوات اليهودية تطوق القرية تطويقاً كاملاً، بالتالي وجدت نفسها وفي عهدتها عدد كبير من السكان.
وأُجبر سكان الطنطورة الأسرى تحت تهديد السلاح على التجمع على الشاطئ. ثم فصلت القوات اليهودية الرجال عن النساء والأطفال، وطردت الأخيرين إلى قرية الفريديس المجاورة، حيث انضم إليهم بعض الرجال بعد عام ونصف العام.
وفي هذه الأثناء، أُمر مئات الرجال المجمَّعين على الشاطئ بالجلوس وانتظار وصول ضابط استخبارات إسرائيلي، شمشون ماشفيتس، كان يقطن في مستعمرة غِفْعات عادا المجاورة، وكانت القرية ضمن نطاق «منطقته».
جال ماشفيتس برفقة متعاون محلي، مغطّى الرأس كما في عين الزيتون، واختار عدداً من الرجال- مرة أُخرى، كان «الرجال» في نظر الجيش الإسرائيلي هم جميع الذكور ما بين سن العاشرة وسن الخمسين- اقتادهم في مجموعات صغيرة إلى بقعة أبعد قليلاً، حيث جرى إعدامهم. وقد اختير الرجال وفقاً لقائمة معدة سلفاً، ومأخوذة من ملف قرية الطنطورة، واشتملت على كل من شارك في ثورة 1936، أو في هجمات على وسائط النقل اليهودية، أو كانت له اتصالات بالمفتي، وأي شخص آخر «ارتكب» واحدة من «الجرائم» التي تدينه تلقائياً.
ولم يكن هؤلاء هم الوحيدون الذين جرى إعدامهم. فقبل أن تجرى عملية الفرز والإعدام على الشاطئ، اندفع جنود الوحدة المحتلة إلى الشوارع وإلى داخل البيوت في فورة قتل عشوائي مطلقين النار على كل من صادفهم. جُويل سكول###، خبير بزرع الألغام وتفجيرها، كان قد جرح في الهجوم، لكن بعد إدخاله المستشفى للمعالجة سمع من جنود آخرين أن ما جرى كان «واحدة من المعارك الأشد خزياً التي خاضها الجيش الإسرائيلي». وبحسب روايته، فإن طلقات قناص من داخل القرية عندما اقتحمها الجنود جعلت أفراد القوة اليهودية يتراكضون كالمجانين في الشوارع بعد احتلال القرية، مطلقين النار على كل من صادفهم، وذلك قبل أن يجري ما جرى على الشاطئ. وجدير بالذكر أن الهجوم وقع بعد أن أشار القرويون إلى رغبتهم في الاستسلام بتلويحهم بعلم أبيض.
وسمع سكول### أن جنديين على وجه التخصيص كانا يقومان بالقتل، وأنهما كانا سيستمران في ذلك لولا قدوم بعض الأشخاص من مستعمرة زِخْرون يعقوب القريبة ووضْعه حداً لتصرفهما. وقد كان رئيس مستعمرة زِخْرون يعقوب، يعقوب إبشتايل، هو من نجح في إيقاف عربدة القتل في الطنطورة، لكنه جاء «متأخراً جداً»، كما علَّق بمرارة أحد الناجين من المجزرة.
معظم القتل نُفِّذ بدم بارد على الشاطئ. بعض الضحايا جرى استجوابهم أولاً، وسُئلوا عن «مخبأ الأسلحة الضخم» المفترض أنه أُخفي في مكان ما في القرية. وعندما لم يستطيعوا الإجابة- لم يكن هناك أسلحة مخبأة - أُعدموا فوراً.
واليوم، يقطن كثيرون من الناجين من هذه الأحداث المروعة في مخيم اليرموك للاجئين في سورية، ويجدون صعوبة شديدة في التغلب على الصدمة الناجمة عن مشاهدتهم الإعدامات.
عندما انتهت العربدة في القرية وتمت الإعدامات أُمر فلسطينيان بحفر قبور جماعية بإشراف مردخاي سوكولر، من زِخْرون يعقوب، صاحب «التراكتورات» التي أُحضرت للقيام بالمهمة الرهيبة. وقد تذكر في سنة 1999 أنه دفن 230 جثة؛ وكان العدد واضحاً في ذهنه: «وضعتهم واحداً تلو الآخر في القبر.»
عندما استكمل لواء ألكسندروني عمليات التطهير على الساحل، أُمر بالتحرك نحو الجليل الأعلى:
مطلوب منكم أن تحتلوا قَدَس وميرون والنبي يوشع والمالكية؛ قَدَس يجب تدميرها. أمّا الاثنتان الأُخريان [النبي يوشع والمالكية- المترجم] فيجب أن تُسلّما إلى لواء غولاني وسيقرر قائده ماذا يفعل بهما. ميرون يجب أن تُحتل وتوضع في تصرف لواء غولاني.
المسافة الجغرافية بين مختلف المواقع كبيرة جداً، وتدل مرة أُخرى على السرعة الطموحة التي كان متوقعاً من القوات المحافظة عليها في رحلتها التدميرية.
المفضلات