رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! (هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عُوَار)

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! (هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عُوَار)

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
النتائج 11 إلى 16 من 16

الموضوع: رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! (هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عُوَار)

  1. #11
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    هذا ما قاله شبيه الرجال، وهو عجيبٌ جِدُّ عجيبٍ! ذلك أن كل ما يؤمن به هو وأهل ملته تقريبا أو يفعلونه فى دينهم لا معنى له، إذ يقولون إنها أسرار، والأسرار لا تُفْهَم ولا تقبل الفهم، فكيف يعيب شيئا كهذا علينا، وما هو إلا قول عمر، وعمر ليس بالنبى؟ والمهم أنه لا عمر ولا غير عمر يتجه فى شعائر حجه إلى حجر أو خشب أو بشر، بل إلى المولى عز وجل. أما بالنسبة إلى الأضاحى، أليس عند اليهود هم أيضا أضاحٍ، ثم جاء المثلثة من النصارى فزعموا أن المسيح قدم نفسه أضحية تغنى عن كل الأضاحى، فلم يعد هناك معنى للتضحية بعده، بما يدل على أنهم مخلصون لشعيرة التضحية، لكن على أشنع صورة وأبشعها، فضلا عن قولهم عنه: "الخروف"؟ إذن فالتضحية شعيرة سماوية، وإن كانت فى اليهودية تُحْرَق ولا ينتفع بها أحد من البشر، على اعتبار أن الله يَسُرّه شَمُّ قُتَارِها، وكأنه بشر يتلذذ بالروائح! ويا ليته قد أحب رائحة طيبة بدلا من الدخان الذى يلوث كل شىء حوله! ولكن ما العجب فى هذا، وفى العهد القديم أنه سبحانه يأكل كما رأينا قبل قليل فى هذه الدراسة؟ فلا غرابة إذن أن يحب رائحة الشواء، إذ معروف أن الشرهين يَغْرَمون برائحة الشواء، الذى يُسِيل لعابهم ويثير عصافير بطونهم فيُقْبِلون من ثَمّ على الطعام وكلهم تشوق وتلذذ واشتهاء! أما البراهمة فإذا صح ما قاله الكندى عنهم يكونون قد أخذوا الأضحية من إحدى الديانات السماوية، أو كانت ديانتهم فى الأصل سماوية ثم دخل عليها التحريف والإفساد كما حصل فى اليهودية والنصرانية حسبما يوضح القرآن. وعلى أية حال فالعبرة بالنية والغاية، إذ قد يكون هناك عملان متشابهان أو متطابقان، لكن أحدهما من أعمال الوثنية، والآخر من أعمال التوحيد. لنأخذ الصلاة مثلا: فالمسلمون يتوجهون فيها لله سبحانه، والنصارى للمسيح يعبدونه ويؤلهونه. وذلك توحيد خالص، على حين أن هذا شرك ووثنية. وقد يخرج إنسانان الزكاة: أحدهما يتوخى بها رضا الله، والآخر السمعة والرياء، فتُقْبَل من الأول، وتُرَدّ على الثانى ويُقْذَف بها فى وجهه، وقد يَصْلَى بسببها نار الجحيم... ومن هنا فحتى لو كانت بعض مناسك الحج تتشابه مع بعض مناسك البراهمة، فالعبرة أن المسلمين لا يعبدون أصناما ولا أوثانا، بخلاف ديانة البرهمية وما تقوم عليه من وثنية وشرك وعبادة أصنام كما ذكر هو، على حين أنه لا موضع فى الإسلام بأى حال لصنم أو وثن أو تأليه بشر، إذ الإسلام يتشدد فى هذا إلى أبعد آماد التشدد! ثم إن الكاتب يتناقض فى كلامه عن مصدر الإسلام تناقضا بشعا يدل على أنه يتخبط ويكذب ويحاول التعلق بقشة كيلا يجرفه البحر الهادر العميق، وهيهات. أفلم يقل إن الرسول تعلم على يد النساطرة؟ فأين النساطرة من البراهمة؟ وكيف يا ترى عرف البرهمية؟ أكانت عنده مكتبة فى الأديان والمذاهب والشعائر؟ أم سيقولون إنه كان بين صحابته هنود برهميون هم الذين علّموه هذا؟ ألا لعنة الله على الكاذبين! كذلك فقوله إن العرب هى التى بنت البيت تخريف من التخريف، إذ بانيه هو إبراهيم وابنه إسماعيل. وإذا كانت هناك مَشَابِهُ فى شعائر الحج قبل الإسلام وبعده فهو أمر طبيعى، وكل ما هنالك أن العرب قد غيروا فى تلك الشعائر بعض التغييرات، فجاء النبى وأعاد الأمور إلى نصابها كما كانت فى دين الخليل صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى قول الوغد إن النبى قد حذف من الحج ما كان فيه من شناعات. فكيف يجرؤ الكذاب الرذيل بعد هذا كله على اتهام الإسلام بدائهم هم؟ واضح أن ذلك الرجل، إن صح تسميته رجلا، قد فقد عقله وحياءه تمام الفقدان!
    22- وفى كلامه التالى عن الطلاق برهانٌ على حقده وقلة أدبه، إذ قال: "وأقبح من هذا كله ما جاء في ذكر الطلاق ونكاح المرأة رجلاً آخر يسمى الاستحلال، وأن يذوق من عُسَيْلَتها وتذوق من عُسَيْلَته، ثم مراجعة الرجل الأول بعد ذلك. هذا، وقد يكون لها أولاد رجال نبلاء، وبنات كبار ذوات بيوت، والزوج الذي له الشرف النفيس والحسب الخطير، وتكون هي المرأة النبيلة في قومها. فهل تدعوني إلى مثل هذا الذي تستشنعه البهائم وتستقبح فعله؟". ومن الواضح التام الوضوح ما فى الكلام من خلط وتدليس مستشنَع، إذ كلنا نعرف أنه لا يوجد فى الإسلام محلِّل أبدا، وإنما المقصود هو أن الزواج مؤسسة لها احترامها وتوقيرها، وإن لم يمنع هذا من حصول التنافر الذى قد يكون من الصعب التغلب عليه، والذى حاول الإسلام أن يعالجه بوسائل شتى آخرها الطلاق الرجعى لعل الطرفين يتنبهان إلى قيمة ما بينهما من رباط فى فترة الانفصال، فيتراجعا مرة أخرى. فإن تكرر الطلاق ثلاثا فعنئذ يكون من الجلىّ أن هناك خللا شديدا فى العلاقة التى بينهما، وهو ما يعنى أنهما قد فشلا ولا يمكنهما الاستمرار فى تلك العلاقة، وعندئذ يجب أن ينفصلا انفصالا لا رجعة فيه، اللهم إلا إذا تزوجت المرأة من رجل آخر زواجًا عاديًّا لا نية فيه للعودة إلى زوجها الأول ثم طلّقها الزوج الجديد بعد ذلك لسبب من الأسباب التى تلجئ الزوجين فى الأحوال المعتادة إلى الطلاق، فحينذاك يحق لزوجها الأول أن يراجعها إن أحب. ومن ثم لا معنى للتهكم الذى يتهكمه غبينا الكندى. أما "المحلِّل" الذى يلمح إليه فهو مذموم فى الإسلام ذمًّا مستبشَعًا حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سماه بـــ"التيس المستعار" ولعنه وبشّره بمصير حقير، إذ أُثِر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلِّل. لعن الله المحلِّل والمحلَّل له". فما المشكلة إذن؟ الحق أنه لا مشكلة ولا يحزنون إلا فى عقل صاحبنا التافه الذى يتظاهر بعدم الفهم. أما كلامه صلى الله عليه وسلم عن تذوق العُسَيْلة فمقصوده تنفير الزوجين من كثرة الخلاف وتكرر الطلاق حتى لا يجدا نفسيهما فى ذلك الموقف الذى لا يحبه أحد من خلق الله الكرام. أما التمحك فى أن الزوجة قد تكون سيدة نبيلة، ولها أولاد ذوو حيثية فى المجتمع، فهذا ذنبها هى، إذ كيف تكون نبيلة حقا، وهى لا تستطيع أن ترتقى فى مستوى سلوكها وتصرفاتها مع زوجها بحيث تنال احترامه وتقديره ولا يفكر فى تطليقها؟ وعلى أية حال فالتشريعات لا تعرف هذه الاعتبارات المنافقة، بل تعمل على معالجة المشكلة دون رياء أو تفيهقات! وعجيب أن يبدى ذلك المرائى امتعاضه من جواز الطلاق فى الإسلام، وهو الذى يعلم أفضل من سواه ما يؤدى إليه التضييق على الأزواج والزوجات فى هذه المسألة من انتشار الزنا وتعايش الزوجين تعايش الاضطرار والقهر على أساس الغش والدَّخَل والخداع وخيانة كل من الطرفين لصاحبه بمعرفته ورضاه، بل كثيرا ما يترك أحد الزوجين أو كلاهما النصرانية كى يستطيعا الاستمتاع بحياتهما بعيدا عن ذلك الإعنات المشقى لهما، فضلا عن الفضائح المجلجلة التى تنقضّ على رأس الأسرة كلها إذا ما وقع الطلاق فى النصرانية طبقا للنصوص التى ينسبونها إلى السيد المسيح، إذ إن قَصْر الطلاق لديهم على علة الزنا لن يكون له معنى عند الناس إلا أن الطرف الآخر زانٍ، وهو ما رأيناه غير بعيد حين عمدت إحدى نجمات المجتمع، صدقا أو كذبا، إلى اتهام نفسها بالزنى كى تفكّ نفسها من هذه اللزقة الأمريكانى التى لا تطلع ولا بالطبل البلدى، اللهم إلا إذا أخذت معها من الجلد حتة.
    23- هذا، ومن الطريف عند تشنيعه على بركة البيت الحرام ومسجد رسول الله أنه لم يجد من يستشهد به إلا داود فى مزمورين من مزاميره تدليلا على أن تلك المواضع لا يمكن أن تكون مواضع مباركة، بخلاف المواضع النصرانية التى يُعْبَد الله فيها حق عبادته كما يقول والتى تظهر بركتها فى شفاء المصابين من أمراضهم وبَرَصهم وعماهم ومس الشيطان لهم حسبما يزعم، وكأن داود كان نصرانيا، أو كأنه عندهم رجلٌ تقىٌّ بارٌّ، وليس ذلك الـــ"داود" الزانى المجرم القرارى الذى لم يجد مؤلفو الكتاب المقدس ما يكتبونه عنه إلا ما يلى، وأستغفر الله من نقل هذا الكفر: "1وَكَانَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ، فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْمُلُوكِ، أَنَّ دَاوُدَ أَرْسَلَ يُوآبَ وَعَبِيدَهُ مَعَهُ وَجَمِيعَ إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرَبُوا بَنِي عَمُّونَ وَحَاصَرُوا رِبَّةَ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَقَامَ فِي أُورُشَلِيمَ. 2وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا. 3فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». 4فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا. 5وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: «إِنِّي حُبْلَى». 6فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى يُوآبَ يَقُولُ: «أَرْسِلْ إِلَيَّ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ». فَأَرْسَلَ يُوآبُ أُورِيَّا إِلَى دَاوُدَ. 7فَأَتَى أُورِيَّا إِلَيْهِ، فَسَأَلَ دَاوُدُ عَنْ سَلاَمَةِ يُوآبَ وَسَلاَمَةِ الشَّعْبِ وَنَجَاحِ الْحَرْبِ. 8وَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «انْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ». فَخَرَجَ أُورِيَّا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَخَرَجَتْ وَرَاءَهُ حِصَّةٌ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ. 9وَنَامَ أُورِيَّا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ جَمِيعِ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى بَيْتِهِ. 10فأَخْبَرُوا دَاوُدَ قَائِلِينَ: «لَمْ يَنْزِلْ أُورِيَّا إِلَى بَيْتِهِ». فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَمَا جِئْتَ مِنَ السَّفَرِ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟» 11فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: «إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجعَ مَعَ امْرَأَتِي؟ وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ». 12فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَقِمْ هُنَا الْيَوْمَ أَيْضًا، وَغَدًا أُطْلِقُكَ». فَأَقَامَ أُورِيَّا فِي أُورُشَلِيمَ ذلِكَ الْيَوْمَ وَغَدَهُ. 13وَدَعَاهُ دَاوُدُ فَأَكَلَ أَمَامَهُ وَشَرِبَ وَأَسْكَرَهُ. وَخَرَجَ عِنْدَ الْمَسَاءِ لِيَضْطَجِعَ فِي مَضْجَعِهِ مَعَ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَإِلَى بَيْتِهِ لَمْ يَنْزِلْ. 14وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ مَكْتُوبًا إِلَى يُوآبَ وَأَرْسَلَهُ بِيَدِ أُورِيَّا. 15وَكَتَبَ فِي الْمَكْتُوبِ يَقُولُ: «اجْعَلُوا أُورِيَّا فِي وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ، وَارْجِعُوا مِنْ وَرَائِهِ فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ». 16وَكَانَ فِي مُحَاصَرَةِ يُوآبَ الْمَدِينَةَ أَنَّهُ جَعَلَ أُورِيَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ رِجَالَ الْبَأْسِ فِيهِ. 17فَخَرَجَ رِجَالُ الْمَدِينَةِ وَحَارَبُوا يُوآبَ، فَسَقَطَ بَعْضُ الشَّعْبِ مِنْ عَبِيدِ دَاوُدَ، وَمَاتَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا. 18فَأَرْسَلَ يُوآبُ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِجَمِيعِ أُمُورِ الْحَرْبِ. 19وَأَوْصَى الرَّسُولَ قَائِلاً: «عِنْدَمَا تَفْرَغُ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ الْمَلِكِ عَنْ جَمِيعِ أُمُورِ الْحَرْبِ، 20فَإِنِ اشْتَعَلَ غَضَبُ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَكَ: لِمَاذَا دَنَوْتُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْقِتَالِ؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ مِنْ عَلَى السُّورِ؟ 21مَنْ قَتَلَ أَبِيمَالِكَ بْنَ يَرُبُّوشَثَ؟ أَلَمْ تَرْمِهِ امْرَأَةٌ بِقِطْعَةِ رَحًى مِنْ عَلَى السُّورِ فَمَاتَ فِي تَابَاصَ؟ لِمَاذَا دَنَوْتُمْ مِنَ السُّورِ؟ فَقُلْ: قَدْ مَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا».22فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَدَخَلَ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِكُلِّ مَا أَرْسَلَهُ فِيهِ يُوآبُ. 23وَقَالَ الرَّسُولُ لِدَاوُدَ: «قَدْ تَجَبَّرَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ وَخَرَجُوا إِلَيْنَا إِلَى الْحَقْلِ فَكُنَّا عَلَيْهِمْ إِلَى مَدْخَلِ الْبَابِ. 24فَرَمَى الرُّمَاةُ عَبِيدَكَ مِنْ عَلَى السُّورِ، فَمَاتَ الْبَعْضُ مِنْ عَبِيدِ الْمَلِكِ، وَمَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا». 25فَقَالَ دَاوُدُ لِلرَّسُولِ: « هكَذَا تَقُولُ لِيُوآبَ: لاَ يَسُؤْ فِي عَيْنَيْكَ هذَا الأَمْرُ، لأَنَّ السَّيْفَ يَأْكُلُ هذَا وَذَاكَ. شَدِّدْ قِتَالَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْرِبْهَا. وَشَدِّدْهُ».26فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ أُورِيَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ أُورِيَّا رَجُلُهَا، نَدَبَتْ بَعْلَهَا. 27وَلَمَّا مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا. وَأَمَّا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ" (صموئيل الثانى/ 11)، "1وَشَاخَ الْمَلِكُ دَاوُدُ. تَقَدَّمَ فِي الأَيَّامِ. وَكَانُوا يُدَثِّرُونَهُ بِالثِّيَابِ فَلَمْ يَدْفَأْ. 2فَقَالَ لَهُ عَبِيدُهُ: «لِيُفَتِّشُوا لِسَيِّدِنَا الْمَلِكِ عَلَى فَتَاةٍ عَذْرَاءَ، فَلْتَقِفْ أَمَامَ الْمَلِكِ وَلْتَكُنْ لَهُ حَاضِنَةً وَلْتَضْطَجعْ فِي حِضْنِكَ فَيَدْفَأَ سَيِّدُنَا الْمَلِكُ». 3فَفَتَّشُوا عَلَى فَتَاةٍ جَمِيلَةٍ فِي جَمِيعِ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ، فَوَجَدُوا أَبِيشَجَ الشُّونَمِيَّةَ، فَجَاءُوا بِهَا إِلَى الْمَلِكِ. 4وَكَانَتِ الْفَتَاةُ جَمِيلَةً جِدًّا، فَكَانَتْ حَاضِنَةَ الْمَلِكِ. وَكَانَتْ تَخْدِمُهُ، وَلكِنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَعْرِفْهَا" (ملوك الأول/ 1). والآن إلى ما استشهد به صاحبنا من كلام داود: "عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ" (مزمور 34:15). و"الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ" (مزمور 145:18). والله فيك الخير يا داود! وكلامك كله حكم ومواعظ! وهنيئا للكندى، الذى لا يعرف شيئا اسمه الحياء ولا الخجل! وإلا أفكان يردد ما يقوله العوام البلهاء من مثل "ليس من مكروب ولا ملهوف ولا محزون ولا مريض ولا مستغيث يسأله بإيمان صحيح ونية صادقة وقلب سليم من أولياء المسيح باسم المسيح المقدس الطاهر، إلا فرّج عنه همه وغمه وكربه. فهذه الديارات العامرة بالبِيَع، وجميع المواضع التي يُذْكَر فيها اسم المسيح مخلِّص العالم ويأوي فيها الرهبان ممتلئة من هذه البركات تفيض على جميع من صار إليها وقصدها بإخلاص نيته، لا يطلب من أحد ثمنًا ولا مكافأة، ولا ينال على ذلك جزاءً ولا شكرًا، لأن المسيح مخلص العالم قال في إنجيله الطاهر: مَجَّانًا أَخَذْتُمْ مَجَّانًا أَعْطُوا. لا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلا فِضَّةً" (متى10: 8- 9)؟ وهل هذا إلا ما يعتقده العوام البُلْه عندنا من مقدرة ضريح الشيخ الفلانى والولى الترتانى على تحبيل العاقر وإغناء المفلس، وهلم جرا؟ وبطبيعة الحال فإنه لا يوجد نصرانى يعرف المرضُ ولا الشقاءُ له "طريق جُرّة"، فكلهم والحمد لله لا يتعبون ولا يفتقرون ولا يقلقون، بل يلقَوْننا جميعا وكلهم صحة وعزم ونشاط، والفلوس تشخلل فى جيوبهم وأكياسهم ولا يستطيعون لها عَدًّا، والواحد منهم لا يحمل أى هَمٍّ للغد، إذ هم لا يحتاجون شيئا إلا قصدوا أقرب دير أو كنيسة وتمسحوا بالأركان، فإذا المال ينهمر عليهم انهمارا، وإذا الصحة بُمْب، والأشيا معدن. فماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟ الحق أننى ما كنت أحسب أن الأمور بهذه البساطة والبركة والبحبحة فى النصرانية! صدق من قال: من يَعِشْ يا ما يشوف، ومن يقرأ المواقع التبشيرية والكتب الساذجة المتخلفة التى تنشرها يَشُفْ أكثر!
    24- ثم يتحول صاحبنا الحمار إلى الجهاد فى الإسلام فيزعم أن فى القرآن تناقضا فى هذه القضية مضيفا قوله: "هل قرأتَ في شيء من الكتب المنزلة أن أحدًا من الدعاة استجلب الناس إلى مقالته ودعاهم إلى الإقرار بما جاء به قهرًا وكرهًا أو ضربًا بالسيف وتهديدًا بالسلب والسبي غير صاحبك؟ فقد عرفتَ قصة موسى وما أتى به من المعجزات، وقرأت قصص الأنبياء بعده وما فعلوا، وكان ذلك شاهدًا أن ما جاءوا به هو من عند الله. فهل تجد أحدًا من الدُّعاة الذين دَعَوْا إلى حقٍ أو باطلٍ إلا وقد جاء بحجَّة أو دليل صحيح؟ فحينئذ يتبيَّن عند العيان صحَّته من خُبثه. وكذلك فعل كل ذي دعوة بأهل دعوته، غير صاحبك، فإنّا لم نره دعا الناس إلا بالسيف والسلب والسبي والإخراج من الديار، ولم نسمع برجل غيره جاء فقال: من لم يقرّ بنبوَّتي وأني رسول رب العالمين ضربتُه بالسيف وسلبتُ بيته وسبيتُ ذريته من غير حجة ولا برهان. فأما المسيح سيد البشر ومحيي العالم فيتعالى ذكره ويجل قدره أن تُذْكَر دعوته في مثل هذا الموضع. وأنا أتلو كلام سيدي يسوع المسيح ليلي ونهاري، وهو شعاري ودثاري، وأسمعه يقول: تفضلوا على الناس جميعًا، وكونوا رحماء كي تشبهوا أباكم الذي في السماء، فإنه يشرق شمسه على الأبرار والفجّار ويمطر على الأخيار والأشرار (قارن متى 5/ 43- 48). فكيف يُظَنّ بمثلي، والمسيح يخاطبني بمثل هذه المخاطبة، أن يقسو قلبي حتى أصير في صورة إبليس العدو القاتل، فأضرب وأقتل أبناء جنسي وذرية آدم المجبول بيد الله وعلى صورته تعالى، والله جلَّت قدرته هو القائل: "لست أحب موت الخاطئ، لأنه اليوم في خطاياه، وغدًا يتوب، فأَقْبَله كالأب الرحوم"، سيَّما وقد شرَّف الله سبحانه النوع الإنساني بأن كلمته الخالقة تجسَّدت منه واتَّحدت به وأعطته ما لها من الربوبية والألوهية والسلطان والقدرة، فصارت الملائكة تسجد له وتقدّس اسمه وتسبّح ذكره كما يسبّح اسم الله وذكره، ولا تفرِّق في ذلك بينهما. ثم زيد نعمة إلى النعمة المتقدمة بأن أُعْطِيَ الجلوس عن يمين ذي العزة تشريفًا لذلك الجسد المأخوذ منا الذي هو من ذرية أبينا آدم، فهو مثلنا وأخونا في الطبيعة، وخالقنا وإلهنا باتحاد الكلمة الخالقة به بالحقيقة، ثم دفع إليه جميع السلطان في السموات والأرض، وخوَّله تدبير الخلائق وصيَّر البعث والنشور والدِّين إليه، وأن يحكم حكمًا نافذًا جائزًا على الملائكة والإنس والشياطين. أفتريد أن أضادّ أمر الله وأضربهم بالسيف وأسلبهم وأسبيهم؟ إن هذا لجورٌ على الله عز وجل، وعناد لأمره، وظلم لنعمته، وكفران لإحسانه. وأعوذ بالله من خذلان الله وغضبه".
    والواقع أن أمر هذا الرجل كله كذب وتدجيل وافتراء، فلم يحدث أن قال الرسول عليه الصلاة والسلام يوما من الأيام: "من لم يقرّ بنبوَّتي وأني رسول رب العالمين ضربته بالسيف وسلبت بيته وسبيت ذريته من غير حجة ولا برهان" ولا طبّق ذلك الكلام قَطّ، بل استمر عليه السلام ثلاث عشرة سنة فى مكة يدعو الناس إلى التأمل فى الكون والتفكير فيما يقوله لهم ويقرؤه عليهم من آيات القرآن الكريم، لم يرفع فى وجههم سيفا ولا رمحا ولم يفوِّق فى نحورهم سهما ولا شتمهم ولا هددهم، بل عرض عليهم مبادئ دينه وعمل على تفتيح عيونهم وقلوبهم وعقولهم لما تحتويه من كنوز ودُرَر، وكانوا هم الذين يؤذونه هو وأصحابه ويضربونهم ويحاصرونهم ويقاطعونهم ويشنعون عليهم ويتآمرون ضدهم، وقتلوا بعضا منهم وخططوا لقتله هو أيضا، وذلك بعدما أعيتهم الحيل فى أن يسكتوه بوسائل الإغراء المختلفة من رياسة ومال وما إلى ذلك. فأين إذن التهديد والأذى الذى يقول حمارنا المدلس إنه عليه الصلاة والسلام كان يجرى عليه فى دعوته؟ فإذا ذكر هذا المفترى أن المسيح صبر ثلاثة أعوام لقد صبر الرسول الأكرم ثلاثة عشر عاما لا ثلاثة فحسب. كما أن المسيح لم يكفّ خلال ذلك عن لعن اليهود وسبهم، وكذلك اتهام حوارييه بضعف الإيمان ووسْم بطرس نفسه بالنفاق، وهو أكبرهم وأقربهم إليه، وتهديد بنى إسرائيل بالسيف وإثارة أفراد كل أسرة بعضهم على بعض، بالإضافة إلى ما أبداه من احتقار هائل للأمميين ناعتا إياهم بأنهم كلاب لا يحق لها أن تأكل مع أهل البيت، فما كان من المرأة الكنعانية إلا أن قالت له: إن للكلاب أيضا نصيبا فى الفتات. وهو ما أعجبه، وكأنه كان يتلذذ بإهانة الآخرين ويجد سعادةً مَرَضِيّةً فى رؤيتهم أذلاء أمامه لا حول لهم ولا طول. وطبعا نحن المسلمين لا نصدق بأن المسيح عليه السلام يمكن أن يجترح هذه الأعمال ولا أن يتفوّه بتلك الأقوال، فهو نبى مكرم اختاره الله على عينه ورقَّى أخلاقة ترقية عظيمة، بيد أننى إنما أجادل حمارنا بمنطقه وبنصوص كتابه! أما قوله إنه لا يريد أن يضادّ أمر الله ويضرب الأعداء بالسيف ويقتلهم ويسلبهم فليس لى من تعقيب عليه إلا أن أقول له: أمعقول أنك تجهل العهد القديم وما فيه من أمر باستئصال الآخرين وحرق بيوتهم وإبادة أولادهم ونسائهم وحيواناتهم؟ أم تقول إن هذا ليس كلام الله؟ إذن ففيم إيمانك به؟ أم تراك تقول إن الأنبياء الذين أَتَوْا بهذا الكلام قد أَتَوْا به من لَدُنْ أنفسهم؟ ولكن إذا كانوا قد أَتَوْا به من لَدُنْ أنفسهم، فلماذا ترك الله هذا الكلام فى كتابه؟ أم تراه لم يَرْضَه؟ فلماذا لم يأمرهم بحذفه ويعاقبهم على هذه المبادرة غير المطلوبة ولا الحميدة؟ أم ماذا؟ وعلى كل فإن عمر المسيح فى عالم الدعوة لم يتجاوز، كما قلنا، ثلاثة أعوام. ولا يستطيع أحد أن يزعم بأنه كان سيستمر على السكوت أمام أذى الأعداء لو أن عمره امتد وزاد أتباعه وأصبح مسؤولا عن هؤلاء الأتباع وعن نظام حياتهم وعن توفير الأمن والأمان والغذاء والكساء لهم، وإلا كان مقصّرا غاية التقصير فى ذات حقهم، وبخاصة أنه أعلن أنه ما جاء إلا بالسيف وبإثارة البيت الواحد بعضه على بعض!
    وهذا كله لو كان القرآن كما يقول عنه الأخرق الأحمق! أمّا، وكتاب الله الكريم يقول شيئا مغايرا تماما لما يدعى ذلك المنافق، فمعنى هذا أنه يردد أكاذيب ومفتريات لا صلة بينها وبين الواقع الذى يفقأ عينه ودبره المنتن. وإلى القراء الأعزاء البيان بحكم القرآن فى قضية الجهاد: ونبدأ بالنظر فى معنى كلمة "الجهاد"، ففى "لسان العرب" مثلا أن "الجَهْد والجُهْد: الطاقة. تقول: اجْهَدْ جَهْدَك. وقيل: الجَهْد المشقة، والجُهْد الطاقة. الليث: الجَهْدُ ما جَهَد الإِنسان من مرض أَو أَمر شاق. الأَزهري: الجَهْد بلوغك غاية الأَمر الذي لا تأْلو على الجهد فيه. تقول: جَهَدْت جَهْدي واجْتَهَدتُ رأْيي ونفسي حتى بلغت مَجهودي. قال: وجَهَدْت فلانا إِذا بلغت مشقته وأَجهدته على أَن يفعل كذا وكذا. ابن السكيت: الجَهْد الغاية. قال الفراء: بلغت به الجَهْد أَي الغاية، وجَهَدَ الرجل في كذا، أَي جَدَّ فيه وبالغ. والاجْتِهاد والتجَاهُد: بذل الوسع والمجهود، وهو افتعال من الجهد. والجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أَو اللسان أَو ما أَطاق من شيء". وواضح أن الجهد هو المشقة، وأن الجهاد هو أن يشق الإنسان على نفسه ويبذل كل ما فى طاقته لا يدخر وسعا. هذا هو المعنى اللغوى، وهو لا ينحصر فى شىء بعينه كما ترى، بل يعم كل ما يؤديه البشر من أعمال، فهل فى القرآن أو فى أحاديث النبى محمد ما يدل على أن الجهاد فى الإسلام ينحصر فى القتال وأن الغاية منه هى إكراه الآخرين بقوة السيف على الدخول فيه رغم أنوفهم وعكس اقتناعهم؟
    لننظر أولا فى القرآن المجيد، فماذا نجد؟ لقد ورد "الجهاد" فى عدد من السياقات والمعانى المختلفة: فمنها مثلا قوله تعالى فى سورتى "العنكبوت" و"لقمان" على التوالى يوصى المسلم بأبويه خيرا ويشدد عليه فى الإحسان لهما حتى لو حاولا بكل ما عندهما من جهد أن يصداه عن دينه ويعيداه إلى الشرك الذى لا يقبله عقله ولا يرتاح إليه ضميره: "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)"، "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)". ولا أظن أن هناك عاقلا يقول إن "الجهاد" هنا هو قتال غير المسلم لإكراهه على ترك دينه والتحول عنه إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام، أو إنه قتال الوالدين لابنهما بالسيف كى يترك الإسلام ويرتد إلى الكفر والعياذ بالله، بل المعنى فى الآيتين هو بذل الوالدين كل ما عندهما من جهد فى التأثير على ابنهما وصَدِّه عن دين الله. وصيغة "فاعَلَ" هنا تعنى أن كلا الطرفين يبذل جهده فى مواجهة الآخر: المشرك لفتنة المسلم عن دينه، والمسلم للاستمساك بدينه والحفاظ عليه وعدم الضعف أمام ضغط والديه، مع إحسان صحبتهما رغم ذلك كله. والآيات السابقة على آية سورة "العنكبوت" مباشرة تشير إلى مدى النَّصَب والمعاناة اللذين كان المسلمون يتعرضون لهما آنذاك: "الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)". والمعنى أن للإيمان ضريبته المكلفة، وأن الأمر ليس مجرد شقشقة باللسان، بل هناك الفتن الفادحة. والمؤمن الحقيقى هو الذى يصبر ويجاهد ويتمسك بإيمانه لا يفرّط فيه مهما تكن شدة تلك الفتن.
    وفى سورة "العنكبوت" أيضا نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)". وهذه السورة، كما هو معلوم، سورة مكية. أى نزلت قبل أن يكون هناك قتال بين المسلمين والكفار، ومن ثم فالجهاد هنا لا يعنى إلا صبر المسلم على ما كان يلقاه على أيدى المشركين من أذى وضر، والاستمساك بدينه فى وجه هذا البلاء وعدم التفريط فيه تحت أى ظرف من الظروف. وكثيرا ما كان الصحابة يشكون للنبى ما ينزل بهم من جهد، يريدون أن يردّوا على الإساءة بمثلها، لكنه صلى الله عليه وسلم كان ينصحهم بالصبر والتحمل إلى أن يجعل الله لهم من ذلك العناء فرجا ومخرجا. ومن نفس الوادى الآية الثانية والخمسون من سورة "الفرقان": "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)... وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) ... وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)".
    وواضح هنا أيضا أن الجهاد لا يعنى القتال، إذ "الفرقان" هى إحدى سور القرآن المكى، ولم يكن المسلمون قد سُمِح لهم بَعْدُ أن يردّوا العدوان بمثله، بل كان الشعار آنذاك هو الصبر والإغضاء على الأذى كما تَقَدَّم بيانه. لكن لما زاد الأمر عن حده ولم يعد هناك مفر من المواجهة بعد أن قدّموا كل ما يمكنهم تقديمه من التسامح والعفو ولم يأت شىء من ذلك بثمرة، كان لا بد لهم من قتالِ مَنْ قاتلهم وضَرْبِ من يضربهم، فالعين بالعين، والسن بالسن، والبادئ أظلم. وهذه هى الحياة، وإلا أكل القوىُّ الوقحُ الحيىَّ المسالم. لكن ليس فى القرآن أى كلام عن إجبار الآخرين على اعتناقه، فالإسلام لم يعرف ما عرفته الكنيسة من التسلط على العقول وترويع الآخرين والتفتيش فى ضمائرهم وتعذيبهم وتحريقهم حتى يدخلوا فى دينها، وذلك رغم ما تتشدق به الكنيسة من كلام جميل عن التسامح المطلق الذى يوجب على صاحبه أن يدير خده الأيسر لمن يصفعه على خده الأيمن... إلى آخر هذا الكلام الذى لا يصلح لدنيا البشر إلا لوقت معلوم وفى ظروف خاصة، ويقتصر على خلافات الأفراد داخل المجتمع الواحد، وإلا كانت كارثة. وفى القرآن آيات متعددة توصى بالصبر وعدم الرد على السيئة بمثلها، وآيات أخرى تخير المسلم بين الرد والعفو، مع تحبيب الأخير له. وهو ما يدل على أنه لا فرق بين الإسلام والنصرانية فى تحبيب العفو إلى البشر، ولكن إلى حين. ومرة أخرى ينبغى ألا ننسى أن المسيح عليه السلام لم يمكث بعد أن جاءه الوحى أكثر من ثلاث سنوات، على حين أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد مكث فى مكة يصبّر أتباعه لا ثلاث سنوات وحسب، بل ثلاثَ سنواتٍ وفوقها عَشْر. كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يكن حاكما على دولة ولا تحت يده أمة هو مسؤول عنها وعن مصيرها مثلما حدث مع النبى بعد الهجرة إلى المدينة، وإلا أفيستطيع أحد أن يزعم أنه كان سيجرى على هذه السنّة إلى أبد الآبدين؟ فمن الذى قال إذن: ما جئت لأُلْقِىَ سلاما بل سيفا؟ إنه المسيح نفسه وليس أحدا آخر سواه.
    وعلى هذا فإن قوله عز شأنه فى آخر سورة "الحج": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" لا يمكن أن يكون معناه شيئا آخر غير بذل الوسع لإرضاء الله فى كل أمر يستطيعه الإنسان. والأمور التى يستطيعها الإنسان ويرضى ربه بها لا تنتهى، لأنها تشمل كل أمور الحياة من زراعة وتجارة وصناعة وتعليم ودراسة وقراءة وكتابة وسياسة وسفارة وطِبَابة ونجارة وسباكة وخراطة وحدادة، وكذلك قتال العدو المغير بطبيعة الحال كأمريكا وبريطانيا ودول الغرب التى تعاونهما الآن. فعلى المسلم أن يجاهد فى ترقية حياته وحياة أمته وحياة الإنسانية كلها. ولا شك أن كسل المسلم الآن وعدم تنبهه إلى قيمة الجهاد هو الذى أدى به إلى هذا المأزق العسير المؤلم الذى يئنّ منه فى هذه الأيام النَّحِسات، وهو يستحقه إلى حد كبير لأنه أضاع الفرصة تلو الفرصة على مدى قرون كاملة حتى انتهى به الأمر إلى وضعه البائس الحالى الذى جَرّأ عليه أعداءه تلك الجرأةَ المهينةَ التى نبلوها ونذوق كأسها المرة كاملة كل يوم والتى سيكون حساب الأمة عنها فى غاية العسر يوم القيامة، ولاتَ ساعةَ مَنْدَم.
    فإذا تحولنا بوجوهنا إلى أحاديث سيد المرسلين ألفينا النصوص الشريفة التالية: ففى صحيح البخارى نقرأ هذا الحديث الذى يجيب فيه الرسول الكريم على سؤال لعائشة يتعلق بحكم اشتراك النساء فى القتال مع الرجال: "قلت: يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور. فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم". فها هنا نراه صلى الله عليه وسلم يعد الحج من الجهاد، بل أحسن الجهاد وأجمله. وفى صحيح البخارى أيضا: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: لك أبوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهِدْ". وهنا كذلك يعدّ النبى عليه السلام قيام الابن بحاجة والديه جهادا فى سبيل الله. وفى مسند أبى دواود: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"، وهو ما يدل على أن جهاد الأعداء لا يكون بالقتال فقط، بل بالمال وبالكلمة أيضا كالذى كان يفعله حسان بن ثابت، فإنه كان يجاهد بشعره وفنه. وفى ابن عساكر: "قيل لابن عباس: قد قَدِم حسّان اللعين. قال ابن عباس: ما هو بلعين! قد جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولسانه". أى أن ما يفعله واحد مثلى الآن بقلمه (أو بالأحرى: بــ"كاتوبه"، إذ لم أعد أكتب بالقلم بل بالكاتوب مباشرة)، يدخل فى باب الجهاد، وإن كان الأجر متوقفا على أن أكون مخلصا فى علمى لا أبتغى فيه السمعة ورئاء الناس وأن أكون قد بذلت أقصى جهدى حتى تبين لى أن هذا الأسلوب هو الأسلوب السليم وليس مجرد حماسة هوجاء لا عقل لها ولا هدف واضح أمامها، وهذا أمر لا يبت فيه إلا الله سبحانه. وفى صحيح الترمذى: "المجاهد من جاهد نفسه"، أى كف عن الشهوات وقام بواجب الطاعة لله سبحانه وبذل وسعه فى عمله وشمر عن ساعد الجِدّ فى ساح العمل والإنتاج، ولم يركن إلى الكسل أو الغش أو الاحتكار أو أسلوب سلق البيض، بل صبر على تكاليف الإتقان والتدقيق والإبداع والسعى فى طلب العلم، فإن كل هذه مشقات تكرهها النفس عادة ولا تريد أن تتجشم فيها شيئا من التعب لو أمكن، فبيّن النبى عليه السلام أن الجهاد الحقيقى هو جهاد النفس بصَبْرها على تأدية الواجب، ومَنْعها من مقارفة المعصية، وما أكثر الواجبات، وما أكثر المعاصى! ومما رواه ابن تيمية من الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السيئات، والمجاهد من جاهد نفسه لله". فقد جعل النبى الجهاد هو جهاد النفس، وهذا هو ما قلناه ونقوله، وهو لا يلغى الجهاد الذى هو قتال العدو بالسيوف والبنادق والمدافع والصواريخ والدبابات وما أشبه، بل يشمله فيما يشمل، إذ هو لون من مجاهدات النفس قد يكون أفضلها فى بعض الأحيان، وقد يكون غيره أفضل منه، وقد تكون ألوان الجهاد كلها متساوية، وكل ذلك حسبما تقتضيه الظروف، إلا أنه ليس اللون الوحيد على أية حال. ومثله ما رواه الحافظ العراقى من قوله عليه السلام: "المهاجر من هجر السوء، والمجاهد من جاهد هواه". وفى الصحيح الجامع للألبانى: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسُنّته ويتقيدون بأمره. ثم إنها تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وفى صحيح الترمذى: "إن من أعظم الجهاد كلمةَ عدلٍ عند سلطانٍ جائر"، وهو مما ينقص أمة الإسلام اليوم إلى حد كبير، إذ كلنا (إلا من رحم الله، وقليل ما هم) نخشى السلطان الجائر، وكثير منا ينافقونه ويُورِدونه ويُورِدون أنفسَهم والأمةَ كلها معهم موارد الهلكة كالذى نحن فيه الآن.
    إذن فالجهاد ليس هو القتال ضربة لازب، كما أنه لا يعنى قتال الآخرين بغية إكراههم على اعتناق الإسلام، والدليل على هذا هو قوله سبحانه وتعالى من سورة "البقرة": "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)". فمن البيّن الذى لا يمكن الجدال فيه أن الإسلام لا يقرّ العدوان من جانب المسلمين أبدا، بل يقيم تعامله مع المشركين على أساس من مواقفهم: فإن قاتلوا المسلمين فعلى المسلمين مقاتلتهم، وإن كفوا أيديهم عنهم سكت المسلمون كذلك... وهكذا. وفى قوله جل جلاله من سورة "الأنفال": "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)" نبصر بكل وضوح واطمئنان أن المشركين إذا غدروا بالمسلمين ولم يوفوا بما عقدوه معهم من عهد كان للمسلمين أن يقاتلوهم ويقتلوهم، فإذا جنحوا للسلم وجب على المسلمين الجنوح إليها والتوكل على الله، وإذا شعروا أن هناك نية غدر فأقصى ما يستطيعونه أن يعالنوهم بأنه لا معاهدة بينهم منذ اليوم: هكذا بكل وضوح، ودون مبادلةٍ لغَدْرهم بغَدْرٍ مثله.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #12
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    وبنفس العين ينبغى أن نقرأ قوله عز شأنه فى مفتتح سورة "التوبة": "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)". فالكلام هنا أيضا عن المشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود فنقضوها ولم يَرْعَوْا فيها ولا فيهم إلاًّ ولا ذمةً، فكان على المسلمين أن يعاملوهم بذات اللغة التى لا يفهمون سواها، وذلك بعدما جرب المسلمون معهم ألوان التسامح حتى باخت المسألة ولم يعد لها من معنى. ورغم ذلك ينبغى ألا يفوتنا الأمر القرآنى فى هذه الآيات بإجارة المشرك الذى يستجير فى هذه الظروف المتوترة بالمسلمين وحمايته إلى أن يسمع كلام الله فى جو هادئ فلا تكون له أية حجة فى غدره بما بينه وبينهم من معاهدات بعد هذا، ثم عليهم فوق ذلك أن يوصّلوه إلى مضارب قبيلته آمنا مطمئنا. فما الذى يراد من المسلمين بعد ذلك كله؟ أيجب عليهم أن يضربوا للخائن الغادر تعظيم سلام ويقيموا له تمثالا ويجعلوا من غدره مثالا أعلى وذكرى ينبغى أن تُحْتَرَم؟
    كذلك فشريعة الكتاب المقدس لا تعرف فى تلك الحالة إلا الاستئصال التام لكل ذى روح، بشرا كان أو حيوانا، لا دفع الجزية والإبقاء على حياة الأعداء واحترام عقائدهم. يقول الإصحاح العشرون من سفر التثنية: "16وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا، 17بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، 18لِكَيْ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا حَسَبَ جَمِيعِ أَرْجَاسِهِمِ الَّتِي عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ، فَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ"، والمقصود بالتحريم هنا هو الاستئصال. وفى الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول: "1وَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: «إِيَّايَ أَرْسَلَ الرَّبُّ لِمَسْحِكَ مَلِكًا عَلَى شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. وَالآنَ فَاسْمَعْ صَوْتَ كَلاَمِ الرَّبِّ. 2هكَذَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ مَا عَمِلَ عَمَالِيقُ بِإِسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ. 3فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا»". وبالمناسبة فمصر هذه الأيام تغلى، أقصد أن شرفاءها (شرفاءها فقط) يغلون بل تحترق قلوبهم على الجنود والضباط والمدنيين المصريين الذين قتلوا فى سيناء عقب هزيمة 1967م المخزية وبعد استسلام الجيش المصرى فى عهد البطل خالد الذكر (!) جمال عبد الناصر، الذى يتصور بعض السُّذَّج أنه لو كان حيًّا الآن لكان لقَّن إسرائيل والولايات المتحدة درسا لا تنسيانه. وهذا التصرف من جانب اليهود لا يمكن فهمه على وجهه السليم إلا فى ضوء نصوص العهد القديم الإجرامية المتوحشة. جاء فى مقال منشور فى 12/ 3/ 2007م بجريدة "المصريون" بعنوان "رحبت بتصريحات أبو الغيط واعتبرتها إيجابية- إسرائيل تدرس دفع تعويضات لذوي ضحايا مجزرة الأسرى في حرب 67" عن المجزرة التى تم فيها قتل 250 جنديا مصريا فى سيناء رغم استسلامهم بعد هزيمة 1967م أن "الكثيرين من الجنود (الإسرائيليين) المتورطين في المجزرة التي عرضتها القناة الأولى بالتلفزيون الإسرائيلي في 26 فبراير الماضي اعترفوا بأنهم قتلوا الجنود المصريين مدفوعين بشهوة الانتقام، وتطبيقا لتعليمات عسكرية من قادتهم. وقالوا إن بن أليعاز شارك بنفسه في عمليات مطاردة الجنود المصريين المنسحبين وقتلهم بدم بارد حيث كان يرغمهم على النوم على الأرض على وجوههم بعد تقييد أيديهم من الخلف ثم يطلق عليهم الرصاص من خلف الرأس. وأشاروا إلى أن الأوامر الصادرة إليهم من بن أليعازر كانت تقضي بإطلاق الرصاص على الجنود المصريين العُزْل حتى بعد أن كانوا يرفعون إيديهم مستسلمين". ويزيد الأستاذ جمال أسعد القبطى الأمر تفصيلا فيقول فى نفس الجريدة فى اليوم التالى تحت عنوان "دم الأسرى في رقابنا جميعا": "هل اكتشفنا مؤخرا أن إسرائيل دولة عنصرية استعمارية تخالف القانون الدولي، ليس في سلوكها فحسب، ولكن في نشأتها ذاتها كدولة تخالف قرارات مجلس الأمن؟ وهل هناك جديد في قضية قتل وسحق إسرائيل للأسرى المصريين في حربي 56، 67 بعد إذاعة الفيلم الإسرائيلي في القناة الأولى للتليفزيون الإسرائيلي باسم روح شاكيد "الصفوة"؟ نقول لكل من ينسى أو يتناسى أن قضية الأسرى المصريين في إسرائيل لم تكن هذه المرة الأولى التي أثيرت فيها بمناسبة ذلك الفيلم، ولن تكون الأخيرة. فقد أثيرت تلك القضية عام 1996 وعام 2000 عند الانتفاضة الفلسطينية الثانية من خلال منظمات شعبية وسياسية. كما أن تلك القضية الهامة والحساسة والتي تمس شرف العسكرية المصرية وكيان المواطن المصري نتيجة لتلك الممارسات الإسرائيلية الحقيرة في حق أسرانا قد تم رصدها وتسجيلها. كما توجد وثائق وسجلات لدى القوات المسلحة المصرية ولدى منظمات العمل الأهلي وحقوق الإنسان، وذلك من خلال رصد ومقابلة وشهادات واعترافات الأسرى المصريين العائدين والناجين من المجازر الإسرائيلية. وذلك بما لا يدع مجالا لأي شك في تلك الممارسات اللاإنسانية في حق أسرانا. فلا فيلم روح شاكيد ولا اعترافات بن إليعزر أضافت جديدا في هذا الموضوع، غير أن هذا الفيلم يعتبر نوعا من الاعتراف المباشر على اقتراف تلك المجازر والتي من الواجب استعمالها واستغلالها أحسن استغلال في فضح وكشف تلك الجرائم. فالقضية أكبر من إعدام 250 أسير لا يحملون سلاحا بل لا يرتدون ملابس عسكرية. فالممارسات الإسرائيلية في حق أسرانا تجاوزت كل الحدود وانتهكت كل الأعراف وأسقطت كل القوانين، فقد تم قتل الأسرى بالمئات في مذابح بشرية ودفنهم أحياء ودهسهم تحت جنازير الدبابات وإعدام كل من يطلب قطرة ماء بالرصاص وضربهم بالنابالم في وجوههم. بل وصل الأمر بأنه كان يُطْلَب من الأسير أن يحفر قبره بنفسه، ثم يتم إطلاق النار عليه وهو في القبر، ثم يتم دفنه قبل أن تفارق روحه الحياة. والغريب في الأمر أن تلك الممارسات الفظيعة ليست نتاج اعترافات أسرى مصريين أو من خلال مصادر مصرية فقط، ولكن الأهم أن تلك الممارسات قد تم الاعتراف بها من قِبَل فاعليها من العسكريين الإسرائيليين مثل شارون زيف، الذي اعترف بأنه قد قذف قنبلة في شاحنة ممتلئة بالمصريين، وعاموس فئمان، الذي قال: طاردنا المصريين وقتلناهم بلا أي قواعد. ناهيك عن التجارة بأعضاء الأسرى المصريين في أوروبا وإسرائيل. فهل يوجد سلوكيات أحقر من هذا في حق المقاتل المصري الأسير الذي من المفترض أن يحميه القانون الدولي واتفاقات جنيف الأربعة عام 1949 والتي تعتبر أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم؟ مع العلم أن نظرة سريعة على تلك الاتفاقات تجد أن إسرائيل قد اقترفت من الجرائم ما لا يحصى مثل القتل العمد، التعذيب، المعاملة غير الإنسانية، إجراء تجارب بيولوجية على أشخاص غير مسلحين، الحرمان من الحق في محاكمة منصفة وعادلة، وانتهاك الكرامة الإنسانية وغيرها غيرها من اتهامات. فماذا بعد؟ وما هي الأسباب الواضحة والخفية في وجود هذا التقاعس لإثارة تلك القضية وإحياؤها مصريا ودوليا؟ وهل هناك علاقة فعلا بين عدم الجدية في الحصول على حقوقنا من إسرائيل تجاه تلك القضية وبين ما يسمى بمعاهدة السلام؟ وهذا واضح بدليل أنه حتى هذه اللحظة فالذي يثير تلك القضية في أوقات متفرقة هي المنظمات الشعبية والأهلية، ولا نرى موقفا جادا من الخارجية أو الحكومة غير الإستدعاءات والاستفسارات. وهل منعت معاهدة السلام إسرائيل من أن تمارس تلك الممارسات اللاإنسانية والغير قانونية؟ والغريب أن وزيرة خارجية إسرائيل تقول أننا الآن في سلام مع مصر فلا يجب أن ننظر إلى قضايا قديمة مضى عهدها. وبالرغم من عدم تقادم تلك القضايا فإننا نسأل السيدة الوزيرة: هل أسرانا هم أقل رتبة من أسراكم؟ أم أنتم شعب الله المختار؟ وإذا كان ما فات مات فلماذا طالبتم وما زلتم تطالبون وتستغلون ما يسمى بالهولوكوست ضد ألمانيا وأوروبا؟ ولماذا قد حصلتم على نحو 800 مليار دولار تحت بند ما يسمى بالتعويض المادي؟ وهذا غير المكاسب السياسية التي لا تقدَّر مثل حصولكم على وثيقة ما يسمى بتبرئة اليهود من دم المسيح من الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك تهديدكم سياسيا للعالم كله بتلك المحرقة حتى أصبح الآن هناك قوانين تخدم ما يسمى بالإساءة للسامية، وكأن اليهود هم وحدهم الساميون. ولماذا نذهب بعيدا، ونسأل أيضا: ماذا تفعل إسرائيل حيال أسراها؟ ولماذا قامت بشن الحرب السادسة الإسرائيلية ضد لبنان بحجة استرداد أسيرين قام حزب الله بأسرهما؟ وماذا كانت نتيجة تلك الحرب؟ وما هي الخسارة اللبنانية في مقابل أسيرين ما زالا أحياء؟ وكم دفع الفلسطينيون دما وأرواحا ومنازلا مقابل أسير واحد لم يمس بأذى؟ فلا شك أن اتفاقيات السلام لا تعني شيئا بالنسبة لإسرائيل، فهي لا يعنيها ولا يهمها سوى أن تكون نموذجا للدولة العنصرية، عميلة لأي قوى كبرى في المنطقة. فهل السلام المصري الإسرائيلي منع تلك الدول من التجسس على مصر؟ فلماذا التحجج بهذا السلام البارد والذي هو يعني الحكومات وليس الشعوب؟ ولماذا لا نتعامل مع إسرائيل بمثل ما تعاملنا؟ وهنا نقول: ماذا فعلت إسرائيل حينما قام بعض الجنود المصريون بضرب بعض الإسرائيليين؟ قامت الدنيا ولم تقعد وحصلت إسرائيل على تعويضات واعتذارات. وماذا حصلنا نحن عندما قام جنود إسرائيليون بقتل جنود مصريين؟ وهنا لا تقول أنها صدفة وبدون قصد. فهل نعلم ماذا تدرس إسرائيل لطلابها، وفي ضوء السلام هذا؟ وماذا تدّعي من أكاذيب وافتراءات على مصر وتاريخ مصر؟ وهل نعلم أن عقيدة هؤلاء تعتبر أن قتل الأسرى المصريين واجبا مقدسا لأنهم أبناء عاهرات مثلما جاء في جريدة "الفجر"؟ وهنا فما حدث في حق أسرانا قد فاق كل الحدود وتجاوز كل الآفاق، ومصر لن تخضع لأي أحد تحت أي معاهدة. وكرامة المصري هي أهم ما يملك. ودَوْر الحكومة، أيّ حكومة، هو الحفاظ على المواطن وكرامته. فهل يمكن البدء فورا في اتخاذ قرارات تحفظ حقوقنا وتعيدها إلينا؟ هل من حملة منظمة للعالم كله ضد تلك الممارسات؟ أين حقوق الإنسان؟ وأين المنظمات الدولية والقوانين الدولية؟ أم أن تلك المنظمات وهذه القوانين لا تتحرك ولا تفعل إلا للإسرائيلي أو الأمريكي أو الأوروبي، ولا تحل للعربي أو الشرقي؟ فلماذا لا يتم سحب السفير المصري من إسرائيل؟ وكيف كانت تلك الدعوة للقاتل السفاح بن إليعزر، والأجهزة تعلم فعلته الخسيسة؟ لمصر حقها. لا ولن يضيع طالما هناك شعب يعتز بكرامته، ولن يضيع حق وراءه مطالب. ولن يحفظ كرامتنا إلا نحن. وقضية الأسرى لن تموت مهما تم التغطية عليها أو التعتيم حولها".
    وهنا يحسن أن ننقل للقارئ ما كتبه يورى أفنيرى الكاتب والسياسى الإسرائيلى فى مناقشة الدعوى التى تقول إن الإسلام دين عدوانى وإنه قد انتشر بالسيف والإكراه، وذلك فى مقاله الذى رد به على خطبة بابا الفاتيكان منذ عدة شهور، والترجمة لكرم محمد، الذى كان قد أرسلها لى مشكورا فى رسالة فورية يطلب رأيى فيها فوجدت أسلوب الترجمة سلسا إلى حد معقول، ورأيت أن أستشهد ببعض ما جاء فيها مع شىء من التصرف. يقول أفنيرى: "يؤكد البابا، في سبيله لإثبات غياب العقل عن الإسلام، أن النبي محمدًا أمر أتباعه أن ينشروا دينهم بالسيف. وهذا يتناقض، وفقًًا للبابا، مع العقل لأن الإيمان ينبع من الروح، وليس من الجسد، فأنَّى للسيف أن يؤثر على الروح؟ والبابا، في سبيله لتدعيم رأيه، يقتبس من دون الناس جميعًا من إمبراطورٍ بيزنطي ينتمي إلى الكنيسة الشرقية المنافسة. ففي نهاية القرن الرابع عشر حكى الإمبراطور عمانوئيل الثاني بالايالوجس عن مناظرة له، أو هكذا قال (فحدوثها موضع شك)، مع عالمٍ فارسيٍّ مسلمٍ مجهولٍ، وفي فورة هذا النقاش طرح على خصمه هذه العبارات التالية (حاكيا عن نفسه): "أرني فقط ما الجديد الذي جاء به محمد، وحينها لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بالسيف". هذه الكلمات تُظهر ثلاثة أسئلة: (أ) لماذا قالها الإمبراطور؟ (ب) هل هذه العبارة صحيحة؟ (ج) لماذا استشهد بها البابا الحالي؟ كان عمانوئيل الثاني، حينما كتب دراسته هذه، زعيما لإمبراطورية تموت، فقد تقلد السلطة في 1391م في وقت بقي فقط في يده القليل من المقاطعات مما كان يشكل يومًا إمبراطورية عظيمة. هذه المقاطعات بدورها كانت تحت التهديد التركي، وفي هذه القترة كان العثمانيون الأتراك قد بلغوا ضفاف نهر الدانوب، وقاموا بغزو بلغاريا وشمال اليونان، وهزموا للمرة الثانية الجيوش التي أرسلتها أوروبا لإنقاذ الإمبراطورية الشرقية. وفي 29مايو 1453، وبعد سنوات قليلة من موت عمانوئيل، سقطت عاصمته القسطنطينية (إسطانبول حاليا) في أيدي الأتراك واضعةً نهاية للإمبراطورية التي استمرت لما يزيد عن ألف عام. وكان عمانوئيل يقوم، أثناء فترة حكمه، بجولات زار خلالها عواصم أوروبا في محاولة لحشد الدعم حيث وعد بالانضمام مرة أخرى إلى الكنيسة. وليس هناك أدنى شك في أنه كتب أبحاثه الدينية بغية تحريض الدول المسيحية ضد الأتراك وليقنعهم بتدشين حملة صليبية جديدة. وقد كان هدفه هذا براجماتيا، فالعقيدة كانت تخدم السياسة. وفي هذا السياق نجد أن الاقتباس يخدم تماما متطلبات الإمبراطور الحالي جورج بوش الابن، فهو أيضا يريد توحيد العالم المسيحي ضد "محور الشر"، الذي هو إسلامي في الغالب. بالإضافة إلى ذلك يطرق الأتراك مرة أخرى أبواب أوروبا، بشكل سلمي هذه المرة، ومن المعروف جيدًا أن البابا يدعم القُوَى التي تعارض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن هل كانت مزاعم عمانوئيل بها شئ من الصحة؟ البابا نفسه قدم كلمة تحذيرية، فهو كعالم لاهوتي جاد وشهير لا يمكنه أن يقدم على تزييف النصوص المكتوبة. لذلك اعترف بأن القرآن على وجه الخصوص يحرّم نشر الإيمان بالقوة، واقتبس من السورة الثانية في القرآن الآية 256 (أخطأ البابا في اقتباسه بشكل غريب، فقد كان يقصد الآية 257) التي تقول: "لا إكراه في الدين". كيف يمكن أن يتجاهل إنسان مثل هذه التصريح الواضح الذي لا لبس فيه؟ ببساطة يزعم البابا أن هذه الوصية أعلنها الرسول عندما كان في بداية دعوته في وقت كان لا يزال فيه ضعيفًا عاجزًا، لكنه بعد ذلك أمَرَ باستخدام السيف في خدمة الدين. أمرٌ كهذا ليس موجودًا في القرآن. نعم، دعا محمد إلى استخدام السيف في حربه ضد القبائل المسيحية واليهودية وغيرها ممن كانت تعيش في الجزيرة العربية، لكن هذا كان أمرًا سياسيًّا، وليس دينيًّا. أي أنه بشكل أساسي كان بهدف توسيع الدولة وليس نشر الدين. يقول المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم". إن معاملة الإسلام للأديان الأخرى يجب أن يُحْكَم عليه وفقا لاختبار بسيط: كيف كان سلوك الحكام المسلمين خلال ما يربو على الألف عام عندما كان في استطاعتهم استخدام ما لديهم من قوة لنشر الدين بالسيف؟ حسنا، أبدا لم يفعلوا. لقرون عديدة حكم المسلمون بلاد اليونان: هل أصبح اليونانيون مسلمين؟ هل حاول أحد حتى أن يكرههم على أن يسلموا؟ العكس هو الصحيح، إذ تقلد المسيحيون اليونانيون أرفع المناصب في الإدارة العثمانية. كذلك فالبلغار والصرب وأهل رومانيا، وكذلك المجريون والأمم الأوروبية الأخرى، عاشوا في فترة أو في أخرى في الماضي تحت الحكم العثماني وتمسكوا بإيمانهم المسيحي، ولم يكرههم أحد على أن يصبحوا مسلمين، وجميعهم ظلوا مخلصين للمسيحية. نعم، اعتنق الألبان الإسلام، وكذلك فعل البوسنويون. لكن لا أحد زعم أنهم فعلوا ذلك تحت الإكراه. لقد اعتنقوا الإسلام لكي يصبحوا مفضلين لدى الحكومة ولكي يستمتعوا بالمكاسب. في عام 1099 غزا الصليبيون مدينة بيت المقدس وارتكبوا المذابح في حق سكانها من المسلمين واليهود من غير تمييز، وارتُكَِبتْ هذه الجرائم باسم المحترم يسوع. في هذا الوقت، بعد 400 عام من احتلال المسلمين لفلسطين، كان المسيحيون مايزالون يمثلون أغلبية سكان الدولة. ولم يحدث خلال هذه الفترة الطويلة أن بُذِل أي جهد لفرض الإسلام عليهم. لكن فقط بعد طرد الصليبيين من الدولة بدأ أغلبية السكان في تبني اللغة العربية و اعتناق الدين الإسلامي، وهؤلاء هم أجداد غالبية فلسطينيي اليوم. وليس هناك أي دليل على الإطلاق على أن ثمة محاولات بُذِلَتْ لفرض الإسلام على اليهود. فكما هو معروف تمتع اليهود تحت الحكم الإسلامي في أسبانيا بازدهار لم يتمتع اليهود بمثله في أي مكان آخر تقريبًا حتى عصرنا الحالي. فشاعرٌ مثلُ يهودا هاليفي كتب شعره بالعربية، وكذلك فعل ابن ميمون العظيم. في أسبانيا المسلمة كان اليهود وزراء وشعراء وعلماء. في طليطلة المسلمة عمل العلماء اليهود والمسيحيون والمسلمون سويا وقاموا بترجمة النصوص العلمية والفلسفية الخاصة باليونانين القدماء. لقد كان هذا العصر بحق هو العصر الذهبي. كيف لمثل هذا أن يحدث إذا كان النبي قد أمر بـ"نشر الدين بالسيف"؟ ماحدث بعد ذلك هو أمر جدير بالاعتبار، فعندما قام الكاثوليك بالاستيلاء مرة أخرى على أسبانيا من أيدي المسلمين أقاموا حكم الإرهاب الديني. لقد وُضِعَ اليهودُ والمسلمون أمام خيار قاسٍ،: إما أن يصبحوا مسيحيين، أو أن يتعرضوا للمذابح، أو يرحلوا. ولكن إلى أين يهرب مئات الآلاف من اليهود الذين رفضوا التخلي عن إيمانهم؟ كلهم تقريبا استُقْبِلوا في البلاد الإسلامية بترحاب عظيم. اليهود السفرديم (الأسبان) استقروا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي: من المغرب في الغرب إلى بغداد في الشرق، ومن بلغاريا في الشمال (كانت ما تزال تحت الحكم العثماني) إلى السودان في الجنوب. لم يحدث أن اضطُهِدوا في أي من هذه الأماكن، ولم يقع لهم مثل الذي ابْتُلُُوا به في كل البلاد المسيحية تقريبا من تعذيب محاكم التفتيش ولهيب المحارق والذبح والطرد الجماعي وصولا إلى الهولوكوست. لماذا؟ لأن الإسلام حرم بشكل واضح أيّ اضطهاد "لأهل الكتاب". وفي المجتمع الإسلامي حظي اليهود والمسيحيون بمكانة خاصة. لم يحصلوا على المساواة الكاملة في الحقوق، لكنهم حصلوا على معظمها. لقد كان يتوجب عليهم دفع ضريبة خاصة، لكنهم أُعْفُوا من الخدمة العسكرية، وهو امتياز كان موضع ترحيب عظيم من قِبَل الكثيرين من اليهود. لقد قيل إن الحكام المسلمين كانوا يسيئهم أي محاولة لإقناع اليهود بدخول الإسلام حتى ولو كان طريق الاقتناع سلميا لأن ذلك يستلزم نقص الضرائب. إن كل يهودي يتسم بالأمانة ويعرف تاريخ شعبه لا يمكنه إلا أن يشعر بعميق الشعور بالجميل للإسلام، الذي حمى اليهود لمدة خمسة أجيال، في حين كان العالم المسيحي يضطهد اليهود ويحاول لمرات كثيرة أن يكرههم على التخلي عن إيمانهم. إن قصة "نشر الدين بالسيف" هي أسطورة شريرة، وخرافة من الخرافات التي نمت في أوروبا أثناء الحروب الكبرى ضد المسلمين، مثل حروب استرداد المسيحيين لأسبانيا، والحروب الصليبية، وحروب الدفاع ضد الأتراك، الذين غَزَوْا فيينا تقريبًا. بل إني لتساورني الشكوك في أن يكون البابا الألماني الأصل أيضا يؤمن فعلا بهذه الخرافات. هذا يعني أن زعيم العالم الكاثوليكي، الذي هو عالم في اللاهوت المسيحي أيضا، لم يبذل أي جهد لدراسة تاريخ الديانات الأخرى. ولكن لماذا يا ترى تفوّه قداسته بهذه الكلمات علنًا؟ ولماذا الآن تحديدًا؟ لا مفر من النظر إلى هذه الكلمات على خلفية الحملة الصليبية الجديدة التي يقودها بوش وأنصاره من الإنجيليين بشعاراته عن "الفاشية الإسلامية" و"الحرب الكونية ضد الإرهاب" في وقت صار فيه الإرهاب مرادفًا للإسلام. وبالنسبة لمعارضي بوش فهذه محاولة مضحكة لتبرير السيطرة على مصادر البترول العالمية. وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها رداء الدين لتغطية عُرْي المصالح الاقتصادية، وليست هذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها تنافس اللصوص إلى حملة صليبية. إن خطاب البابا هذا يصب في هذا الاتجاه، فمن يا ترى يستطيع أن يتنبأ بنتائجه الكارثية؟".
    ومع ذلك كله يبكتنا الكندى ونسله النجس فى المواقع المشباكية بأن الإسلام دين عدوان وتقتيل. وبالمناسبة فآية "لا إكراه فى الدين" ليست آية مكية كما يقول أعداء الإسلام، بل هى آية مدنية نزلت بعد السماح للمسلمين بقتال من يقاتلهم. أى أن الرد على العدوان شىء، وإكراه الآخرين على الدخول فى الإسلام شىء آخر تماما لا يعرفه الإسلام. والآن يمكنك، أيها القارئ، أن تحكم بنفسك على هذا المتنطّس المتنطّع الذى يقيم من نفسه واعظا علينا يعلمنا الرحمة والإنسانية فى تعاملنا معه هو وقومه، بعدما رأيت بنفسك الفرق الرهيب بين تشريعاتنا وتشريعاتهم فى هذا الشأن. أما تخويفه من شريعة الجهاد فى الإسلام فإنه خبث مفضوح، إذ لا يكره دفاعَ أية أمة عن نفسها إلا مجرمٌ أثيمٌ يريد تخدير فريسته حتى لا تكون يقظة له ولألاعيبه الإبليسية فيأخذها على غرة وهى نائمة على صماخ أذنيها كما وقع وما زال يقع لنا على يد الاستعمار الغربى، فيكون انتصاره علينا واحتلاله أرضينا عبارة عن نزهة خلوية. ويا حبذا لو خرجت له نساؤنا يرقصن للترفيه عنه كما منّت أمريكا جنودها حين استجلبتهم لغزو العراق! ولو كان الإسلام يشرع الحرب الإكراهية كما يزعم هذ الكذاب، فلم قال سبحانه وتعالى فى سورة "الممتحنة": "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)"؟ من الواضح أن القرآن لا يأخذ العاطل مع الباطل، بل يفرق بينهما تفرقة دقيقة وحكيمة. كذلك لو كانت الحرب العدوانية شريعة إسلامية لما قال رسوله الكريم: "يا أيها الناس، لا تتمنَّوْا لقاء العدو، وسَلُوا الله تعالى العافية. فإذا لَقِيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف... اللهم مُنْزِلَ الكتاب ومُجْرِيَ السحاب وهازمَ الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم"، ولما رضى عليه السلام بشروط الحديبية المجحفة مبديًا استعداده للعمل بكل سبيل إلى حقن الدماء! من هنا فاتهام المؤلف الكذاب للإسلام بأنه ليس دين سلام هو قولٌ مجافٍ للحقيقة، تلك الحقيقة التى تتمثل فى أن دين سيد الأنبياء والمرسلين هو دين سلام إذا كان الطرف الآخر يبغى سلاما، ودين حرب إذا فُرِضَت عليه الحرب فرضا ولم يكن هناك أى مجال لتجنبها، وإن كان مع هذا يؤثر السلام ويدعو إليه ويريد أن يعيش مع الآخرين فى ظلاله الوارفة ما أمكن وما وجد استجابة لدعوته الكريمة. هذه هى الحقيقة بكل بساطة وصدق، ولا إخال أن هناك من يعترض على ذلك، فضلا عن أن يكذب وينافق متظاهرا بالتسامح كأى ثعلب مارد خبيث يلبس مُسُوح المتقين، وهو مجرم لئيم!
    25- وكان الهاشمى قد دعا عبد المسيح الكندى فى رسالته إليه أن يمارس حياته الطبيعية كما يمارسها أى آدمىٍّ سَوِىٍّ مُشْبِعًا رغباته فى الحلال، فكان جوابه هو: "أما ما دعوتَني إليه فقد عددتُه من الأمور الزائلة الفانية التي هي كأحلام النائم، والبرق الذي يضيء قليلاً ويذهب سريعًا ويبقى راجيه في الظلام مقيمًا. ولو كانت هذه أشياء دائمة باقية غير فانية لما كان يجب على ذي عقلٍ أن يرغب فيها ولا يميل إليها، فكيف وهي مشاركة البهائم التي همّها الأكل والشرب والنوم؟ وإنما يميل إلى مثل هذه الأوضاع من قد غلب عليه الشَّرَه في أخلاقه وطباعه، ولا أظنك عرفتني بالراغب في هذا وشبهه! فكيف أردت أن تصيدني بمثل هذه المصائد الدنية الخسيسة التي إنما يميل إليها ويغترّ بخدعتها من كان طبعه يشاكل طبع البهائم. فأما المميّزون الذين قد نظروا في الأمور فإنهم أبرياء من مثل ما ذكرتَه وعدَّدْتَه، بل هم مجتهدون في أن يدفعوا آفات أبدانهم التي لا قِوام لهم إلا بها. ولو تهيّأ لهم دَفْعها في الطبائع، أو كان ممكنًا لهم ذلك، لدفعوها. وما لهذا خلق الله الخَلْق، ولا لمثله يبعثهم من الموت يوم القيامة. فأنت تقول في كتابك: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (سورة الذاريات/ 56)، فأراك مناقضًا لقولك، لأنك قلت إنك خُلِقْتَ للعبادة، ثم تنقض وتهدم بناءك وتقول: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ (ومن الإماء) فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (سورة النساء/ 3) وأن نأكل ونشرب مثل البهائم. أما باب الطلاق والاستحلال والمراجعة الذي أحلّه صاحبك فلولا كراهية التطويل لتلوْتُ عليك مما قرَّع الله به أهله على لسان إرميا النبي. لكنك تعلم ما في هذا الأمر من العيب والشناعة عند جميع الأمم وسائر أهل الملل، وكيف استقباحهم له وإنكارهم إياه. وإني لأَنْهَى نفسي عن سفه المخاطبة فيه، وأرفع قدر كتابي عن إدخال شيء من ذكره".وواضحٌ زرايةُ الكندى على أسلوب حياة المسلمين واتهامه إياهم بأنهم على شاكلة البهائم. فهل يمكن أن يصدق عاقل أن هذا الكلب، مهما طمأنه الهاشمى وأعطاه الحرية فى التعبير عما بنفسه دون خشية، يجرؤ على أن يرميه هو والمسلمين جميعا بما فيهم رسول الله وأمير المؤمنين بأنهم "بهائم" مع ما نعرفه من حرصه على مراعاة مقام الخليفة وعدم جرأته على وصفه إلا بـــ"سيدى أمير المؤمنين" فى ذلة وخنوع ونفاق صفيق؟ فهذا مما يريبنى فى الرسالة ولا يجعلنى أصدق أن صاحبها هو الكندى، بل شخص أقدم على تسويدها فى الظلام ثم وضعها فى طريق الناس مطمئنا إلى أن أحدا لن يعرف حقيقته، ومن ثم فهو آمن من العقاب. وبالنسبة إلى الطلاق فمعروف لكل أحد أن أبغض الحلال فى الإسلام إلى الله الطلاق، فهو إذن ضرورة من الضرورات لا يلجأ إليها المسلم إلا فى حدودها. وكأى ضرورة كان الطلاق فى كثير من الأحيان أمرا لا بد منه، وإلا استحالت الحياة الأسرية جحيما وكان ذلك سببا فى الزنا، وربما القتل، للتخلص من الطرف الآخر الذى لا يستطاع التخلص منه بالحسنى كما هو مشاهد بين من يُعْنِتون أنفسهم دون داع ويكلفون طبيعتهم البشرية مستحيلا من الأمر، مما تناولناه قبل قليل فى هذه الدراسة. ثم إن قوله تعالى فى سورة "الذاريات": "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" لا يتناقض مع قوله عز شأنه فى سورة "النساء": "فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" فى شىء قَلَّ أو كَثُرَ. ذلك أن العبادة فى الإسلام ليست مقصورة على الصلاة والصيام والزكاة والحج، وإن كان هذا هو المعنى الاصطلاحى الفقهى للعبادة، بل تشمل هذا كله وتتجاوز هذا كله إلى ألوان أخرى لا تنتهى من العبادات يمكن اختصارها ببساطة فى قولنا إن كل ما رقَّى الحياة البشرية وأسعد الناس وجلب لهم المنافع ودفع بالحضارة الإنسانية إلى الأمام وعمله المسلم مرضاة لربه سبحانه هو لون من ألوان العبادة يؤجر عليه الإنسان أجرا عظيما. ومن هنا نقرأ فى سورة "المُلْك": "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)". وقد عد الرسول معاشرة الرجل لزوجته فى السرير عملا طيبا يحوز من الله أجرا عليه، وكان رده على من استغرب ذلك من صحابته الكرام أن الزوج لو كان قد عاشر امرأة أخرى غير زوجته لكان الله قد عاقبه، فبالمثل يجزيه سبحانه وتعالى الجزاءَ الحَسَن على إشباعه رغبته فى الحلال. كذلك عد الرسول السعى على المعاش لونا من ألوان العبادة، وقال فى رجل كان من عادته البقاء فى المسجد بعد انتهائه من الصلاة، على حين يخرج أخوه فيجرى على معاشهما، إن الأخ الساعى على المعاش أعبد من الملازم للمسجد. وهناك الحديث الشريف الذى يقول فيه صلى الله عليه وسلم إن فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، وكذلك الذى يقول فيه: "فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الوَرَع"، وهذا الذى يقول فيه: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم"... وهكذا. ثم إن المعاجم اللغوية تفسر "العبادة" على النحو التالى كما نقرأ فى "تاج العروس" مثلا: "العُبُودِيّةُ والعُبُودَةُ بضَمِّهِما والعِبَادَةُ بالكسر: الطاعةُ. وقال بعضُ أئمة الاشتقاقِ: أَصلُ العُبُودِيّةِ: الذُّلُّ والخُضُوعُ. وقال آخَرُونَ: العُبُودَةُ: الرِّضا بما يَفْعَلُ الرَّبُّ، والعِبَادَةُ: فِعْلُ ما يَرْضَى به الرَّبُّ. والأَوّلُ أَقوى وأَشَقُّ". ويقول بطرس البستانى فى "محيط المحيط": "عَبَد اللَّهَ تعالى يعبُدهُ عُبُودةً وعُبُوديَّةً وعِبَادةً:طاع لهُ وخضع وذلَّ وخدمهُ والتزم شرائِع دينهِ ووحَّدهُ". ولم يحرم الله على عباده فى دين سيد الأنبياء الاستمتاع بآلائه ولا قال لهم إن مطالب أجسادهم ولا إشباعها شىء مقيت، إذ هو خالق تلك الأجساد وخالق حاجاتها، والمهم ألا يتجاوز الشخص فى إشباعها حدود الحلال والاعتدال. وعلى هذا فنحن حين نستمتع بآلاء الله لا نعصيه سبحانه، بل نطيعه لأنه عز وجل امتنّ علينا بتلك الآلاء وأخبرنا أنه خلقها لنا: "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام/ 99)، "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (الأنعام/ 141- 142)، "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (إبراهيم/ 32- 34)"، "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم/ 21). كما أثّم الإسلام، قرآنا وحديثا، الرهبانية التى أدخل النصارى عليها من البدع ما لا يرضاه الله سبحانه: "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد/ 27).
    ومن هنا فلا معنى لاعتراض صاحبنا أبدا، ولا مكان عندنا لما يزعم حُسْنَه من تلك الرهبانية، لكن المنافقين قوم لا يفهمون، إذ هم حريصون على السمعة الكاذبة والرياء الحقير أكثر مما هم حريصون على العيش فى نور الحقيقة. والمضحك أن الكندى يصف التمتع النظيف بالحياة بأنه كــ"أحلام النائم". وعلى هذا فإن معاشرة الرهبان للراهبات هو حلم من "أحلام النائم"، واغتصاب القساوسة للغلمان الصغار وزناهن بالنساء فى ظلام الكنيسة عند تقديم الاعتراف إلى الذئب المتوحش حلم من "أحلام النائم"، وكذلك ترسيم المآبين أساقفة حلم من "أحلام النائم"، وجولات الباباوات فى العصور الوسطى فى ربوع أوربا فى صحبة عشيقاتهم حلم من "أحلام النائم". وعلى رأس كل ذلك فإن العلاقات الآثمة بين بعض الباباوات وأخواتهن كانت حلما من "أحلام النائم". ويا لها من أحلام لذيذة: لذيذة فى نظر المنافقين الدنسين، "Lazeeza" كما يسمِّى الشواذُّ موقعَهم على المشباك، لكنها دنيئة وقميئة وملوثة وتُرْدِى بأصحابها فى النار عند رب العالمين! وهنا يقول الكندى إن الله هو الذى خلق له نفسه وجسده، فنقول نحن له: ما دام الله هو خالق جسدك، فهل يمكن أن يخلق سبحانه الجسد ثم يحرّم عليه الشهوات مطلقا حتى الحلال منها بحجة أنها بالحيوان أليق؟ أليس جسد الإنسان، مثل جسد الحيوان، يحتاج إلى إشباع تلك الشهوات، وإلا اضطربت نفس الإنسان واستحالت حياته جحيما لا يمكن إطاقته؟ ألم يكن المسيح يأكل؟ ألم يلعن التينة من جوعه حين لم يجد فيها ثمرا رغم أن التينة لا ذنب لها ورغم أن المشكلة كانت عنده هو، إذ لم يتنبه إلى أن الأوان ليس أوان التين؟ ولماذا قام بمعجزة توفير الطعام للآلاف إذا كان الطعام، وهو شهوة البطن، شيئا مذموما، أو على الأقل شيئا لا يُحْرَص عليه؟ بل لماذا كانت أولى معجزاته هى توفير الخمر للمدعوين فى عرس كانت الخمر قد نفدت منه، فطلبت مريم من ابنها أن يتولى هذا الأمر، فكان أنْ حوّل الماء الموجود إلى خمر معتقة أعجبت الشاربين إعجابا شديدا فأثنوا عليها أعظم الثناء؟ وإذا كان الزواج يتنافى مع العبادة، فهل نفهم من هذا أن كل الأنبياء الذين تزوجوا، وهم يمثلون كل الأنبياء ما عدا من له ظروف خاصة منهم كيحيى وعيسى عليهما السلام، لم يكونوا فاضين لعبادة الله، وبخاصة إذا ما كان للواحد منهم أكثر من زوجة كإبراهيم، ودَعْنا من أن يكون تحته عشرات النساء كسليمان؟ أم ماذا؟ خيبة الله على المنافقين الملاعين إلى يوم الدين! ثم ما وجه التعارض بين عبادة الله وبين الاستمتاع بنعم الله؟ أوقد خلق الله دنياه لكى ننفر ونفرّ منها؟ فلماذا ولمن خلقها إذن؟ وهل، لو تركْنا نِعَمَ الله فلم نستمتع بها، سنقضى عندها كل أوقاتنا فى الصلاة والصيام والزكاة والحج؟ لكن هل هذا ممكن؟ بل هل من الأدب مع خالق النِّعَم أن نردّها له رافضين منحته وكرمه؟ إنه سبحانه وتعالى هو الذى أمرنا بعبادته، وهو هو نفسه الذى أمرنا أن نمشى فى جوانب الأرض نأكل من رزقه، وهو هو الذى امتن علينا بما خلقه من أجلنا من شمس وقمر وسماء وأرض ونور وظلام وظلال وطعام وماء ونساء، فكيف يظن هذا السفيه أن فى الأمر تناقضا؟ بل هل يمكن أصلا أن يعبد الإنسان ربه وهو حارم نفسه من متع الدنيا فلا يتزوج، ولا يأكل إلا الجشب من الطعام، ولا يسكن إلا فى الأكواح الحقيرة أو فوق أغصان الشجر، ولا يلبس إلا الخيش مثلا؟ وهل استطاع الوغد أو غيره أن يفعل ذلك؟ وما الفائدة التى ستعود على الله من حرماننا لأنفسنا من طيباته؟ إن الإنسان الكريم ليسرّه أن يقبل الناس هداياه وعطاياه ويستمتعوا بها، فما بالنا بالكريم المتعال؟ وهذا كله لو كان معنى العبادة فى الإسلام هو ذلك المعنى الضيق الذى لا يفهم الحمار الغبى سواه. إن المهم الذى ينبغى أن نضعه نصب أعيننا طوال الوقت هو ألا نشرك بالله شيئا من الحجر أو الحيوان أو البشر، والإسلام هو الدين الوحيد الذى يتحقق فيه التوحيد ويصل إلى أقصى آماده، وليس كالديانات التى تؤله العباد تحت هذه الذريعة أو تلك ثم تعبدهم ثم تأنس فى نفسها الجرأة لانتقاد دين التوحيد الكامل!
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #13
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    26- وفى تحريف الإنجيل يكتب صاحبنا: "ولقد ذكرتَ التحريف واحتججتَ علينا بأننا حرَّفنا الكلم عن مواضعه وبدَّلنا الكتاب، وكأن هذا القول جعلته كهفًا تستتر به. وإني لأخبرك خبرًا حقًّا، فاسمعه مني واقبله، فإن قولي ليس قول باغٍ ولا حاسدٍ ولا متعنتٍ معاند. أنت تعلم أننا نحن واليهود الذين ينكرون مجيء المسيح نور العالم وضياء الدنيا قد اجتمعنا عن غير تواطؤ على صحة هذا الكتاب، وأنه منزَل من عند الله، لا تحريف فيه ولا تبديل، ولم تلحقه زيادة ولا نقصان. وإلا فنحن ندعوك أنت أيها المدّعي علينا التحريف والتبديل (إن كنت صادقًا) بكتابٍ غير محرَّف ولا مبدَّل، يشهد لك على صحة الآيات العجيبة كما شهدت الأعاجيب للأنبياء والرسل حيث جاءونا بصحة هذا الكتاب، فقبلنا ذلك منهم، وهو في أيدينا وأيدي اليهود بلا زيادة ولا نقصان. وإني أعلم أنك لا تقدر على ذلك أبدًا. وكتابك يشهد بصحة ما في أيدينا شهادة قاطعة، إذ يقول: فَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ ممّا أَنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْأَلِ الذين يَقْرَأُون الْكِتَابَ من قَبْلِك لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّك فَلاَ تَكْونَنّ من الْمُمْتَرين (يونس/ 94)، ثم فسر هذا القول وأكَّده، معترفًا لنا بالفضيلة التي أُوتِيناها قائلاً: الَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (البقرة/ 121). شهد لنا كتابك بحق التلاوة في موضع تكون فيه تلاوتنا، وقد أمر أن نُسْأَل ويُقْبَل منا كل ما نقوله، فكيف تقول إنه قد وقع منا التبديل والتحريف للكلم عن مواضعه؟ فهذان حكمان متناقضان. فما بالك تشنّع علينا وتقول إننا حرّفنا الكتاب وبدّلنا تنزيل الله وغيَّرنا كلامه، ونحن نتلوه حق تلاوته كما شهد لنا صاحبك؟". وفى هذا النص أشياء أراد الكندى المزعوم أن يمررها من تحت أنوفنا دون أن تلتقطها أعيننا، ولكن بعيدة عن شاربه! كيف؟ يقول إن النصارى واليهود متفقون على أن هذا الكتاب (أى كتاب؟ للأسف لم يحدد، بل ترك المسألة عائمة!) منزل من عند الله وأنه ليس فيه تحريف. وهذا كلام المكّارين، إذ اليهود لا يعترفون أصلا بنبوة المسيح، بل لا يعترفون أنه عليه السلام قد أتى حتى الآن، ولهذا تراهم ما زالوا ينتظرون مجيئه، أما عيسى بن مريم الذى نعرفه فهو عندهم ساحر كذاب وابن زنا، فكيف يؤمنون أن العهد الجديد منزل من عند الله؟ بل كيف يؤمنون بما لا يؤمن به النصارى أنفسهم الذين لا يرون فى الأناجيل نفسها وحيا إلهيا نزل على عيسى، بل مؤلفات من وضع ناس كتبوها من الذاكرة دون تمحيص بعد ترك المسيح الأرض بعشرات السنين؟ وإن كانوا يقولون إنها بإلهام من الروح القدس، مع اعترافهم بامتلائها بالأخطاء فى ذات الوقت على أساس أن الوسطاء الذين تَلَقَّوُا الإلهام من الروح القدس بشرٌ يخطئون. فهذا الذى يقوله القرآن عن الإنجيل يقوله كتبة الأناجيل أنفسهم! والحمد لله أنهم لم يتنبهوا لذلك، وإلا ما سمحت أنفسهم أبدا بتسجيله، لكنه أشبه بفلتات اللسان التى يتحدث عنها علماء النفس: ففى الإصحاح السادس والعشرين من متى نقرأ قول المسيح بشأن المرأة التى عطرته بقارورة طيب فلم يعجب ذلك حوارييه: "13اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ تَذْكَارًا لَهَا"، وهو ما نجده أيضا فى الإصحاح الرابع عشر من مرقس: "9اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ تَذْكَارًا لَهَا". وفى الإصحاح الأول من مرقس نقرأ: "وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ"15وَيَقُولُ:«قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»". وفى الإصحاح الثامن من مرقس أيضا نقرأ: "34وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. 35فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا". وفى الإصحاح العاشر من مرقس كذلك نقرأ: "29فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ، 30إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 31وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ»". وفى الإصحاح الثالث عشر من مرقس مرة رابعة نقرأ: "10وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ"، وهو ما تكرر مرة أخرى فى الإصحاح السادس عشر من مرقس: "14أَخِيرًا ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ، وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. 15وَقَالَ لَهُمُ:«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا". ولنلاحظ أن الكلام فى هذه النصوص عن إنجيل موجود فى يد المسيح يدعو أمته إلى ما فيه، ويشير إليه صلى الله عليه وسلم بكلمة "هذا" صراحة، ومن ثم فلا مكان فى هذه النصوص للمماراة والجدل الساذج الذى لا يؤكّل عيشا. فما رأى كنديّنا الكذاب فى هذا؟ ليس ذلك فحسب، بل إن قول المسيح ما قال عن المرأة صاحبة قارورة العطر هو دليل قاطع على أن هناك عبثا فى الأناجيل. ألم يقل: "13اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ تَذْكَارًا لَهَا"؟ لكننا ننظر فى إنجيل يوحنا فلا نجد خبرا عما صنعته تلك المرأة ولا أثرا لتلك العبارة العيسوية التى تثنى عليها، وهو ما يُعَدّ تكذيبا له عليه السلام، لكن الأنبياء لا يمكن أن يكذبوا، فما العمل؟ العمل هو القول بأن الإنجيل الذى يقصده المسيح قد اختفى، وإن كانت بعض الأناجيل البشرية التى ألفها المؤلفون بعد تركه الدنيا قد سجلت تلك الواقعة، وبعضها فاته ذلك. أما فى الإصحاح السابع من لوقا فتوجد حكاية المرأة، لكن لا توجد عبارة السيد المسيح بشأنها.
    ثم لا يكتفى الرجل (أقصد شبيه الرجال) بهذا، بل يزعم أن القرآن الكريم يشهد لكتابهم بالصحة شهادة قاطعة، إذ يقول مخاطبا الرسول عليه السلام: "فإن كنتَ في شكٍّ مما أنزلْنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتابَ من قَبْلِك. لقد جاءك الحقُّ من ربِّك فلا تكوننّ من الـمُمْتَرِين"، ثم فسَّر هذا القول وأكَّده، معترفًا لهم بالفضيلة حسبما قال، وذلك فى الآية التالية: "الَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ". ولا ريب أن شبيه الرجال يعبث هنا عبثا لا يليق بالرجال، الذين لا ينتمى إليهم، إذ القرآن واضح تمام الوضوح فى التأكيد بأن كتابهم قد لعبت به الأيدى كما قال سبحانه وتعالى عنهم فى سورة "المائدة": "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)". والواقع أن هذه نتيجة منطقية، إذ القرآن يتحدث دائما عن إنجيلٍ أنزله الله على عيسى بن مريم: "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ" (آل عمران/ 48)، "وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" (المائدة/ 46)، "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد/ 27)، على حين أن الأناجيل التى بين أيدينا الآن ليست هى ذلك الإنجيل، بل مؤلفات كتبها ناس من الذاكرة بعد انتقاله عليه السلام عن الدنيا بعشرات السنين بوصفها تاريخا له لا بوصفها الوحى الذى نزل عليه. فهى بهذه الصفة أقرب ما تكون إلى السيرة النبوية لدينا نحن المسلمين، وإن كان ينقصها تمحيص الروايات كما فى سيرة المصطفى، إذ لم يعتمد كتابها إلا على ذاكرتهم حسبما هو معلوم. كذلك فإن هذه الأناجيل تختلف فيما بينها اختلافات كثيرة وشنيعة، مما يبرهن على أنها ليست أهلا للثقة. وفوق هذا هناك أناجيل أخرى غير تلك الأربعة بينها وبين تلك الأربعة اختلافات أكثر وأشنع. وهذه الاختلافات تتخذ أشكالا عدة: فقد يتناول إنجيل من الأناجيل ما لا يتناوله إنجيل آخر، وقد يختلف معه فى رواية الحدث أو الحديث الواحد، وقد يصل هذا الاختلاف حد التناقض الذى لا يمكن التوفيق فيه بينهما. كذلك قد يسوق كاتب الإنجيل أشياء تنافر المنطق أو التاريخ أو الجغرافيا أو العهد القديم أو ما ينبغى لله من تنزيهٍ وللرسل الكرام من احترامٍ، فضلا عن تناقض الإنجيل الواحد مع نفسه. ثم لماذا اختيرت تلك الأربعة بالذات وأُهْمِل ما عداها؟ ليس هناك من سببٍ علمىٍّ ولا مُقْنِعٍ لهذا، إنما هى نزوة استبدت بمن اختاروها وتركوا ما سواها، وإلا فكلها عمل بشرى نبت فى عقول أصحابها فنفذوه بعُجَره وبُجَره. وهم الآن يعترفون بأن فى الكتاب المقدس، بما فيها الأناجيل، أخطاءً علميةً وتاريخيةً وحسابيةً ولغويةً، ويُرْجِعون ذلك صراحة إلى تأثير الوسيط البشرى، أى الكتبة الذين ألفوها. وهم يسمون هذا بـــ"Colouring by the medium" حسبما ذكر المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث فى كتابه: "Mohammedanism" (Williams & Norgate, London, 1921, P.63). ومعناه أن الوحى إنما ينزل كفكرة عامة، ثم يقوم النبى الذى نزل عليه الوحى بصياغتها بعقله وأسلوبه هو. ومن ثم فالأخطاء التى توجد فى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ترجع إلى هذا الوسيط لا إلى السماء! يا فرحة قلبى! حاجة تطمئن فعلا! وعلى أية حال فإن تحريف الكتاب المقدس، والأناجيل بالذات، أصبح أمرا مقررا لا يمارى فيه أحد ولا حتى من رجال اللاهوت أنفسهم. وآخر ما عثرنا به على المشباك فى الكلام عن تحريف الأناجيل هو كتاب "Misqoting Jesus- The Story behind Who Changed the Bible and Why" لبارت إيرمان (Bart D. Ehrman)، فأرجو من صاحبنا الكندى أن يقوم من موته ويقرأه ثم يعود إلى موته ونتانته من جديد.
    وإلى القارئ نَصًّا (نَصًّا واحدًا فقط من نصوص كثيرة يصعب حصرها) من الأناجيل محشُوًّا بالأخطاء شاهدا على ما نقول، وليكن أول شىء فى أول إصحاح من أول إنجيل، وهو سلسلة نسب المسيح عليه السلام المذكورة فى إنجيل متى، فماذا نجد فيها؟ ها هى ذى أولا السلسلة المذكورة: "1كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ: 2إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. 3وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. 4وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. 5وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. 6وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. 7وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حِزْقِيَّا. 10وَحِزْقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. 11وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. 12وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. 13وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. 14وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. 15وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ. 17فَجَمِيعُ الأَجْيَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ إِلَى دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ دَاوُدَ إِلَى سَبْيِ بَابِلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً، وَمِنْ سَبْيِ بَابِلَ إِلَى الْمَسِيحِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً". والآن هل يتصور القارئ الكريم أن من الممكن وجود أخطاء فى نسب الربّ عند أصحاب الأناجيل؟ لن أتكلم أنا، بل سأورد سلسلة نسب المسيح مرة أخرى كما أوردها لوقا، وأرجو من القارئ أن يقوم بالمقارنة بين النسبين من حيث عدد الأشخاص الذين تشتمل عليهم كل سلسلة وترتيبهم، مع ملاحظة أن إحدى السلسلتين تنتهى عند إبراهيم، على حين تظل الأخرى ماضية فى طريقها إلى الله ذاته، الذى تقول إنه هو الذى "وَلَدَ" ("وَلَدَ" لا "خَلَقَ") آدم، وسوف يرى القارئ فى هذه المقارنة عجبا: سواء فى اختلاف العدد أو فى اختلاف الترتيب أو فى اختلاف أسماء الأشخاص أو فى اختلاف نسبهم. وها هو ذا ما قاله لوقا فى الإنجيل المنسوب له، وكلامه موجود لمن يطلبه فى الإصحاح الثالث: "23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي، 24بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، بْنِ مَلْكِي، بْنِ يَنَّا، بْنِ يُوسُفَ، 25بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ عَامُوصَ، بْنِ نَاحُومَ، بْنِ حَسْلِي، بْنِ نَجَّايِ، 26بْنِ مَآثَ، بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ شِمْعِي، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يَهُوذَا، 27بْنِ يُوحَنَّا، بْنِ رِيسَا، بْنِ زَرُبَّابِلَ، بْنِ شَأَلْتِيئِيلَ، بْنِ نِيرِي، 28بْنِ مَلْكِي، بْنِ أَدِّي، بْنِ قُصَمَ، بْنِ أَلْمُودَامَ، بْنِ عِيرِ، 29بْنِ يُوسِي، بْنِ أَلِيعَازَرَ، بْنِ يُورِيمَ، بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، 30بْنِ شِمْعُونَ، بْنِ يَهُوذَا، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يُونَانَ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ، 31بْنِ مَلَيَا، بْنِ مَيْنَانَ، بْنِ مَتَّاثَا، بْنِ نَاثَانَ، بْنِ دَاوُدَ، 32بْنِ يَسَّى، بْنِ عُوبِيدَ، بْنِ بُوعَزَ، بْنِ سَلْمُونَ، بْنِ نَحْشُونَ، 33بْنِ عَمِّينَادَابَ، بْنِ أَرَامَ، بْنِ حَصْرُونَ، بْنِ فَارِصَ، بْنِ يَهُوذَا، 34بْنِ يَعْقُوبَ، بْنِ إِسْحَاقَ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بْنِ تَارَحَ، بْنِ نَاحُورَ، 35بْنِ سَرُوجَ، بْنِ رَعُو، بْنِ فَالَجَ، بْنِ عَابِرَ، بْنِ شَالَحَ، 36بْنِ قِينَانَ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ، بْنِ سَامِ، بْنِ نُوحِ، بْنِ لاَمَكَ، 37بْنِ مَتُوشَالَحَ، بْنِ أَخْنُوخَ، بْنِ يَارِدَ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ، بْنِ قِينَانَ، 38بْنِ أَنُوشَ، بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ابْنِ اللهِ".
    كذلك أرجو أن يلاحظ القارئ أن السلسلتين جميعا تنسبان عيسى عليه السلام إلى يوسف النجار، وهذه فضيحة بكل المقاييس، إذ إنهم بهذه الطريقة يرددون ما يقوله من يتهمون مريم بالزنا، ويَسِمون عيسى عليه السلام بأنه ابن حرام، أستغفر الله العظيم. ولا يقولنّ أحد إن وجود اسم يوسف هنا يمكن أن يفسَّر بأنه أبوه بالتبنى، فالتبنى إنما يحدث إذا كان الأب الحقيقى متوفًّى أو مجهولا أو عاجزا عن تربية ابنه أو غير راغب فيه أو إذا كان الولد نفسه يستعرّ من أبيه أو لا يرتاح إليه... إلى آخر الأسباب التى يمكن أن يتم من أجلها التبنى. ولا أظن عاقلا أو مجنونا يستطيع الزعم بأن هناك سببا واحدا يدعو إلى أن يتبنى يوسف النجار الطفل عيسى، فالله لا يمكن أن يموت، ولا يمكن أن يستعرّ من الانتساب إليه طفله الصغير، ولا يمكن أن يكون عاجزا عن تربيته، ولا يمكن القول بأنه مجهول لا يعرفه أحد، ولا يمكن القول بأن يوسف قد اغتصب منه ابنه عَنْوَةً واقتدارًا على غير رضًا منه أو أنه أغراه بالشيكولاتة والمصّاص والبونبون والشيبسى والبيبسى وغير ذلك مما يغرم به الأطفال من أطعمة ومشاريب ولا يحب بعض الآباء لأولادهم أن يتعلقوا به، فهناك والحمد لله محاكم وقانون يمكن أن يلجأ إليها الأب لاستعادة ابنه المغتصَب أو المضحوك عليه فى هذه الحالة، والحكاية ليست سيبة. أليس كذلك؟ كما أن الوحى ذاته قد حسم المسألة تماما وقال إنه ابن يوسف، وإن بنوته لداود إنما تتحقق عبر يوسف، وإلا لذكر بنوته لمريم لا ليوسف، وهذا واضح تمام الوضوح من سلسلتَىِ النسب فى متَّى ولوقا، فلا مجال للمماحكة فى هذا الموضوع بأى حال. ومعنى ذلك أن يوسف فى نظر مؤلّفَىِ الإنجيلين هو أبوه الحقيقى لا أبوه بالتبنى، ولو كان يريد أن يقول إنه ابن الله لذكر هذا بدلا من ذكره لآدم. فإذا عرفنا أن من بين آباء عيسى داودَ ويهوذا ولوطًا، وأن العهد القديم يتهم داود بالزنا بامرأة جاره وقائده المخلص أوريّا الحثى، وأنه ينسب داود إلى لوط ثم إلى يهوذا بن يعقوب عن طريق زنى الأول بابنته (تصوَّرْ!) وزنى الثانى بتامار امرأة ابنه (يا داهية دُقِّى!)، لم نملك إلا أن نقول: يا له من نسب يليق بالإله، إذ فيه ثلاثة زناة قراريين: أحدهما خان العيش والملح ولم يراع حقوق الجيرة والعشرة والإخلاص، والآخران اقترفا زنا المحارم، وما خفى من سيرة الباقين فالله حليم ستار! كذلك فإن أيا من السلسلتين لا تذكر أبدا أن عيسى ابن الله، بل تجعل سلسلةُ لوقا ذلك الشرفَ من حق آدم لا من حق عيسى كما قلنا. ثم بعد ذلك يتحدانا عبد المسيح بن إسحاق الكندى (خيّبه الله وفضحه فى العالمين أكثر مما هو مفضوح) قائلا إن الأناجيل لم تحرَّف. لا يا عبده يا خُويَا، لقد حُرِّفَتْ وحُرِّفَتْ وحُرِّفَتْ على رغم أنفك وفمك ويدك وذهنك أيضا، وأكبر ما فى خيلك اركبه وأرنى شطارتك، فالعلم ليس فيه مجاملات!
    وما كنا نحب أن نؤلم أحدا بكلامنا هذا، ولكنهم ينشرون رسالة الكندى وأمثالها فى المواقع المختلفة ويتحدَّوْننا بها: فإذا لم نردّ قالوا لنا: إنكم عاجزون عن الرد، وهذا دليل على ضعف دينكم، وإذا رددنا انبرى بعض آخر وقال: إنكم تتعرضون لديننا بما يسوؤنا. وهى حيلة مضحكة لا تجوز فى عقل أحد، فمن حقنا أن نردّ بما يبين الحقيقة مهما كانت مؤلمة. ونحن من جهتنا لا نقول لأحد: "اسكت، ولا تنتقد ديننا"، بل كل ما نفعله هو الرد على ما يقول بكلام مثل كلامه، ثم نضع الكلامين بين يدى القارئ، والقارئ عقله فى راسه يعرف خلاصه. وهى، كما ترى، معادلة عادلة لا غبن فيها لأحد، فأرجو أن يكون ذلك مفهوما. كما أننا لا نصرح للقارئ بكل ما يقوله الأوغاد فينا وفى رسولنا حفاظا منا على الهدوء والسكينة ما أمكن، ولكن ليس معنى هذا أن نترك السفهاء يبرطعون كما يحلو لهم ويتيهون علينا ويتباذؤون فى حقنا وحق نبينا، الذى لا يتركون كذبة سفيهة سافلة ولا اتهاما حقيرا وضيعا مثلهم إلا وافتروْهما عليه صلى الله عليه وسلم، فى الوقت الذى لا نذكر نحن فيه السيد المسيح إلا مشفوعا بالصلاة والسلام عليه وتبرئته مما يتقولونه هم عليه بجهل وغشم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا! هذا، ولا أريد أن أمضى فى كشف الثغرات الفظيعة فى الأناجيل، بل أحيل القارئ إلى ما كتبتُه فى المشباك تحت عنوان "قراءة فى إنجيل متى" و"مقتطفات ممتعة من الكتاب المقدس"، وكذلك كتبى الورقية التى تتعرض لمثل هذه الموضوعات مثل "مع الجاحظ فى رسالة الرد على النصارى" و"سورة طه" و"سورة يوسف" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" و"مصدر القرآن". ونحن حين نقول ذلك نعرف أن الله خلق البشر مختلفين، وأن كل أمة تعتز بما تؤمن به ولا تحب أن يتعرض لها أحد فى عقائدها ورموزها، ولكن على السفهاء أن يعرفوا أننا نحن أيضا نحب ديننا ونفتدى رسولنا بكل غال وثمين، ونراه نبيا عبقريا ليس هناك نبى فى عبقريته وإنجازاته المذهلة رغم احترامنا لكل الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فإذا أرادوا ألايتعرض أحد لما يعتزون به فليكفوا عن قلة الأدب والسفالة التى يظنون أنها مُبْلِغتهم ما يريدون، وهيهات، بل هم الخاسرون على المدى البعيد والقريب أيضا، إذ الإسلام هو دين الحقائق والعلم والمنطق، ولا يضيره أبدا بحث أى موضوع مهما تكن حساسيته، فنرجو ألا يضيق صدر الطرف الآخر مثلما لا يضيق صدرنا بالنقاش. أما أهل الكتاب المذكورون فى قوله تعالى لرسوله: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ"، وقوله سبحانه: "الَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"، فليسوا هم النصارى المثلثين، بل النصارى الموحدين الذين لا يخفون من الإنجيل شيئا، ومن هنا وصفهم القرآن بأنهم "يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ"، أى يتلون الإنجيل بفهم ودون تحريف أو تأليه للمسيح أو اعتقاد فى قتله وصلبه عليه السلام. وهؤلاء، كما جاء فى الآية، يؤمنون من ثم بالقرآن الكريم. ثم إن كان فى نفس الرسول خوف ألا يكون ما ينزل عليه وحيا من السماء (وهذا، كما ترى أيها القارئ الكريم، منتهى الموضوعية من الرسول والقرآن على السواء، وإلا فإن الكذابين لا يقولون هذا عن أنفسهم)، فليسأل، إن أحب، هؤلاء القوم المخلصين الذين يعلمون من كتابهم أنه رسول من عند رب العالمين. وبالمناسبة فهذه الآية من أوائل ما نزل من القرآن. وبالمناسبة أيضا فإنه، عليه السلام، حين نزل عليه قوله تعالى: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" أجاب قائلاً: "لا أشك ولا أسأل"، إذ كان إنما يريد مزيدا من الطمأنة من الله، وقد نالها والحمد لله، فلا داعى من ثم للاطمئنان من العباد. وأرجو أن يتنبه القراء الكرام إلى أن القرآن متى مدح أحدا من أهل الكتاب المعاصرين لسيدنا رسول الله فهم الذين أسلموا منهم كجبر ويسار وعبد الله بين سلام والقساوسة والرهبان الذين قُدِّر لهم أن يستمعوا إلى القرآن ففاضت أعينهم من الدمع إيمانًا وإخباتًا وسارعوا إلى إعلان إسلامهم ودَعَوُا الله أن يقبلهم فى زمرة المصدّقين الشاهدين. ولا يمكن أبدا أن يثنى القرآن على نصرانى يثلّث ويقول بالصلب لأن مثل ذلك النصرانى كافر بمحمد وبالدين الذى جاء به. وليس فى هذا افتئات على أحد، بل كل إنسان حر فيما يعتقد، وكل ما هنالك أن هذه هى عقيدة المسلم، وإلا ما كان مسلما.
    27- وفى الكلام عن المعجزات التى أجراها الله على يد المسيح عليه السلام مما لا يمارى فيه المسلم، وإنما يمارى فى القفز من الاعتراف بتلك المعجزات إلى القول بأنها دليل على ألوهية المسيح، وهو ما لا تلازم بينه وبين تلك المعجزات على الإطلاق، إذ ليس السيد المسيح هنا إلا واسطة أظهر الله على يديه عجائبه وقدرته سبحانه، يقول صاحبنا المجرم الزنيم المتخفى وراء اسم "الكندى": "إنه ظهر الكوكب للمجوس في بلاد فارس ليدلهم على ميلاد الملك العظيم الذي لا زوال لملكه، وكان علماؤهم قد سبقوا فأخبروهم بخبره في الكتب وعرّفوهم وقت ظهوره وأَعْطَوْهم الدليل على ذلك، والعلامة ظهور كوكب يتقدمهم في المسير إليه وقضاء بعض حق عبادته بالسجود له والخضوع لطاعته. فلم يزل المجوس ينتظرون ذلك ويتوقعونه راجين ومؤمّلين حتى جاء الوقت وظهر الكوكب الذي هو الدليل على ميلاد السيد العظيم (متى 2:1- 12)، فجاءوا من بلاد فارس إلى بيت المقدس الذي هو أرض اليهودية بهداية الكوكب، حتى وقف ببيت لحم، فقَضَوُا الغرض وأدَّوْا حق الطاعة، ورَأَوْا ما كانوا يؤملونه وانصرفوا مؤمنين غير شاكين ولا مرتابين، بل فرحين مسرورين. ثم ظهر ملاك عند ولادته لقوم من الرعاة كانوا يَرْعَوْن أغنامهم (لوقا 2:8-20) فقال لهم: هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ (يعني لأولاد آدم جميعًا) هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلامَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ . فلم يفرغ من كلامه حتى ظهرت لهم أجناد الملائكة مع ذلك الملاك وهي تطير ما بين السماء والأرض بتهليل وترتيل، وتهتف جميعًا بصوت عال وتسبّح وتقول: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة. ثم أقبل الرعاة إلى ذلك الموضع مسرعين فوجدوا المولود في مِذْوَدٍ كما أخبرهم الملاك، فصدّقوا وآمنوا وأخبروا بخبرهم وما عاينوه من أجناد الملائكة وما سمعوه من التسبيح العجيب، وقصّوا قصة مجيئهم، فتعجب من ذلك كل من سمع. فهذه قصة البشارة والميلاد على غاية الاقتصار من القول". هذا ما قاله الكندى المزعوم، وأما نحن فنقول: أولا: هذه الحدوتة اللطيفة التى تعجب العيال الصغار وتسرّهم لم ترد إلا فى الإنجيل المنسوب إلى متى، أما الأناجيل الأخرى المقبولة عند الكنيسة وغير المقبولة عندها فلا تعرفها. وثانيا: إذا كان الرعاة، رغم كل شىء، قد عاينوا ذلك وقصوه على الناس وآمن هؤلاء بما قالوه لهم، فلماذا يا ترى كان الناس جميعا بعد ذلك ينادون عيسى عليه السلام بــ"ابن يوسف"؟ إن هذا لا يعنى إلا واحدا من أمرين: إما أن تكون الحكاية لا أصل لها، ولْيَبُلّها الكندى إذن ويشرب ماءها (قبل الأكل، أو بعد الأكل، أو أثناء الأكل: فهذا أمر متروك له)، وإما أن المعجزة قد وقعت، لكن لم يكن لها أى أثر، فكأنك يا أبا زيد لا رحت ولا جئت! وأنا أرجح الأولى، وإلا فلم الرعاة وحدهم؟ اللهم إلا إذا قيل إن المسيح إنما بُعِث إلى الرعاة ليس إلا، وهذا ما لا يقول به أحد. ثم أين الرعاة فى الأناجيل بعد ذلك؟ الحق أنهم لا وجود لهم، بل لا وجود إلا للصيادين والعشّارين والكهنة والجنود الرومانيين، فضلا عن الممسوسين والعُمْيَان والبُرْصَان، أما الرعاة فكلا ثم كلا ثم كلا! ويبقى المجوس، وما أدراك ما المجوس؟ إن صاحبنا يقول بوجود البشارة به صلى الله عليه وسلم فى كتبهم، فأين هى يا ترى؟ وما الفائدة من مجىء المجوس لرؤية عيسى عليه السلام؟ أوقد آمنوا به؟ فما أسماؤهم إذن إن كان لهؤلاء الوفد وجود تاريخى؟ ام هى مجرد حواديت ظريفة، والسلام؟ لكننا لسنا فى مجال الحواديت! بل أين أثر تلك الزيارة فى أمة الفرس؟ المعروف أن الفرس لم يتحولوا هم بالذات إلى النصرانية، فالزيارة إذن زيارة من النوع الفِشِنْك. وهذا إن صَحّتْ، ولا أظنها تصحّ. ومَنِ الذين نقلوا خبر تلك الزيارة يا ترى لمؤلف إنجيل لوقا، وهو المؤلف الوحيد الذى ذكرها دون سائر مؤلفى الأناجيل، أو بالأَحْرَى: ملفّقيها؟ فأما المسيح فلا يمكن أن يكون هو الناقل لأنه كان رضيعا آنذاك لا يدرى من أمر نفسه ولا أمر الدنيا من حوله شيئا. وكذلك لا يمكن أن يكون الناقل مريم أو يوسف، وإلا لنسب كتبة الأناجيل ذلك إليهما، وهو ما لم يحدث. كما أن هناك سؤالا مهما لو عصرنا على عقولنا ليمونة وابتلعنا تلك الحدوتة، وهو: كيف يا ترى استطاع الطرفان: المجوس من جهة، ومريم ويوسف من جهة أخرى، أن يتفاهما، ولم تكن بينهما لغة مشتركة؟ اللهم إلا إذا قيل إن الأمم المتحدة كانت قد كلفت بعض تراجمتها الفوريين بحضور هذا اللقاء والترجمة بين الطرفين! ولكن هل يعقل أن يتم لقاء مثل هذا وينتهى فلا يلفت الأنظار؟ ألم يتساءل سكان المكان عن سر مجىء هؤلاء الفرس الذين يرطنون بلسان عجيب ويلبسون ملابس أعجب؟ وكيف عرفوا موضع المذود الذى كان فيه الرضيع المبارك عليه السلام؟ أترى النجم يقف فى السماء دون حركة إلى أن يتعرفوا، ولا أدرى كيف، إلى الموضع المذكور؟ أم تراه نزل من عليائه فوق الحظيرة التى فيها المذود فطربقها وسهدمها، وبذلك عرف المجوس أن المكان الـمُسَهْدَم هو المكان الذى يبحثون عنه؟ لكن هذا لم يحدث، وإلا لكان مؤلف إنجيل لوقا وكل المؤلفين لكل الكتب الأخرى قد ذكروه. بل ترى هل من الممكن أن يبطئ النجم من سيره، على طريقة "تاتا تاتا خط العتبة"، أو على طريقة "حابا حابا مين يجينى؟" أو على طريقة "عم أيوووووب": "أنا كاىّ أَهُهْ" (فى مسرحية محمد صبحى الشهيرة)، كى يستطيع الفريق المجوسى مسايرته لمدة ما لا أدرى كم من الشهور منذ تركوا بلاد فارس إلى أن بلغوا مدينة الناصرة مشيا على القدم أو على أكثر تقدير: ركوبا على الحمار (يعطينى الله وإياكم أيها القراء طول العمر حتى يصلوا بالسلامة)، فضلا عن أن يقف فى مكانه فلا يتحرك كلما توقفوا للنوم أو للاستراحة أو للأكل أو لقضاء الحاجة، ويأخذ هو بدوره غفوته أو يتناول وجبته أو يقضى حاجته (غثاثة منه طبعا بحجة أن له نَفْسًا هو الآخر، ومن حقه أن يستريح ويقضى الحاجات، والمحتاجات أيضا)؟ اللهم إلا إذا قيل إنه كان بطيئا فعلا لدرجة أنه كان يسقط من مداره كل ثانية فيمد المجوس أيديهم ويعيدونه إلى موضعه، فيعود هو ويسقط، ليعودوا هم ويرجعوه... وهلم جرا، والجمهور سعيد بهذه الحركات والبركات، إلى أنْ "توتة توتة، فرغت الحدوتة"، وبدلا من أن يقوم النجم بإرشاد المجوس قاموا هم بالحفاظ عليه وإرشاده كل لحظة إلى مداره! يعنى على رأى المثل: "جئتك يا عبد المعين تعيننى"! ثم إن ما يفرسنى بعد ذلك كله هو بجاحة الكندى وتصوره أنه جاء بالذئب من ذيله!
    28- ولأن الكذاب يرد على شخص موهوم لا وجود له، نراه ينطلق فيفترى عليه الافتراءات التى يحسب أن أحدا لا يمكنه الرد عليها، فنراه يزعم أن الهاشمى كان يستعيذ بالصليب فى الملمات فكان الصليب يعيذه ويحميه، إلا أنه يا للأسف قد تنكر للصليب وأفضاله. شف ازاى! وهذا ما قاله نَصًّا فى الرد على اتهام الهاشمى له ولأهل ملته بتبجيل الصليب وعبادته: "فنحن على هذه السنّة أيضا في تعظيم الصليب، ونجري فيها على ما جرى عليه الأنبياء الأبرار. فلِمَ غلب عليك النسيان في هذا الموضع، وكأنك نسيتَ ما جرَّبْتَ من القوة الحالّة في الصليب حين استعذت به عند سقوطك عن الدابة، وحين هربت ممن هربت منه، وحين لقيت الذي لقيت في طريقك وأنت ماضٍ إلى عمر الكرخ، وحين تلقاك الأسد وقاربت ساباط المدائن؟ فإن كنت أنت نسيتها فنحن ذاكرون لها، فلِمَ تكفر بالنعمة وتكافي بالشر وتنكر المعروف؟ أي ضررٍ نالك عند تعوُّذك بالصليب وأنت تعلم أننا معشر النصارى لا نعبد الصليب، وإنما نُجِلُّ القوة الحالّة في الصليب، والتأييد الذي أيَّدنا به، والخلاص الذي أُوتيناه بسببه؟". لكن لو كان الهاشمى يستعيذ بالصليب كما يزعم هذا الكذاب، أكان يكفِّر الكندى وقومه جميعا لاعتقادهم فيه؟ وكيف سكت عنه الكندى طوال تلك المدة منذ سمعه ورآه يستعين ويستعيذ بالصليب فلم ينتهزها فرصة ويَدْعُه إلى النصرانية؟ كذلك هل من المعقول أن يستعين بالصليب ويَكْفُر من ثَمّ رجل كهذا قوى الإسلام صليب الاعتقاد فيه والافتخار به حتى إنه لا يكتفى بأن يكون مسلما، بل يريد للنصرانى أن يسلم هو أيضا ويكفّره لاعتقاده فى الصليب؟ وهذا لو أن الصليب له بركة أصلا، وإلا فلماذا لم يستعن به الكندى ومئات الملايين مثل الكندى على مدى أربعة عشر قرنا لتدمير المسلمين وشطب الإسلام من خريطة الدنيا؟ الحق أن الكندى، أو بالأحرى: من تسمى باسم الكندى، هو كائن عريق فى الكذب والتدجيل، ولكنه كذب وتدجيل من الدرجة المنحطة العاشرة. أهذا كلام تقوله يا كندى؟ إن مخرج كلامك هذا لهو نفسه مخرج نُفَايات القمّص النُّفَاية الذى يقول فى رسائله لى عبارة من مثل: "أصلّى لك ليشرق قلبك بنور المسيح"، أو "أنا متأكد أن المسيح يعمل عمله الآن فى قلبك"، وهو ما يستحق أن يكون الرد عليه هو: "وأنا متيقن أن ما لا أدرى مَنْ يعمل عمله الآن فى دبرك".
    29- وبعد فقد تنبهت منذ القراءة الأولى إلى أن الأسلوب فى الرسالتين ماؤه واحد حتى لكأنه خارج من ذات القلم، فانقدح فى خاطرى أنه لا بد من تحقيق هذه النقطة، فكانت الفقرات التالية التى أقمتها على المقارنة بين الرسالتين من تلك الناحية: فمما يلاحظه الناظر فى كلام الهاشمى ورد الكندى عليه تكرر كلمة "المحبة" فى الرسالتين بدلا من "الحب"، وهى كلمة تشيع بين النصارى أكثر من شيوعها بين المسلمين كما هو معروف. وبالمثل تكرر استعمال كلمة "الديانة" فى موضع "الدين" عدة مرات هنا وهناك. يضاف إلى هذا أن كلا من الكاتبين تكلم عن الخلود فى الجنة على أنها "الحياة": يقول الهاشمى: "يأخذون كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ولهم فيها الكرامة والحياة والجلوس على الأسرَّة، متكئين على الأرائك"، وهو ما نجده عند الكندى فى قوله: "معناه موت الخطيئة الذي هو عبادة الأصنام وانقطاع الرجاء من موعد الحياة الدائمة التي بشر بها المسيح مخلصنا أنه يعطينا إياها يوم القيامة"، وهذه شنشنة نصرانية. ومما يلفت النظر أيضا فى الرسالتين تكرر لجوء الكاتبين إلى صيغ جمعية غريبة، كــ"المناكح" و"الصيامات" فى رسالة الهاشمى، و"الأشفية، والعوافى، والتماجيد، والمآثم، والملاحمات، والمِرَار" لدى الكندى. وينضاف إلى هذا توارد كل من الكاتبين على القول بــ"ارتفاع المسيح إلى السماء" بهذا النص تعبيرا عن مفارقته الدنيا، وكذلك إشارة كل منهما إلى أن هناك من يمكن أن يقرأ رسالته إلى الآخر مع أن المفروض أنها رسالة شخصية حساسة، فنجد الهاشمى يقول: "ليعلم من وقع في يده كتابي هذا أني عالم بالقضية"، وعلى نفس الوتيرة يقول الكندى: "وأرجو أن يكون هذا الجواب مقنعا لك وللناظر في كتابنا هذا"، "أما أنا فقد بلغتُ جهد طاقتي في النصيحة لك ولكل من نظر في كتابي". ويمكن أن نلحق بذلك استعمال كل منهما صيغة الطلب من الفعل "وَدَع "، فعند الهاشمى: "فدَعْ ما أنت عليه من الكفر والضلال والشقاوة والبلاء"، "فدَعْ ما أنت فيه من تلك الضلالة وتلك الحمية الشديدة الطويلة المتعبة، وجهد ذلك الصوم الصعب والشقاء الدائم الذي أنت منغمس فيه"، وعند الكندى: "ولكن فلْنَدَعْ الآن ذكر هذا ونأخذ في ذكر أعلام النبوة".
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #14
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    وهناك أيضا عدة عبارات وردت فى كل من الرسالتين منها الدعاء الاعتراضى بــ"عافاك الله" أو "أصلحك الله": ففى رسالة الهاشمى نجد "فهل سمعت، عافاك الله، يا هذا بوصف أحسن وأعجب من هذا...؟"، "فاحتجَّ، عافاك، الله بما شئت"، وعند الكندى يقابلنا "فأخبرني، أصلحك الله، عن قول صاحبك". ومن هذا الباب مجىء عبارة "أتى على فلان كذا من السنين" عوضا عن "مَضَى عليه": مثال ذلك قول الهاشمى: "وأنت تعلم أني رجل أتت عليَّ سنون كثيرة"، وقول الكندى: "أتت عليه تسعون سنة"، "فلما أتى على ذلك سبعة أيام فتحها على غير عقد ولا عهد"، "وأمر الـمُقْعَد الذي أتت عليه ثمانٍ وثلاثون سنة أن يحمل سريره ويمشي". كذلك تكرر عند الكاتبين إتيان كلمة "النبى" بعد اسم موسى وداود ودانيال وغيرهم من الأنبياء مما لا يجرى عليه المسلمون عادة، مثل "موسى النبى، وإشعياء النبى، وداود النبى". ومن هذا أيضا استعمال الفعل "صار" فى معنى "ذهب" أو "اتجه" أو "وصل" أو "حدث" كما فى الأمثلة التالية التى اقتبسنا أول مثال فيها من رسالة الهاشمى، وباقيها من رسالة خصمه: "وأكد أمرهم عندما صاروا إليه حين أفضى الأمر إليه واستوثق له"- "فاغتاظ علي بن أبي طالب غاية الغيظ لأنه لم يكن يشك أن الأمر صائرٌ إليه، فانتُزع من يده"، "إلا أن عليًّا، حين يئس من الأمر أن يصير إليه، صار إلى أبي بكر بعد أربعين يوماً (وقال قومٌ بعد ستة أشهر) فبايعه ووضع يده في يده"، "فهذه الديارات العامرة بالبِيَع... تفيض على جميع من صار إليها وقصدها بإخلاص نيته".
    كذلك يشد نظرنا تشابه الرسالتين فى تكرر استعمال كل منهما لعدد بعينه من التراكيب: منها لجوء كل منهما إلى الاسم الموصول: "الذى" فى موضع المبتدأ أو اسم "كان" بدلا من "ما"، كما فى قول الهاشمى: "والذي حملني إليك وحثَّني على ذلك محبتي لك"، ورَدِّ الكندى: "وكان الذي حملك على ذلك فرط المحبة". وكذلك تكرر اللجوء فى كلتيهما إلى "ما" الموصولة عوضا عن المصدر: ففى رسالة الهاشمى نقرأ: "فكتبتُ طاعةً له، ولِما أوجبه لك عندنا حق خدمتك لنا ونُصحك إيانا، وما أنت عليه من محبتنا، وما أرى أيضًا من إكرام سيدي وابن عمي أمير المؤمنين لك وتقريبه إياك وثقته بك وحسن قوله فيك"، "وكان الرهبان وأصحاب الأديرة يكرمونه ويجلّونه طوعًا ويخبرون أصحابهم بما يريد الله أن يرفع من أمره ويعلن من ذكره". وفى رسالة الكندى: "لكني أكره التطويل، فاقتصرت على ما كتبتُ، ولما ذكرتَه من أنك درستَ كتبَ الله المنزلة"، "لأن الحجة عليك أوجب منها على غيرك، لما قد فضَّلك الله به من العقل والتمييز، ولما عرفته ودرسته من الكتب". ومن هذه التراكيب أيضا الوصف بالاسم الموصول على سبيل التعريف بالشخص أو الشىء، مثل قول الهاشمى: "وناظرت فيها تيموثاوس الجاثليق، الذي له فيكم فضل الرئاسة والعلم والعقل"، "وصلاة الثالثة، التي هي صلاة السَحَر"، "وأيام الاعتكاف، التي يسمونها أيام البواعيث"، "كمناظرة الرعاع والجهال والسفهاء من أهل ديانتنا، الذين لا أصل لهم ينتهون إليه، ولا عقل فيهم يعوِّلون عليه"، "وأدعوك إلى صوم شهر رمضان، الذي فرضه الديّان ونزل فيه الفرقان"، "شهر يشهد فيه الله أن فيه ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر"، "أدعوك إلى الحج إلى بيت الله الحرام، الذي بمكة"، وقول الكندى: "فورَّث إبراهيم ذلك التوحيد إسحق، الذي هو ابن الموعد"، "قد علمتُ أنك قرأتَ كتب الله المنزلة، التي هي الكتب العتيقة والحديثة. ومكتوب في التوراة، التي أنزلها الله تعالى على موسى النبي..."، "فلا أظنك تدعوني إلى مثل حال إبراهيم في عبادة الأصنام، التي هي الحنيفية"، "وأما الصفات المنزلة، التي هي الطبيعية الذاتية، التي لم يزل جل وعز متَّصفًا بها فهي الحياة والعلم"، "وليس دعائي إياك إلا إلى الله الواحد، الذي هو ثلاثة أقانيم"، "كان هذا الرجل يتيما في حِجْر عمه عبد مناف المعروف بأبي طالب، الذي كفله عند موت أبيه"، "فهكذا تكون شروط النبوة، التي هي علم الغيب الماضي وعلم الغيب المستقبل"، "وادَّعَوُا الربوبية، التي لم يجعلها الله لهم"، "الحكم الإلهي، الذي هو فوق الطبيعة"، "أَوَلا تعلم أن هذا فعل الشمسية والبراهمة، الذي يسمّونه النُّسك لأصنامهم بالهند؟"، "لا نشك أن سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي شهد له كتابك أنه وجيه في الدنيا والآخرة ولا وجيه سواه ديّان الخلائق يوم القيامة، لابد أن يكافئ كل واحد على عمله"، "ببعث ابنه الحبيب، الذي هو كلمته الخالقة"، "وصارت يد الروم، التي هي يده على قفا من عاداه من بني إسرائيل، الذين جحدوا ربوبيته وكفروا به فقتلتهم الروم"، "لا معنى للأنبياء بعد ظهور الإله المسيح، الذي هو بالحقيقة ملك"، "وجعلهم أبناء ملكوت السماء، الذي هو موعد الله، تبارك اسمه". ومنها استعمال كلمة "خاصة" (للتخصيص بعد التعميم) عارية عن "الباء" كما فى قول الهاشمى: "خاصةً في ليالي الآحاد وليالي الجُمَع وليالي الأعياد"، وقول الكندى: "فقد كان في تأديب هذا الشيخ على ذنبه شيء دون القتل، وخاصةً ليلاً وهو نائم مطمئن آمن على فراشه"، "وهي على المرء لنفسه خاصةً حق". وهناك تركيب آخر يسقط فيه أيضا حرف "الباء" أو "مِنْ" بعد فعل الشهادة أو الوصف أو النقل أو الادعاء وما أشبه كما فى قول الهاشمى: "والشهادة له أنه رسول الله رب العالمين" (بدلا من قوله: "والشهادة له بأنه...")، وقول الكندى: "استوجب أن يوصف أنَّ له خليقةً حيث خلق"، "أو يكون هذا خلاف ما تدّعيه أنت أنه نبيّ مرسَل وأن الملائكة تؤيده وتقاتل دونه"، "فادَّعى معرفة ما قال في عوائه إنه وافد السباع"، "وإني أعلم أن قصتهم كقصة ما يُضرب من مثل العامة أن اليهودي إنما تصحّ يهوديته ويحفظ شرائع توراته إذا أظهر الإسلام"، "وأنت تعلم أن صاحبك لم يختتن على ما نقلت الرُّواة عنه أنه لم يكن مختونًا بتَّةً".
    ومن تلك التراكيب الوصف باسم إشارة يليه اسم موصول فى موضع "البدلية" أو "الوصفية" كما فى الشواهد التالية عند الهاشمى: "كاشفًا عما نحن عليه من ديانتنا هذه التي ارتضاها الله لنا ولجميع خلقه"، "وناظرتُ فيها من أهل فِرقَكم هذه الثلاث التي هي ظاهرة"، "وحضرت صلواتهم تلك الطوال السبع التي يسمّونها صلوات الأوقات"، ومثلها عند الكندى: "... وشرحتَه من أمر ديانتك هذه التي أنت عليها"، "ولنفحص عن أول قصة صاحبك هذا الذي تدعونا إلى الإقرار له بالنبوة"، "فإن كان صاحبك هذا الذي دعوتنا إلى اتِّباعه يقتلهم بسيفه ويضربهم بسوطه ويسبي ذراريهم ويجليهم عن ديارهم، يريد بذلك لهم الخير لينقلهم مما هم عليه إلى ما هو خير منه، فقد تفضَّل وأحسن وتشبَّه بفعل الله تبارك وتعالى اسمه"، "فهل تقدر أن تجحدنا حقنا هذا الذي في أيدينا...؟"، "ناظرتُ فيها من أهل فِرقَكم هذه الثلاث التي هي ظاهرة". ومنها كذلك استعمال اسم الإشارة بعد تمام الجملة لربطها بجملة تالية على سبيل التعليل أو التوضيح. مثال ذلك قول الهاشمى: "فقلت: أكشف له عما منَّ الله به علينا، وأعرّفه ما نحن عليه، بأَلْيَن القول وأحسنه، متَّبعاً في ذلك ما أذنني الله به إذ يأمرني: وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة العنكبوت 29:46)، وذلك أن الرهبان كانوا يبشرونه ويخبرونه قبل نزول الوحي عليه بما مكن الله له وصار إليه"، ومثله قول الكندى: "ولا أشك في أنك تعرف القصة، فقد قلت إنك عارف بالكتب المنزلة دارس لها حق دراستها، وذلك أن قيسا أبا شاول ضاعت له أتن، فوجَّه ابنه شاول في طلبها"، "فمضى وهم معه فبعثه حيًّا، ودفعه إلى أختيه مريم ومرثا، وذلك بعد أربعة أيام من موته"، "... وذلك أن المسيح قال في إنجيله الطاهر: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ"، "فنقول إنه ينبغي لك أن تعلم أولاً كيف كان السبب في هذا الكتاب، ذلك أن رجلاً من رهبان النصارى اسمه سرجيوس أحدث حَدَثاً أنكره عليه أصحابه"، "فلم يزل يتلطف ويحتال بصاحبك حتى استماله وتسمَّى عنده نسطوريوس، وذلك أنه أراد بتغيير اسمه إثبات رأي نسطوريوس الذي كان يعتقده ويتديَّن به"، "وكانت لهم صحف وأدراج على منهاج أدراج اليهود، وذلك من حيلة اليهود"، "وحقق قوله بعمله الأعاجيب والدلائل الواضحة التي لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها، وذلك بغاية الرفق والتواضع". ومنها الاستعانة مع الفعل المتعدى التالى لــ"ما" بحرف "مِنْ" كما فى الشواهد التالية من رسالة الهاشمى: "ويخبرون أصحابهم بما يريد الله أن يرفع من أمره ويعلن من ذكره، وكانت النصارى تميل إليه وتخبره بمكيدة اليهود ومشركي قريش وما يبتغونه له من الشرّ"، "وجعل لهم من الذمة في رقبته ورقاب أصحابه، ووصَّى بهم تلك الوصية عندما أطلعه الله على ما أطلعه عليه من أمرهم وبراءة ساحتهم"، "وأقر الأنام كلهم طائعين مذعنين لما عرفوا من الحق والصدق من قوله وصحة أمره وما جاء به من البرهان الصريح والدليل الواضح"، "لم تقبل ما بذلناه لك من نصيحتنا"، "فاكتب بما عندك من أمر دينك"، وكذلك من رسالة الكندى: "وشكرتُ ما ظهر لي من فضلك، وما كشفتَه من لطيف محبتك، فقد كان العهد قبلاً عندي على هذا قديما، وقد زاده تأكيدا ما تبيَّن لي من شفقتك".
    ومما يلاحظ أيضا من التراكيب التى تكررت فى الرسالتين استخدام الفعل: "أعنى" للتوضيح كما فى قول الهاشمى: "وناظرتُ فيها من أهل فِرقَكم هذه الثلاث التي هي ظاهرة. أعني الملكية القابلين مركيانوس الملك على عهد الشقاق الواقع بين نسطوريوس وكيرلس، وهم الروم..."، "وصلاة نصف النهار. أعني صلاة الظهر"، "ورأيت أيضا ما يتدبر به الرهبان في قلاليهم أيام صياماتهم الستة. أعني الأربعة الكبار والاثنين الصغيرين"، وقول الكندى: "وإما أن يكون حكما شيطانيا، أعني حكم الجور". ولنلاحظ كذلك كيف تلجأ الرسالتان جميعا إلى الترادف وحسن التقسيم فى كثير من الأحيان كما فى الشواهد التالية من الهاشمى: "فكتبتُ طاعةً له، ولِما أوجبه لك عندنا حق خدمتك لنا ونُصحك إيانا، وما أنت عليه من محبتنا، وما أرى أيضا من إكرام سيدي وابن عمي أمير المؤمنين لك وتقريبه إياك وثقته بك وحسن قوله فيك"، "فرغبت لك ما رغبت فيه لنفسي، وأشفقت عليك لما ظهر لي من كثرة أدبك وبارع علمك وتقدّمك على الكثير من أهل ملّتك أن تكون مقيما على ما أنت عليه من ديانتك هذه. فقلت: أكشف له عما منَّ الله به علينا، وأعرّفه ما نحن عليه، بأَلْيَن القول وأحسنه، متَّبعاً في ذلك ما أذنني الله به إذ يأمرني: وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة العنكبوت 29:46)، وذلك أن الرهبان كانوا يبشرونه ويخبرونه قبل نزول الوحي عليه بما مكن الله له وصار إليه"، وقول الكندى: "وفهمتُ ما اقتصَصْتَه في كتابك وتعمَّقت فيه من الدعوة وشرحتَه من أمر ديانتك هذه التي أنت عليها، وما دعوتني إلى الدخول إليه ورغَّبتني فيه منها"، "فأما ما دعوتني إليه من أمر دينك، وأنك على ملة أبينا إبراهيم، وما قلت فيه إنه كان حنيفا مسلما، فنحن نسأل المسيح سيدنا مخلِّص العالمين، الذين وعدنا الوعد الصادق وضمن لنا الضمان الصحيح في إنجيله المقدس..."، "ولقد فهمتُ ما دعوتَني إليه من الشهادة لصاحبك والإقرار بنبوَّته ورسالته، وما عظَّمتَ من أمره"، "فإذا أنبأتنا بذلك علمنا أنك صادق فيما ادَّعيت من عبادة هذا الواحد"، "فكل من ينتحل هذا الاسم فهو بريء من هذه المقالة، جاحد لها كافر بها"، "فأما غزوة أُحُد وما أُصيب فيها من كسر رباعيته السفلى اليمنى وشقّ شفته وثلم وجنته وجبهته، الذي ناله من عتبة بن أبي وقاص، وما علاه به ابن قميئة الليثي بالسيف على شقه الأيمن حتى وقاه طلحة بن عبيد الله التيمي بيده فقطعت أصبعه، فهذا خلاف الفعل الذي فعله الرب مخلص العالم"، "وكان الذي حملك على ذلك فرط المحبة. وفهمتُ ما اقتصَصْتَه في كتابك وتعمَّقت فيه من الدعوة وشرحتَه من أمر ديانتك هذه التي أنت عليها، وما دعوتني إلى الدخول إليه ورغَّبتني فيه منها. وقد علمتُ أن الذي دعاك إلى ذلك ما يوجبه لنا تفضلك من حق حرمتنا بك". وهذا التشابه فى الأسلوب يدفعنى إلى ترجيح أن الرسالتين من صنع قلم واحد، قلم نصرانى أراد أن يفتعل سانحة ليصب جام حقده على الإسلام ورسوله بحجة أن أحد المسلمين قد استفزه إلى الدفاع عن دينه ضد ما شنه عليه من هجوم، وبحيث تكون حجج ذلك المسلم واهنة ضعيفة، وبخاصة أن الكلمة الختامية ستكون له هو فلا تكون ثم فرصة أمام المسلم للرد على رقاعات النصرانى وسماجاته. وقد يقال: كيف يمكن أن يكتب نصرانى رسالة مثل رسالة الكندى الإسلامية فى مضامينها ولغتها؟ والجواب سهل جدا، وهو أن الناظر فى الرد النصرانى نفسه يجد تعبيرات إسلامية وقرآنية كثيرة تدل على أن لدى كاتبها القدرة على تقمص شخصية أحد المسلمين.
    30- ويذهب أحد الدارسين خطوة أخرى فيحدد كاتب الرسالتين بأنه يحيى بن عدى، وهذا الدارس هو د. علي بن محمد عودة، الذى خصص لدراسة هذه النقطة بضع فقرات من مقال مهم له على المشباك بعنوان "العدوان الفكري الغربي على الإسلام وعلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام" أعطاها المؤلف عنوانا جانبيا هو: "رسالة النصراني الشرقي". وها هى ذى الفقرات المذكورة، والكلام فيها عن الرسالة المنسوبة إلى عبد المسيح بن إسحاق الكندى: "وهي الأخيرة في المجموعة الطليطلية، وتُعْرَف باسم "الرسالة الإسلامية والجواب المسيحي"، وهي التي أحدثت المشروع الكلوني برمته. وهي عبارة عن رسالة وجواب على الرسالة. الرسالة مرسلة من رجل مسلم يُدْعَى: عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إلى صديق له نصراني يدعى: عبد المسيح بن إسحاق الكندي، وقد صيغت رسالة الهاشمي المزعومة بحيث يبدو قريبًا للخليفة المأمون، بينما صيغ الجواب وكأن الكندي المزعوم يعمل في بلاط الخليفة نفسه. ومن الواضح أن كلا الاسمين مستعاران وأن كاتب النصين عالم عربي نصراني عاش في العراق في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، والراجح أنه الطبيب والفيلسوف النصراني يحيى بن عدي المتوفى سنة 364هـ/ 975م. ولا نجد لهذه المصنفة ذكرًا في المصادر الإسلامية إلا عند البيروني المتوفَّى سنة 440هـ/ 1048م الذي اقتبس منها نصًا في حديثه عن الصابئة. وقد كلّف بطرس المكرم اثنين من المترجمين بترجمة هذا النص هما بطرس الطليطلي، وبطرس أوف بواتييه. وقد صاغ يحيى بن عدي رسالة الهاشمي المزعوم في نحو عشرين صفحة، بحيث بدأ بالسلام والرحمة على صديقه النصراني، زاعمًا أن ذلك سنة النبي في مخاطبته للناس بما فيهم النصارى. ثم يبدي الهاشمي المزعوم تعبيرات مختلفة من الاحترام لصديقه والإشارة إلى النسب الأصيل للكندي، والإشادة بتقواه وثقافته ومعرفته، ويدعوه إلى اعتناق الإسلام الذي هو دين الحنيفية، دين أبيهما الأول إبراهيم عليه السلام، وهو التوحيد الخالص لله تعالى، ثم يعرض أركان الإسلام الخمسة والجهاد، ويسهب في ذكر نعيم الجنة لإغراء صديقه النصراني باعتناق الإسلام، وأنه إذا اعتنق الإسلام يمكنه الزواج بأربع زوجات ويطلق متى يشاء ويملك من الجواري ما يشاء، ويحصل على ترقية في بلاط الخليفة. وفي النهاية يعرض على صديقه أن يجيبه بكل صراحة على عرضه وأن يقول ما يحلو له في الدفاع عن دينه، ويحثه على التخلي عن عبادة الثالوث.
    وقد أجاب يحيى بن عدي على رسالته التي جعلها على لسان الهاشمي، بجوابه الذي جعله على لسان الكندي في 140 صفحة، أي أكبر بسبع مرات من رسالة الهاشمي، بحيث يترك جوابه الانطباع لدى القارئ النصراني أنه نال الغلبة والقهر بالحجة والبرهان. ومن الواضح أن يحيى بن عدي كتب هذا الكتاب حين ازداد دخول النصارى في الإسلام في القرن الرابع الهجري، وكان هدفه منه تحصين أهل الذمة من النصارى لمنعهم من اعتناق الإسلام وإقناعهم بأن دينهم هو الدين الصحيح. ويبدأ يحيى بن عدي جوابه على لسان الكندي المزعوم بالعرفان بالجميل لصديقه الهاشمي والدعاء للخليفة المأمون. ثم يدافع عن عقيدة الثالوث، ويزعم أن عقيدة الحنيفية التي يدعو إليها الهاشمي التي كان عليها إبراهيم عليه السلام إنما هي عبادة الأصنام، حيث يزعم أن إبراهيم ظل يعبدها لمدة سبعين سنة في حرّان مع آبائه. ويحاول بأسلوب فلسفي تفنيد عقيدة التوحيد، ثم يوجه هجومه على النبي، ويتهمه بأنه تطلّع إلى المُلْك، ولما كان يعرف أن نفوس قريش تأبى أن يصبح ملكًا عليها ادّعى النبوة للوصول إلى هدفه. ولا يتحدث جواب الكندي المزعوم عن دعوة النبي في مكة، وإنما ينتقل فجأة إلى المدينة حيث يزعم أن النبي اغتصب مربد غلامين يتيمين وبنى عليه مسجده، وأنه اصطحب قومًا فُرّاغًا لا عمل لهم وبدأ في شن الغارات وممارسة النهب والسلب وقطع الطريق وإخافة السبيل، ويتهم النبي أنه أمر باغتيال بعض الآمنين في بيوتهم. ثم يشير إلى جروح النبي يوم أحد، ويرى أنه لو كان رسولاً لمنعه الله من الضرر. ثم يزعم أن النبي لم يكن له هَمٌّ إلا امرأة جميلة يتزوجها، ويتهمه بالاستخفاف بالله في محاباة زوجاته، ويكرر حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها. وبعد ذلك يثير جواب الكندي المزعوم موضوع النبوة وعلاماتها ويزعم أن شروط النبوة لا تتوافر في محمد. ويزعم أن أهم علامات النبوة هي المعجزات، وأن النبي لم يأت بشيء منها، وأنه أنكر أنه يستطيع أن يأتى بآية كما جاء في القرآن، وأنه لا دليل لدى محمد على رسالة إلهية. ويزعم أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن نجاح الفتوح الإسلامية ليس دليلاً على إعجاز إلهي لأنها يمكن أن تكون وسيلة من الله لمعاقبة الناس المذنبين، ويزعم أن النصرانية انتشرت بالتبشير واستشهاد الحواريين بينما الإسلام انتشر بالقهر والسيف، ويزعم أن لغة القرآن ليست معجزة، ويعتبر لغة الشاعر امرئ القيس أقوى من لغة القرآن. ويزعم جوابُ الكندي أن الأغراء المادي والوعد بالملذات الحسية في جنة شهوانية هو الذي أغرى العرب المحرومين أن ينضموا إلى الإسلام وجيوشه، وأن جيوش المسلمين كانت مليئة بالمنافقين الذين انضموا إليها طلبًا للغنائم. ثم يهاجم شعائر الإسلام، ويعتبر الحج عملاً من أعمال الوثنية، ويرى أن الجهاد في سبيل الله إنما هو عمل الشيطان. ويزعم أن محمدا لم يكن يهدف مثلما هدف المسيح عليه السلام إلى أن يخلّص ويهذّب الإنسان، وإنما هَدَفَ إلى ما هدف إليه الفاتحون الآخرون، وهو أن يوسع مملكته. ويزعم أن النصرانية هي الصراط المستقيم المذكور في سورة الفاتحة. ويزعم أن الشرائع ثلاث: شريعة الكمال الإلهي، وهي التي جاء بها المسيح عليه السلام، وشريعة العدل، وهي التي جاء بها موسى عليه السلام، وشريعة الشيطان، وهي التي جاء بها، بزعمه الكاذب، محمد. ويزعم أن النبي كان يتلقى من راهب طُرِد من الكنيسة وذهب إلى تهامة، واسمه سرجيوس، وتسمى عند محمد باسم "نسطوريوس" وأنه هو الذي كان يسميه النبي: جبريل أو الروح القدس.
    وقال هذا النصراني في جوابه عن النبي ما نصه: "فإنا لم نره دعا الناس إلا بالسيف وبالسلب والسبي والإخراج من الديار، ولم نسمع برجل غيره جاء فقال: من لم يقرّ بنبوتي وأني رسول رب العالمين ضربته بالسيف وسلبت بيته وسبيت ذريته من غير حجة ولا برهان". وزعم زورًا وبهتانًا أن النبي أجبر الناس على قبول القرآن: "وقال: من لا يقبل كتابي هذا ويقول إنه مُنزَّل من عند الله وأني نبي مرسل قتلته وسلبته ماله وسبيت ذريته واستبحت حريمه". وزعم النصراني أن عبد الله بن سلاّم وكعب الأحبار عمدا إلى ما في يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القرآن بعد وفاة النبي وأدخلا فيه أخبار التوراة وأحكامها وزادا وأنقصا منه، وسخر من عملية جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وزعم أنه وقع فيه التحريف والتبديل، وأن الحجاج بن يوسف الثقفي جمع المصاحف وأسقط منها أشياء كثيرة عن بني أمية، وذكر كلامًا كثيرًا ملفقًا في هذا الموضوع، وختم جوابه بدعوة الهاشمي المزعوم لاعتناق النصرانية. هذه الترجمة الرئيسة في المشروع الكلوني نالت في الغرب شعبية هائلة وأصبحت بمثابة إنجيل المنصِّرين والمستشرقين منذ ترجمتها وإلى اليوم حيث اعتبروها أفضل دفاع عن النصرانية وأقوى هجوم على الإسلام". هذا ما قاله الدكتور عودة، وهو كلامٌ جِدُّ مهمٍّ، لكنه للأسف لم يحاول أن يبين لنا الأسباب التى حملته على أن ينسب كتابة الرسالتين ليحيى بن عدى. وأقترح أن يلتقط بعض الكتاب الخيط منى ومن الدكتور عودة ويبحث عن كتب يحيى بن عدى ويحاول المقارنة بين أسلوبها وأسلوب هاتين الرسالتين اللتين نحن بصددهما، ومن يدرى؟ فقد ينجح فى إثبات أنهما فعلا من تأليف ذلك الكاتب النصرانى. أما أن رسالة الكندى قد أصبحت منذ عثور المبشرين والمستشرقين عليها هى إنجيلهم فأعتقد دون غرور أن الدراسة التى فى يد القارئ قد بينت أنها، كسائر الأناجيل التى تقرها الكنيسة، إنجيلٌ مضروبٌ لا يساوى مليما أحمر!

    انتهـــــــــــــــــى
    التعديل الأخير تم بواسطة karam_144 ; 28-03-2007 الساعة 07:16 PM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #15
    تاريخ التسجيل
    Sep 2006
    المشاركات
    1,687
    آخر نشاط
    19-09-2008
    على الساعة
    12:15 AM

    افتراضي

    السلام عليكم

    اقتباس
    وهنا كلمة لا بد من قولها، ألا وهى أنه لو كان محمد نبيا كذابا يخترع القرآن اختراعا ويزعم أنه يوحَى إليه من السماء وبرّأ عائشة كذبا كما يزعم الخنزير المستتر تحت اسم الكندى فلا بد أن يكون له من بين أتباعه من يعرفون حقيقته ويتفاهمون معه ويتعاونون على أساس من هذه المكاشفة، إذ لا يعقل أن يقوم وحده بهذه الكذبة الكبيرة دون أن يكون معه من يساعدونه أو دون أن يكتشف حقيقة أمره أحد من أولئك الأتباع الذين كانوا يُعَدّون فى آخر حياته بعشرات الألوف

    علاوه على ان اعداء رسول الله صلى الله عليه كانوا لعنهم الله يتصيدون له حتى الحرف الذى يخرج منه وكانوا يدسون منافقون فى وسط المسلمين

  6. #16
    تاريخ التسجيل
    Jul 2005
    المشاركات
    257
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    31-12-2013
    على الساعة
    12:18 AM

    افتراضي

    جزاك الله خير يا كرم

    دخلت الموقع لاضعها فوجدتك سباق للخير

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2

رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! (هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عُوَار)

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رسالة إلى أهل البلاء
    بواسطة عبد الله المصرى في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 26-10-2007, 07:55 PM
  2. رسالة الى كل نصراني
    بواسطة الليزر في المنتدى حقائق حول التوحيد و التثليث
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 19-10-2006, 04:48 AM
  3. رسالة إلى كل ذي عقل
    بواسطة احمد العربى في المنتدى الرد على الأباطيل
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 10-07-2006, 02:19 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! (هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عُوَار)

رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! (هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عُوَار)