ب. (لا إكراه في الدين)
(هل هناك تناقض بينها وبين آيات القتال؟)
الجواب:

تفسير الطبري

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " الدِّين فِي هَذِهِ الْآيَة الْمُعْتَقَد وَالْمِلَّة بِقَرِينَةِ قَوْله : " قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " . وَالْإِكْرَاه الَّذِي فِي الْأَحْكَام مِنْ الْإِيمَان وَالْبُيُوع وَالْهِبَات وَغَيْرهَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه , وَإِنَّمَا يَجِيء فِي تَفْسِير قَوْله : " إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ " [ النَّحْل : 106 ] . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن " قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ , يُقَال : رَشَدَ يَرْشُد رُشْدًا , وَرَشِدَ يَرْشَد رَشَدًا : إِذَا بَلَغَ مَا يُحِبّ . وَغَوَى ضِدّه , عَنْ النَّحَّاس . وَحَكَى اِبْن عَطِيَّة عَنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ أَنَّهُ قَرَأَ " الرَّشَاد " بِالْأَلِفِ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن أَيْضًا " الرُّشُد " بِضَمِّ الرَّاء وَالشِّين . " الْغَيّ " مَصْدَر مِنْ غَوَى يَغْوِي إِذَا ضَلَّ فِي مُعْتَقَد أَوْ رَأْي , وَلَا يُقَال الْغَيّ فِي الضَّلَال عَلَى الْإِطْلَاق .
الثَّانِيَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة عَلَى سِتَّة أَقْوَال :
[ الْأَوَّل ] قِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَة ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَب عَلَى دِين الْإِسْلَام وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ , قَالَهُ سُلَيْمَان بْن مُوسَى , قَالَ : نَسَخَتْهَا " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " [ التَّوْبَة : 73 ] . وَرُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن مَسْعُود وَكَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ .
[ الثَّانِي ] لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة , وَأَنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَام إِذَا أَدَّوْا الْجِزْيَة , وَاَلَّذِينَ يُكْرَهُونَ أَهْل الْأَوْثَان فَلَا يُقْبَل مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَام فَهُمْ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ " يَا أَيّهَا النَّبِيّ جَاهِدْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ " . هَذَا قَوْل الشَّعْبِيّ وَقَتَادَة وَالْحَسَن وَالضَّحَّاك . وَالْحُجَّة لِهَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت عُمَر بْن الْخَطَّاب يَقُول لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّة : أَسْلِمِي أَيَّتهَا الْعَجُوز تَسْلَمِي , إِنَّ اللَّه بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ . قَالَتْ : أَنَا عَجُوز كَبِيرَة وَالْمَوْت إِلَيَّ قَرِيب ! فَقَالَ عُمَر : اللَّهُمَّ اِشْهَدْ , وَتَلَا " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " .
[ الثَّالِث ] مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ فِي الْأَنْصَار , كَانَتْ تَكُون الْمَرْأَة مِقْلَاتًا فَتَجْعَل عَلَى نَفْسهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَد أَنْ تُهَوِّدهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِير كَانَ فِيهِمْ كَثِير مِنْ أَبْنَاء الْأَنْصَار فَقَالُوا : لَا نَدَع أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْد مِنْ الْغَيّ " . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَالْمِقْلَات الَّتِي لَا يَعِيش لَهَا وَلَد . فِي رِوَايَة : إِنَّمَا فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دِينهمْ أَفْضَل مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ , وَأَمَّا إِذَا جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ فَنُكْرِههُمْ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " مَنْ شَاءَ اِلْتَحَقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَام . وَهَذَا قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر وَالشَّعْبِيّ وَمُجَاهِد إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : كَانَ سَبَب كَوْنهمْ فِي بَنِي النَّضِير الِاسْتِرْضَاع . قَالَ النَّحَّاس : قَوْل اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة أَوْلَى الْأَقْوَال لِصِحَّةِ إِسْنَاده , وَأَنَّ مِثْله لَا يُؤْخَذ بِالرَّأْيِ .
[ الرَّابِع ] قَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ الْآيَة فِي رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ أَبُو حُصَيْن كَانَ لَهُ اِبْنَانِ , فَقَدِمَ تُجَّار مِنْ الشَّام إِلَى الْمَدِينَة يَحْمِلُونَ الزَّيْت , فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوج أَتَاهُمْ اِبْنَا الْحُصَيْن فَدَعَوْهُمَا إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَتَنَصَّرَا وَمَضَيَا مَعَهُمْ إِلَى الشَّام , فَأَتَى أَبُوهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَكِيًا أَمْرهمَا , وَرَغِبَ فِي أَنْ يَبْعَث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَرُدّهُمَا فَنَزَلَتْ : " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " وَلَمْ يُؤْمَر يَوْمئِذٍ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب , وَقَالَ : ( أَبْعَدَهُمَا اللَّه هُمَا أَوَّل مَنْ كَفَرَ ) فَوَجَدَ أَبُو الْحُصَيْن فِي نَفْسه عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين لَمْ يَبْعَث فِي طَلَبهمَا فَأَنْزَلَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ " فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنهمْ " [ النِّسَاء : 65 ] الْآيَة ثُمَّ إِنَّهُ نَسَخَ " لَا إِكْرَاه فِي الدِّين " فَأُمِرَ بِقِتَالِ أَهْل الْكِتَاب فِي سُورَة [ بَرَاءَة ] . وَالصَّحِيح فِي سَبَب قَوْله تَعَالَى : " فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ " حَدِيث الزُّبَيْر مَعَ جَاره الْأَنْصَارِيّ فِي السَّقْي , عَلَى مَا يَأْتِي فِي [ النِّسَاء ] بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
[ وَقِيلَ ] مَعْنَاهَا لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ تَحْت السَّيْف مُجْبَرًا مُكْرَهًا , وَهُوَ الْقَوْل الْخَامِس .
[ وَقَوْل سَادِس ] وَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي السَّبْي مَتَى كَانُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمْ يُجْبَرُوا إِذَا كَانُوا كِبَارًا , وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا أَوْ وَثَنِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَام ; لِأَنَّ مَنْ سَبَاهُمْ لَا يَنْتَفِع بِهِمْ مَعَ كَوْنهمْ وَثَنِيِّينَ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهمْ وَلَا تُوطَأ نِسَاؤُهُمْ , وَيَدِينُونَ بِأَكْلِ الْمَيْتَة وَالنَّجَاسَات وَغَيْرهمَا , وَيَسْتَقْذِرهُمْ الْمَالِك لَهُمْ وَيَتَعَذَّر عَلَيْهِ الِانْتِفَاع بِهِمْ مِنْ جِهَة الْمِلْك فَجَازَ لَهُ الْإِجْبَار . وَنَحْو هَذَا رَوَى اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك . وَأَمَّا أَشْهَب فَإِنَّهُ قَالَ : هُمْ عَلَى دِين مَنْ سَبَاهُمْ , فَإِذَا اِمْتَنَعُوا أُجْبِرُوا عَلَى الْإِسْلَام , وَالصِّغَار لَا دِين لَهُمْ فَلِذَلِكَ أُجْبِرُوا عَلَى الدُّخُول فِي دِين الْإِسْلَام لِئَلَّا يَذْهَبُوا إِلَى دِين بَاطِل . فَأَمَّا سَائِر أَنْوَاع الْكُفْر مَتَى بَذَلُوا الْجِزْيَة لَمْ نُكْرِههُمْ عَلَى الْإِسْلَام سَوَاء كَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا قُرَيْشًا أَوْ غَيْرهمْ . وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْجِزْيَة وَمَنْ تُقْبَل مِنْهُ فِي [ بَرَاءَة ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .