ألسائل الكريم اسوق إليك تباعاً بإذن الله الرد على أسئلتك وأبدؤها بالرد على سؤال تنقيط المصحف فقد ورد في موقع شبكة الإسلام عن مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه الآتي:


"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فننقل كا جاء في كتاب (مناهل العرفان) للزرقاني حيث عقد لذلك فصلين فقال رحمه الله:
المصاحف في دور التجويد والتحسين:
كانت المصاحف العثمانية أشبه بماء نزل من السماء فأصاب أرضا خصبة صالحة ولكنها ظامئة متعطشة فما كاد يصل إليها الماء حتى اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، كذلك المصاحف الشريفة ما كاد عثمان يرسلها إلى الآفاق الإسلامية حتى أقبلت عليها الأمة من كل صوب وحدب، وحتى اجتمعت عليها الكلمة في الشرق والغرب، وحتى نسخت على غرارها آلاف مؤلفة من المصاحف المقدسة في كل جيل وقبيل.
ومما يلفت النظر أن يد التجويد والصقل والتحسين أخذت تتناول المصاحف على ألوان شتى وضروب متنوعة، فهناك تحسينات مادية أو شكلية ترجع إلى النسخ والطبع والحجم والورق والتجليد والتذهيب ونحو ذلك ، وهذه لا تعنينا كثيرا لأن أمرها هين وإن كان فيها بعض التيسير أو التشويق إلى القرآن الكريم، وهناك تحسينات معنوية أو جوهرية ترجع إلى تقريب نطق الحروف وتمييز الكلمات وتحقيق الفروق بين المتشابهات عن طريق الإعجام والشكل ونحوهما، وفي هذه نسوق الحديث.
الإعجام: إعجام الكتاب نقطه. قال في القاموس: أعجم فلان الكلام ذهب به إلى العجمة، والكتاب نقطه كعجمه وعجمه أي بتخفيف الجيم وتضعيفها، والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطا وذلك للمعنى الذي أسلفناه وهو بقاء الكلمة محتملة لأن تقرأ بكل ما يمكن من وجوه القراءات فيها، بيد أن المؤرخين يختلفون: فمنهم من يرى أن الإعجام كان معروفا قبل الإسلام ولكن تركوه عمدا في المصاحف للمعنى السابق، ومنهم من يرى أن النقط لم يعرف إلا من بعد على يد أبي الأسود الدؤلي، وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت واختلط العرب بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة، وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يلح بالناس حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة. هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ فأمر الحجاج أن يعنى بهذا الأمر الجلل، وندب الحجاج طاعة لأمير المؤمنين رجلين يعالجان هذا المشكل هما: نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني، وكلاهما كفء قدير على ما ندب له إذ جمعا بين العلم والعمل والصلاح والورع والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن، وقد اشتركا أيضا في التلمذة والأخذ عن أبي الأسود الدؤلي، ويرحم الله هذين الشيخين فقد نجحا في هذه المحاولة وأعجما المصحف الشريف لأول مرة ونقطا جميع حروفه المتشابهة والتزما ألا تزيد النقط في أي حرف على ثلاث. وشاع ذلك في الناس بعد فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف، وقيل: إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر، ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية ثم تبعه ابن سيرين، وأن عبد الملك أول من نقط المصحف ولكن بصفة رسمية عامة ذاعت وشاعت بين الناس دفعا للبس والإشكال عنهم في قراءة القرآن.


شكل المصاحف: (التشكيل) شكل الكتاب في اللغة رديف لإعجامه. وقد عرفت أن الإعجام هو النقط. قال صاحب القاموس ما نصه: والكتاب أي وشكل الكتاب أعجمه كأشكله كأنه أزال عنه الإشكال ا. هـ. ثم شاع استعمال الشكل في خصوص ما يعرض للحروف من حركة أو سكون ، والمناسبة بين المعنيين ظاهرة لأن في كل منهما إزالة لإشكال الحرف ودفعا للبس عنه. واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول لم يكونوا يعرفون شكل الحروف والكلمات فضلا عن أن يشكلوها، ذلك لأن سلامة لغتهم وصفاء سليقتهم وذلاقة ألسنتهم كل أولئك كان يغنيهم عن الشكل، ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة منهم العجم الذين لا يعرفون العربية، بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن؛ بل قيل إن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئا يقرأ قوله تعالى (أن الله بريء من المشركين ورسولِه) [التوبة: 3] فقرأها بجر اللام من كلمة رسوله، فأفزع هذا اللحن الشنيع أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: وقد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث. وهنا جد جده وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسر نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين، طفق الناس ينهجون منهجه ثم امتد الزمان بهم فبدؤوا يزيدون ويبتكرون حتى جعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها، على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة، ودامت الحال على هذا حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى بنافذ بصيرته أن يميز ذوات الحروف من بعضها وأن يتخذ سبيله إلى ذلك التمييز بالإعجام والنقط على نحو ما تقدم تحت العنوان السابق، وهنالك اضطر أن يستبدل بالشكل الأول الذي هو النقط شكلا جديدا هو ما نعرفه اليوم من علامات الفتحة والكسرة والضمة والسكون، والذي اضطره إلى هذا الاستبدال أنه لو أبقى العلامات الأولى على ما هي عليه نقطا ثم جاءت هذه الأخرى نقطا كذلك لتشابها واشتبه الأمر، فميز بين الطائفتين بهذه الطريقة ونعما فعل حكم نقط المصحف وشكله. كان العلماء في الصدر الأول يرون كراهة نقط المصحف وشكله مبالغة منهم في المحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف وخوفا من أن يؤدي ذلك إلى التغيير فيه، ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، وما روي عن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم إلى غير ذلك، ولكن الزمان تغير كما علمت فاضطر المسلمون إلى إعجام المصحف وشكله لنفس ذلك السبب أي للمحافظة على أداء القرآن كما رسمه المصحف وخوفا من أن يؤدي تجرده من النقط والشكل إلى التغيير فيه. فمعقول حينئذ أن يزول القول بكراهة ذينك: الإعجام والشكل، ويحل محله القول بوجوب أو باستحباب الإعجام والشكل، لما هو مقرر من أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. قال النووي في كتابه التبيان ما نصه: قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله فإنه صيانة من اللحن فيه، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه، وقد أمن ذلك اليوم فلا يمنع من ذلك لكونه محدثا فإنه من المحدثات الحسنة فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك والله أعلم ا.هـ.
(وعلى الله قصد السبيل )[النحل: 9]. انتهى من كلام الزرقاني .

يتبع بإذن الله تعالى