يقول السيوطي في رسالته الطليقة (مفتاح الجنة)63: "قال البيهقي: باب بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن، قال الشافعي رحمه الله: احتج عليّ بعض من رد الأخبار بما روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله"64، فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير أو كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية.اهـ كلام الشافعي.
قال البيهقي: أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود، فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال: "بأن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني".
قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس صحابياً، فالحديث منقطع65.
وقال الشافعي: ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين معنى ما أراد خاصاً أو عاماً، وناسخاً ومنسوخاً. ثم التزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الله قبل، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي نقولاً كثيرة في هذا الصدد نختار منها الآتي:
1- قال البيهقي: قال الإمام الشافعي رحمه الله: "سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل نص الكتاب.
ثانيها: ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد.
ثالثها: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه له ورضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من التشريع، لأن الله تعالى ذكره قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}66، وقال: {وَأَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}67، فما أحل وحرم مما بين فيه عن الله كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فثبتت سنته بفرض الله تعالى68.
ومنهم من قال: كل ما سن، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى" انتهى كلام الشافعي.
وقال الشافعي في موضع آخر: "كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له في اتباع سنن نبيه مخرجاً".
قال البيهقي: "باب ما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والبيان أن طاعتَه طاعتُه"، ثم ساق الآيات التالية: قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}69، وقال عزّ من قائل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}70، إلى غيرهما من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعةَ رسوله طاعتُه سبحانه، وأن معصيتَه معصيتُه تعالى.
ثم أورد البيهقي رحمه الله: حديث أبي رافع رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أُلفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"71.
ومن حديث المقدام بن معدي كرب قال:"(إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء يوم خبير كالحمار الأهلي وغيره" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يقعد رجل على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله"72.
ثم قال البيهقي رحمه الله: وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد.