يتبع تاريـــــــــــــخ القدس وأحداثها
معركة أَجْنَادِين:
وصل عمرو بن العاص بجيشه إلى أجنادين، فوجد القائد الرومي أَرْطِبونَ مرابطا بقواته هناك قد قسَّم جندَه ونظم عساكره، ووضع جندا كثيفا لحماية القدس، وآخر لحماية الرملة، فقطع عمرو طرق المساعدة الرومانية عن الأرطبون، وأرسل قوة لمشاغلة حامية الروم في الرملة، وقوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في القدس، وأقام المسلمون في أَجْنَادِين يأتيهم المددُ، ولا يأتي عدوهم.
لكن عَمْرًا لم يجد لخَصْمِه ثغرة، ولم يعرف له خطة، فبعث بالرسل بينه وبينهم لعلهم يكشفون من الروم عن شيء مفيد، أو يطَّلِعون على خططِهم وترتيباتهم للحرب.
لقد أدرك عمرو جيدا أن معرفة العدو شيء ضروري للانتصار عليه، لكن الرسل الذين بعث بهم إلى قائد الروم لم يسعفوه بشيء، فقرر أن يخوض المغامرة بنفسه، وذهب إلى أَرْطِبُون في عرينه متخفيا في صورة رسول من المسلمين، ودخل عليه وكلَّمه، وعرف مداخلَه ومخارجَه، وأوقع قائدَ الروم في حبائل دهائه الرهيبة، إذ حاول القائد أن يقتله لِمَا رأى من ذكائه، وشكَّ في أنه قد يكون عمرا نفسه، وأدرك القائد المسلم ما يدبر له فوعد أرطبون بأن يزوره مرة أخرى ومعه أمثاله من أبناء عمومته من العرب، فطمع قائد الروم في غنيمة أكبر..
لكن عودة عمرو لم تكن سارة للقائد الرومي، إذ أقبل بجيشه وقواته، مما كان إيذانا ببدء قتال حام في أَجْنَادِين، كان الناس وقودا سهلا له، ولكن دون أن تميل الكِفَّة إلى أي من الجانبين..
ويمر الوقت ويدُ كلِّ فريق بين أسنان الآخر، فكان المسلمون أكثرَ صبرا، كما قوَّت انتصارات إخوانهم في مدن سوريا من عزائمهم ومعنوياتهم...
وقلَّب أَرْطِبُونُ بصره في الصفوف فوجد رجاله قد سيطر عليهم إعياء شديد، واضطربت صفوفهم، وأن المسلمين يحصدونهم بسيوفهم حصدا، ففضل أن ينسحب بجيشه إلى موقع يستطيع فيه المقاومة أكثر، فانسحب بهزيمة ثقيلة إلى بيت المقدس الحصينة محتميا بها، وذلك في النصف الثاني من سنة خمس عشرة للهجرة.
معاويةُ يفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ:
طار كتابٌ من أمير المؤمنين عمر إلى الأمير الموهوب معاويةَ بن أبي سفيان بأن يفتح للمسلمين قَيْسَارِيَّةَ، فسار إليها بروحِه الوثَّابةِ، وحاصرها، فكانوا يزحفون إليه ويزحف إليهم مرات دون أن يفتحها أو يرجعَ عنها، وثبت المسلمون في مواضعهم، فإذا بالقدَر الإلهي يمهد لفتح المدينة من باب لطفٍ إلهي خفي، لقد جاء يهودي إلى المسلمين ليلا، وأرشدهم إلى طريقٍ يدخلون منه المدينة، على أن يؤمِّنوه وأهلَه، فدخل المسلمون قَيْسَارِيَّة ليلا وكبّروا فيها، فتزلزلت الأرض بالروم، وظنوا أن المسلمين قد جاءوهم من كل ناحية، ففروا لا يفكرون في شيء إلا النجاة بأنفسهم، فوقع قتال شديد انجلى عن نصر باهر للمسلمين، ثم كتب عمر إلى معاويةَ بفتح ما بقي من فِلَسْطِين بعد أن فتح بيت المقدس والرَّمْلة، فمال معاوية بجنده إلى عَسْقَلانَ، ففتحها صلحا.
البشارة النبوية بفتح بيت المقدس:
روى البخاري في صحيحه عن عَوْف بْن مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ حتى أحصى ستة أشياء.
هكذا أتت البشارة النبوية بفتح بيت المقدس واضحة صريحة، وحددت بدقة أن الفتح لن يكون في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل بعد لحاقه بالرفيق الأعلى..
لقد كانت الذاكرة النبوية وهو في تبوك، على مقربة من بيت المقدس، تستحضر وضع المدينة المباركة، والأَسْر الطويل الذي وقعت فيه، فلا زالت القوى الغريبة عنها تسيطر عليها..
جاءت البشارة في زمن كان الروم فيه يسيطرون بقوة على المدينة المباركة، حتى إن الناظر إلى حالها يتيقن تماما أنهم لن يخرجوا منها، وظن الروم أن المدينة التي استرجعوها من بين أنياب الفرس لن تخرج من أيديهم مرة أخرى أبدا..
لقد خرجت البشرى من رحم الواقع الصعب، لكنها إلهية المصدر، وليست اجتهادا من النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، ولأنها إلهية فإن كثرة المعوقات، وصعوبة الطريق لن تحول بينها وبين التحقق.. (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا..).
يتبع
المفضلات