كان جدعانيري أن المعتزلة هم المتهمون حقيقة بهذه المحنة، وكانوا في تواطؤ مع السلطة، وهنانجد جدعان يقول: لقد رد البحث المعاصر إلى المعتزلة قدراً عظيما من "الاعتبار" الذي يليق بهم. لا بل إن بعض الكتاب المفعمين بروح "العقلانية" قد أسرفوا في إسباغ الثناء والمديح عليهم حتى لقد تصور بعضهم انالنكبة التي لحقت بهم قريبا من منتصف القرن الثالث الهجري، وبعد ذلك، إنما كانتنكبة للإسلام نفسه آذنت بأفول العصر الذهبي له..
وأنا أؤيدما قاله فهمي جدعان؛ لا سيما وأن للمعتزلة لهم أصول خمسة، وهي التوحيد والعدلوالمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فأصلالتوحيد لا شيء يشبه الله، فالله لا نظير له وهو الواحد الأحد بلا نظير ولاشريك.. والذين يقولون إن القرآن قديم والقرآن غير مخلوق.. هذا يعني أنالقرآن يشترك مع الله في صفة معينة، وهي صفة القدم، فعندما تقول إن القرآن قديم،فقد أشركت بالله، والإشراك بالله عند المعتزلة معناه الكفر؛ وهنا نجد فهمي جدعانيقول:" ومن الثابت أن القول بالقرآن مخلوق يرجع إلى عهد بعيد جدا عن مبدأ"الامتحان" الذي شهره المأمون في عام 218 هـ، وأن القضية في مبدئها قضية" جهمية"، تجد أصداء قوية لها في بعض الأقوال المنسوبة إلي الإمامالشيعي جعفر الصادق (ت 148/765م) الذي يعزي إليه أنه أجاب عن السؤال: القرآن خالقأم مخلوق؟ بالقول ليس خالقا ولا مخلوقا، بل هو كلام الله.
إذنالمعتزلة لم يكونوا أول من قال بقضية خلق القرآن ولم يكونوا وحدهم، هنا حقيقةاتجاهات ومذاهب وأشخاص كان لهم حضور قالوا بأن القرآن مخلوق، فالمعتزلة هم جزء منمجموعة ومنظومة قالت بذلك، ولكن المعتزلة حقيقة هي التي قدمتالاستدلالات والحجج المتينة القوية والجدالات لتأسيس هذه القضية، مقارنة بالمذاهبأو الاتجاهات الأخرى التي كانت تتعرض للتضييق والمحاربة ؛ وهنا يقول الدكتور عبدالكريم الوريكات (الأستاذ بقسم أصول الدين بالجامعة الأردنية): إن فهمي جدعانيحاول ما استطاع أن يبعد هذه التهمة عن المعتزلة، لكن للأسف الشديد المحنة أكبردليل علي قول المعتزلة وتبني المعتزلة وتأصيل المعتزلة بل وممارسة المعتزلةلهذه العقيدة بالقول والفعل؛ كما يقول حسن حنفي: إن قضية خلق القرآن ليس رأيالمعتزلة وحدهم ولكنه رأي جميع فرق المعارضة حتي تسمح لنفسها بأن تعارض وأن تفسروأن تفهم وأن تواجه السلطان بعلماء السلطان ومن ثم فهو رأي سياسي بالأصالة ...
وهنا نجدفهمي جدعان يقول:" وحياة المأمون ملحمة من الملاحم مبدؤها الصراع علي الملكالذي كان بينه وبين أخيه محمد الأمين، وقد تفجر هذا الصراع حين أقدم الأمين علىخلع المأمون وهو بخرسان والدعوة إلى نفسه في عام 195هـ. ونجح طاهر بن الحسين ذواليمنيين، في قتل الأمين ، فبايع الناس خلع المأمون بالخلافة وتم ذلك في سنة198هـ.
من الملاحظهنا جعل فهمي جدعان القسم الثاني من الفصل الأول مختصاً بتفسير العلاقة بينالمعتزلة والخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق.
والمعتزلةالذين ثبت اتصالهم بهؤلاء الخلفاء أو بالمأمون على وجه التخصيص هم أهل الطبقةالسادسة والسابعة من المعتزلة يأتي علي رأس هؤلاء ثمامة بن الأشرس (ت 213 هـ)ويليه أبو الهذيل محمد العلاف (ت 235 هـ) ثم أبو أسحق إبراهيم بن سيار النظام (ت231 هـ) وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم (ت 225 هـ) وكذلك أبو موسى عيسى بنصبيح المردار راهب المعتزلة ت (226 هـ) وأستاذ الجعفرين: جعفر بن حرب وجعفر بنمبشر ولاستكمال صورة الروابط بين المعتزلة والمأمون لا بد من الإشارة إلى صلة هذاالخليفة بثلاثة رجال ينسبون كلهم،أو بعضهم إلى المعتزلة هم الجاحظ (ت 255 هـ) وبشرالمريسي (ت 218 هـ) وأحمد بن أبي دؤاد (ت 240 هـ) وكتاب طبقات المعتزلة جعل أحمدبن دؤاد والجاحظ من الطبقتين السادسة والسابعة باستثناء بشر المريسي فلا علاقة لهبالمعتزلة يقينا مع أن الدكتور جدعان لم يشر إلى ذلك .
وكتابالمحنة يبين علاقة هؤلاء بالتفصيل مع المأمون من (ص 65- ص 98) من خلال العرض يتبينوخاصة العرض من خلال علاقة ثمامة والمأمون أن المأمون ليس معتزليا وهذا ما أكدهالكتاب انظر (ص 65 – 69) وذلك حسب قول أمين نايف ذياب.
أما القسمالثالث من الفصل الأول وهو آخر قسم في هذا الفصل فأنه مكرس لفحص علاقة أحمد بن أبيدؤاد في المحنة فأحمد بن دؤاد متقلدٌ أسمى مناصب الدولة منصب قاضي القضاة ومهامقاضي القضاة جسيمة أولها اختيار القضاة وعزلهم وبالتالي الإشراف على عملية فصلالخصومة سواء بين طرفين مشخصين أو بين طرف مشخص وآخر هو حق الطاعة أو حق الإسلامأو حق الأمة الإسلامية ولا بد من أن ينهض بأعباء وظيفة ولهذا كان لا بد من أن يكونالمرجع في الامتحان، وإذ يقوم بذلك فإنما يقوم به حسب مذهبه.
ويذهبالدكتور جدعان إلى أن ابن أبي دؤاد لم يكن متعطشاً للدم والسلطة والقسر، ولا شكانه كان ذا عرق نبيل أبي النفس كريماً، وليس أدل على ذلك منموقفه من أهل الكرخ حين رقق المعتصم حتى أطلق له مالاً قسمه على الناس، فضلاً عنمال عنده،ويخرج الدكتور جدعان في كتابه المحنة قائلاً " والمدقق في وقائعالمحنة يتبين بوضوح أن أحمد بن أبي دؤاد كان يحاول دوماً التخفيف من حدتها والبحثعن الوسائل المجدية من أجل ذلك " وينفي الدكتور جدعان أية علاقة لأبي جعفرمحمد بن عبد الله الإسكافي (ت 240 هـ) والذي أعجب به المعتصم إعجابا شديداً فقدمهوأوسع عليه، ومع هذا فلا علاقة له بالمحنة ومع رحيل المعتصم سنة (227 هـ) وتوليالواثق (227- 232 هـ) لا يشك الدكتور جدعان أن علاقة احمد بن أبي دؤاد بالواثق هينفس علاقته بالمعتصم أي علاقة الوظيفة لا غير، فلماذا يتحمل المعتزلة ولم يكونواخلفاء الدولة، بل أن أكثرهم على عدم ولاء للدولة إلى حد القطيعة، والذين اتصلوابخلفاء الدولة إنما اتصلوا بحكم الوظيفة، أو بحكم الإعجاب بهم . أو بحكم حضورجلسات الجدال في أيام المأمون، ولم يكن ما أصاب ابن أبي دؤاد وأهله من محن على يديالمتوكل، راجع إلا لأنهم كلهم سواء بالاهتمام بالحفاظ على سلطتهم السياسية وفيسبيلها ولا جلها يكون ما يظهر من مواقف عقدية، وذلك حسب قول أمين نايف ذياب..
ويعنونفهمي جدعان الفصل الثاني ويستغرق الصفحات من (111- 187) وهو هنا يؤرخ للمحن كواقعتاريخي (المقصود بالمحنة امتحان الفقهاء والقضاء وأهل الحديث بل والشهود بمقولتهمفي القرآن) ومن تعرض لمثل هذا الامتحان من الكثرة منهم من يذكر التاريخ ومنهم منلا يذكره فعلام ارتباط المحنة بأحمد بن حنبل دون غيره؟ مع أن المصادر التاريخيةتجمع على أنه لم يجلد أكثر من (68) سوطاً على ثلاث فترات لقد استطاع الإعلامالحنبلي الميكافيلي أن يضخم صورة تلك المحنة بحيث ارتبطت بأحمد بن حنبل، والقارئللمحنة (كما جمعها ابن عمه وتلميذة حنبل بن اسحق) يدرك الفجوات الواضحة والكثير فيسياق هذه المحنة، وهذا وحده كاف كدعوة للدخول إلى دراسة دواعي المحنة ورجالها. أماالفصل الثالث في كتاب المحنة الذي يستغرق الصفحات من (187 – 263) وهي دراسة تركزعلى رسائل المأمون في محاولة لاكتشاف الدواعي من خلال الوعي على المعطى التي تقدمهتلك الرسائل ولاكتمال الصورة، وجه الكتاب النظر إلى الممتْحَنين من حيثُ واقعهمالعقدي وواقعهم العملي، ولقد ركز المأمون في رسائله على بيان الصور القاتمة فيواقعهم العملي، وقد بلغ عدد من توجهت الدراسة إليهم أربعون شخصاً يتوزعون علىالعراق والشام ومصر ويتوزعون من ناحية أخرى على أهل الحديث وأهل الرأي والفقهاءوواحد منهم هو عم الخليفة المدعو إبراهيم بن المهدي ليس من هؤلاء .
وفي آخرالفصل الثالث يحاول الكتاب بناء صورة لفكر المأمون وعقيدته مع أن المادة المتيسرةلمثل هذه الدراسة قليلة ولا تفي بالغرض، ويتعرض من خلال الهامش ص (233- 235)لنظريات تفسر الدواعي التي أدت إلى قيام المأمون بجعل الإمام الثامن للشيعة الاثناعشرية وليا لعهده، ويخرج الكتاب بصورة عقدية وفكرية وواقعية تخالف ما استقر فيالأذهان عن المأمون وليس من وجاهة نقل صورة عن الممتحنين من مصادر تعد في موقعالتحيز لهم.
أما الفصلالرابع وهو أهم فصول الكتاب بل تعتبر الفصول السابقة مقدمة له والذي يعنونهالدكتور باسم تسويات لحساب التاريخ ص (267 – 290) فهو يكشف عن واقع دور المعتزلةفي المحنة، معلناً أن لا علاقة للمعتزلة في هذه المحنة، ويكشف حقيقة أهل الحديث ـوخاصة أبو مسهر الدمشقي وأحمد بن حنبل ـ وقيام سلطة لهم من خلال العامة موازيةللسلطة، بل والتهديد الفعلي لها، وأنهم أصحاب هوى أموي، وقد شارك أبو مسهر بالذاتفي الثورة مع السفياني (195- 198 هـ) ورغم القضاء على ثورة السفياني ومرور عقدينعليها إلا أن المأمون يكشف عام (217 هـ) أثناء زيارة لدمشق استمرار الهوى الأمويفيها مما جعله يدرك الخطر، خطر أهل الحديث إدراكاً واقعياً ويشعر قارئ هذا الفصلبمقدار كبير من الإثارة، وذلك حسب قول أمين نايف ذياب .
ويختمالكتاب في الفصل الخامس بعنوان جدلية الديني والسياسي ص (293 – 359) ليرى أن قضيةالمحنة محكومة بالصراع على سلطة، وهي هنا بالتأكيد الصراع بين الديني والسياسي،ولكن الدكتور لا يبين لنا الفروق الواضحة بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، وهل منالحكمة أن تتكون حدوداً فاصلة بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي؟!؛ وذلك حسب قولأمين نايف ذياب. والذي سوف نعرض لقوله تفصيلاً فيما بعد.
المفضلات