-
-
المطلب الرابع
قضيتي الثبوت والتحاكم
هذه القضية من أهم القضايا الجنائية حيث أن مراتب القضاء ثلاثة وهي:
1- الثبوت
2- الحكم
3- التنفيذ
( الثبوت) وهو أول مرحلة من مراحل القضاء ويختص بإثبات الجريمة على المتهم.
(الحُكم) وهو ثاني مرحلة من مراحل القضاء وهو النطق بالحكم.
(التنفيذ) وهو آخر مراحل القضاء وهو تنفيذ الحكم الصادر من الحاكم أو القاضي في حق المتهم.
وشهادة الشاهد إعانة توصل لأولى مراحل القضاء وهي مرتبة (الثبوت) وهي بذلك إعانة توصل إلى الفعل قطعاً.
إذن الشاهد مُعين في أول مرحلة من مراحل القضاء التي بدونها ينعدم الحكم وتنفيذه.
ومن هذا الإجمال إلى شيء من التفصيل وهو على فروع.
الفرع الأول
امرأة العزير مع يوسف عليه السلام
قال هي راودتني عن نفسي:
واقعة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز عندما راودته عن نفسه لم تكتمل فيها أركان التحاكم الرئيسية فكانت:
امرأة العزيز وزوجها (طرف).. ويوسف عليه السلام (طرف).
أي متنازعان فلم ترتفع القضية لجهة ثالثة لكي تفصل فيها.
إن شرف المرأة وعرضها هو عرض لزوجها يدافع عنه، وهو تبع له ولهذا فإن العزيز هو خصم يوسف في هذا الموضوع وليس طرفا ثالثا لأن الأمر يخص عرضه وشرفه، ومما يُدل على ذلك ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام قوله: (ما بال رجالٌ يؤذونني في أهلي..) في حديث الإفك الشهير. فقد نسب الأذى على نفسه مع أن الكلام كان عن زوجته رضي الله تعالى عنها.
فأولاً: يوسف عليه السلام قد حكم عليه العزيز خصمه بالسجن لأنه كان في مركز قوة ولم تحكم عليه جهة ثالثة رفع إليها الخصمان القضية للفصل فيها بل الذي أمر بسجن يوسف هي امرأة العزيز لا زوجها وما جاء في نص الآية واضح وصريح
﴿ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يوسف:25..
وقوله تعالى ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾ يوسف: ٣٢
وقول العزيز في ذلك:
﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ يوسف:29.
فسبحان الله ما أوضح البيان وكيف عمت عنه العينان ولكنها ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ الحج:46.
فلم يحكم العزيز عليه أصلا بشيء فضلاً أنه لا يمكن أن يكون حكما في قضية هو خصم فيها.
ثانيا: قضية يوسف عليه السلام قضية ثبوت وليست قضية حكم والفرق بين الثبوت والحكم واضح فكل حكم ثبوت وليس كل ثبوت حكم، إذ أن الحكم يحتاج إلى حاكم وإلا لم يكن حكما، أما الثبوت فلا يشترط فيه وجود الطرف الثالث (الحاكم).
قال ابن القيم رحمه الله: في الطرق الحكمية ج5 ص 1بعنوان (دعوى قتل أبي جهل).
ومن ذلك أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفكما؟.
قالا: لا.
قال: فأرياني سيفيكما فلما نظر فيهما قال لأحدهما هذا قتله وقضى له بسلبه.
(وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع والدم في النصل شاهد عجيب) ص 762 برقم 4020 كتاب المغازي، وصحيح مسلم ص748 برقم 1800، كتاب الجهاد والسر، باب قتل أبي جهل.
فقوله صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما- إلى أن قال- هذا قتله.. هذه هي قضية الثبوت التي يكون الرجوع فيها إلى خبير أو عالم ولو كان مشركا.
وقوله: وقضى له بسلبه هذا هو الحكم أو القضاء الذي لا يجوز الرجوع فيه إلا لحاكم يحكم بشرع الله ويشترط فيه الإسلام.
والناظر المنصف لحادثة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز يجد أنها قضية ثبوت وليست قضية تحاكم.
وقد يطلق على الثبوت حكم من ناحية لغوية..
أما من حيث الاصطلاح هو أن الثبوت يحتاج إلى خبير أو حكيم..
فالمرجع في الغالب الخبرة والفطنة والدراية..
أما الحكم فهو يشترط فيه الرجوع فيه لحكم الله سبحانه وتعالى والمحكم فيه مسلم.
فمن لم يفرق بين التحاكم وبين النزاع معه وبين قضية الثبوت اختلطت عليه الأمور ووقع في المحظور.
فمرحلة الثبوت تسبق مرحلة الحكم وليست منها وإن كانت من لوازمها.
1- مرحلة الثبوت: وتشمل تحرى القرائن والبينات وسماع الشهود وإعذار المتهم أيضا، مثل قول القاضي هل هناك من يشهد معك بهذا؟ وغير ذلك.
2- ثم مرحلة الحكم.
3- ثم مرحلة التنفيذ.
وقد يسمى كل ذلك حكما مجازا ولكن الحقيقة أن مرحلة الثبوت ليست حكما وإن كانت غالبا ما تفعل كمقدمة له وقد تنتهي به.
ومن أمثلة إطلاق لفظ الحكم عليها مجازا بالرغم من أنها ليست حكما، تفسير العلماء لقوله تعــــــالى
﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ بقولهم وحكم حاكم من أهلها فجعلوا ذلك حكما باعتبار أنه يظهر الحق ويجلوه لا من باب أنه كان حكما فعلا لأن هذا كان في مرحلة الثبوت وليس في مرحلة الحكم.
ومن أمثلة محاولة إثبات البراءة بالبينات في مرحلة الثبوت سواء أمام المسلمين أو الكفار:
1- قوله تعالى ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ يوسف:82. وكان ذلك من إخوة يوسف عليه السلام دفعا لتهمة متوقعة يتهمون بها لرجوعهم بدون أخيهم وكان ذلك منهم أمام نبي الله يعقوب عليه السلام.
2- وقوله تعالى ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ يوسف:73. وكان ذلك من إخوة يوسف عليه السلام واستخدموا لإثبات ذلك القسم دفعا للتهمة منهم أمام يوسف عليه السلام بالرغم من أنهم يظنون أنه عزيز مصر وعلى دين قومه.
3- وقوله تعالى:﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ﴾ يوسف:56. وكان هذا بينَّة منه أظهرها الشاهد للعزيز لكي يمكنه من الوصول إلى الحقيقة.
4- وقوله تعالى ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ ﴾ يوسف:51. وكانت مخاطبة الملك لهن بالإدانة رغبة منه في مباغتتهن بالحقيقة ليعترفن بها، وكان ذلك منه بالرغم من أنه كان كافرا على الراجح من كلام أهل العلم، وقد فعل ذلك لأنه كان موقنا ببراءة يوسف عليه السلام وصدق وصفه لما سجنوه من أجله أنه من كيدهن وهذا بديهي بعد أن صدقه في تأويله رؤياه.
5- ومرحلة الثبوت هذه مثل إظهار البينة أو التحقق من التهمة تشمل كل ما يحاول به القاضي أو من يقوم قبله بذلك من سؤال الشهود والمتهم والبحث عن قرائن وبينات أو استخلاصها أو إعذار المتهم بطلب شهود النفي منه.
6- ومثل ما تقوم به حاليا النيابة ويسمى التحقيق وما يقوم به الخبراء وغيرهم من الهيئات التي تختص بإظهار القرائن والبينات وليست على الحقيقة هيئات حكم وقضاء.
وذلك حتى يتمكن القاضي من الحكم بما يرى أنه الحق بحسب دينه في مرحلة الحكم، فإن كان دينه الإسلام فسيحكم بالأحكام الشرعية حيث هو يتعبد الله بذلك، وإن كان دينه غير الإسلام فسيحكم بما يوافق دينه من قوانين وأحكام بلده.
وقوله عليه السلام كما ذكره تعالى: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ يوسف:26.
إنما رد التهمة عن نفسه بما يفيد إنكارها وكان ذلك في مرحلة التثبت من التهمة وهذه مرحله يعرف كل من له علم بكتب القضاء أنها تسبق مرحلة الحكم وليست منها، والآية تدل على أنه يمكنك أن تدفع عن نفسك تهمة في مرحلة الثبوت وهذا من باب إثبات براءة الذمة الأصلية التي تستصحب لكل البشر، بل إن اتهام امرأة العزيز ليوسف ورد يوسف عليه السلام عليها وشهادة الشاهد وهي قرينة ثبوت التهمة، كل ذلك لم يتجاوز مرحلة التثبت من التهمة.
أما عن واقعة سجن يوسف عليه السلام نفسها , فكانت من العزيز وامرأته والنسوة في مرحلة لاحقة لتلك الواقعة التي اتهمته فيها امرأة العزيز بمراودتها , وكان ذلك بعد ذيوع وانتشار قصة مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام بين الناس , وهذا لابد وأن يستغرق وقتا لانتشاره , وعندما رأوا سجنه كانوا جميعا خصومه فسجنوه لما رأوا الآيات, فكانوا هم الخصم والقاضي وهذا أيضا ليس صورة من صور التحاكم.
- ومعلوم أن طلب الحكم بالبراءة غير اشتراط البراءة , ففي الأولى ( طلب الحكم ) خطوات لابد أن تتم كما في كل قضاء , وذلك يكون باستدعاء الخصوم والشهود وسؤالهم في مرحلة الثبوت قبل مرحلة الحكم ويكون القاضي فيها مظهرا الحيدة التامة مع طرفي الخصومة , وهذا لم يكن ليتم ويوسف في السجن , بل لابد للملك أن يحضره إلى مجلس القضاء , ولم يكن لديه ما يمنعه من الحضور بعد أن أمر الملك بإخراجه , ويحضر أيضا امرأة العزيز والنسوة ويبدأ التحقيق في المنازعة , وهذا لم يحدث بل إن الملك أخذ كلاما فيه الكثير من التعريض لا التصريح من يوسف وخاطب به النسوة وامرأة العزيز بينهن بالإدانة وهذا يعد محاباة وليست قضاءً , فما الذى حدث إذن ؟.
-الذى حدث هو أن الملك أراد يوسف نفسه لا أراد مجرد خروجه, والدليل هو أنه لما رجع إليه الساقي بتأويل رؤياه, أمره بإحضار يوسف إليه لا بمجرد إخراجه من سجنه: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ يوسف: 54.
ثم يبدو ذلك أكثر وضوحا بعد أن نفذ الملك ما اشترطه يوسف لخروجه من إظهار براءته، فعاود الملك طلبه بمجرد الانتهاء منها، وأظهر علة ذلك الطلب هذه المرة ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾.
- كما أن الملك كان يصدق يوسف بعد تأويله رؤياه في كل ما يقوله, فليس بعد تصديقه له في تأويل الرؤيا يمكن أن يكذبه في شيء أو حتى يشك في صدق كلامه, ولذلك لما أرسل له يوسف ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ يوسف:50. صدقه في أن ذلك كيد منهن وأيقن ببراءته , وجمع النسوة لا ليحقق معهن وهو موقن ببراءة يوسف , بل جمعهن ليواجههن بالإدانة التي هو موقن بها :
﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ ﴾ يوسف:51. فيبهتهن ويظهرن براءة يوسف عليه السلام.
وقد كان ما أراده: ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ ﴾.
وكذلك فعلت امرأة العزيز: ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.
وبتحقق ذلك وكما أراده يوسف واشترطه لخروجه من سجنه، خرج فعلا إلى الملك الذي كان ينتظر ذلك ليستفيد من يوسف في تدبير شئون مملكته في الأزمة المتوقعة طبقا لتأويل يوسف نفسه، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ يوسف:54.
وكان رد يوسف علي السلام دليلا على ما ذكرت أيضا، حيث اختار مخازن الغلال لكي يباشر بنفسه معالجة الأزمة المقبلة: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ يوسف:55.
- فكان تكييف ما حدث هو استعانة من يوسف عليه السلام بالملك لما أحس بحاجته إليه في إظهار براءته وليس أدل على ذلك من أن إظهار براءة يوسف عليه السلام لم تكن بحكم من الملك, بل كانت باعتراف صريح من النسوة وامرأة العزيز:
﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ﴾.
﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
الفرع الثاني
إثبات البراءة في مرحلة الثبوت لا يلزم منه الإقرار بمرحلة الحكم إذا لم تكن طالبا لها.
وفى هذه المرحلة - مرحلة الثبوت - يجوز للمتهم أن يحاول إثبات براءته أو إثبات خلو ذمته مما اتهمه به غيره، أي يحاول إثبات بقاء ذمته على البراءة الأصلية.
مثل قول يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ يوسف:26.
فقوله لا يتعدى ما ذكر في النص من أنه نفى للتهمة عن نفسه في مرحلة الثبوت في تهمة كانت امرأة العزيز هي من أراد أن يحاكمه للعزيز بها بالرغم من أنها لم تتم كمحاكمة فلم تتعد مرحلة الثبوت للآتي:
أن العزيز لم يحكم ببراءته وانما تأكد من براءته ببينة الشاهد ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ﴾..
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ يوسف:26.
وكان قوله ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ يوسف:29، فضا منه للأمر على استحياء بغير فصل , فلا هو حكم ببراءة يوسف لأن الحكم ببراءة البريء يلزم منه معاقبة الجاني الحقيقي وهو لا يريد أن يعاقب زوجته , أو لأن عقابها كان سيفضحه , فلا هو عاقبها ولا هو كابر في الحق بعد ما تبين له وأقر زوجته على اتهامها ليوسف عليه السلام بالباطل لأن ذلك كان يستلزم منه أيضا أن يعاقب يوسف بالسجن كما طلبته زوجته , ولم يفعل ذلك , قيل لأنه كان يحب يوسف ولما تأكد من براءته وعدم خيانته له في زوجته آثر عدم معاقبته , ولذلك انتهى الأمر في صورة توصيات كما ذكرت الآيات
﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ﴾، ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ﴾ وليس حكما فيه معاقبة أحد الطرفين بدعوى أنه الجاني.
فأين حكم العزيز المزعوم في هذه المسألة.
وأيضا في الثانية في قول يوسف عليه السلام كما ذكره سبحانه:
﴿ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ يوسف:50.
وهو فتح ملف القضية من جديد للحكم ببراءته.
فتأويل يوسف عليه السلام لرؤيا الملك خاصة بعد فشل ملئه في ذلك جعله الله سببا لإظهار براءته من عدة أوجه:
أن الملك علم منها أن يوسف صادق فيما يقول بدلالة ما أخبره الساقي من صدق تأويله قبل ذلك، وبدلالة تصديقه تأويل يوسف لرؤياه والتي علم منها وأيقن تبعا لذلك التأويل بحجم ما هو مقدم عليه هو ومملكته من محنة، وأن الذي يمكن أن يعبر به وبمملكته تلك المحنه هو من أول الرؤيا نفسه، فأرسل في طلبه ولم يرسل بمجرد إخراجه من السجن مكافأة له كما ذكره تعالى ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾.
أن يوسف عليه السلام علم من لهفة الملك على طلبه حاجة الملك إليه ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ ﴾، فأراد أن يستعين به في إظهار براءته على الملأ.
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ يوسف:50.
فبمجرد أن أرسل برسالته مع رسول الملك يلمح بأن سبب سجنه كيد النسوة وامرأة العزيز من بينهن معرضا بها غير مصرح حفظا لغيبة سيده، جمعهن الملك وخاطبهن بالإدانة تصديقا ليوسف عليه السلام في مجرد تلميحه وإشارته إلى الكيد منهن ﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ جمعهن وخاطبهن بالإدانة.
﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ ﴾ يوسف:51.
والذي أعلن براءة يوسف وأثبتها في الواقع ليس حكما من الملك بل هو اعترافا من النسوة بها:
﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ﴾.
واعترافا أيضا من امرأة العزيز بها:
﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.
ولم يحكم له الملك بالبراءة لأنه كان يعرف انه بريء وهذا هو السبب في أنه لما جمع النسوة وامرأة العزيز، خاطبهن بالإدانة ولم يسألهن حتى سؤال المحقق في مرحلة الثبوت ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ ﴾ يوسف:51. فهو حتى لم ينصب نفسه قاضيا يريد أن يتثبت من براءة يوسف عليه السلام تمهيدا للحكم بها , لأنه كان موقنا بها , وعلى ذلك لم يفعل ما يفعله الحكام أو القضاة فلم يقم بسؤال طرفي الخصومة مثلا , أو طلب الإعذار (شهود النفي أو الإثبات ) منهما أو من أحدهما , بل توجه بالإدانة لأحدهما تصديقا للآخر وعملا بما يريده حتى يخرج إليه تصديقا له واحتياجا له ليصطفيه لنفسه ويجعله من خاصته , ولذلك لما انتهت النسوة وامرأة العزيز من إعلان براءته أخرج الملك إلى أرض الواقع حقيقة ما في نفسه بالنسبة ليوسف فقال كما ذكره عزوجل
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ يوسف:54.
يراجع في ذلك:
كتاب انوار البروق في انواء الفروق للقرافي يمكن تنزيله من الشبكة الدولية من على محرك بحث ياهو وهو أربع مجلدات تحتوي على اقل قليلا من 300 فرق مهم تبدأ من الفرق الأول وهو الفرق بين الشهادة والبينة (وهذا الفرق وحده استغرق من القرافي ثماني سنوات فلتأمل!!!!) وهذه الفروق هامة جدا كي لا يقع الباحث في أي لبس.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
الفرع الثالث
القرائن
مقدمة
القرينة لغة: مأخوذة من قرَن الشيء بالشيء؛ أي: شدَّه إليه ووصَله به، كجَمْع البعيرين في حبلٍ واحد، وكالقَرن بين الحج والعمرة، وتأتي المقارنة بمعنى المرافقة والمُصاحبة، ومنه ما يُطلق على الزوجة قرينة، وعلى الزوج قرين، وفي الاصطلاح: ما يدلُّ على المراد من غير كونه صريحًا.
والقرينة عند القانونيين: "دليلٌ يقوم على استنباط أمرٍ مجهول من أمرٍ معلوم".
وأمَّا مشروعيَّة إعمال القرينة، فإن القرينة مشروعة في الجملة؛ لِما ورَد في قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [يوسف: 18]، قال القرطبي في تفسيره: "إنهم لَمَّا أرادوا أن يَجعلوا الدم علامة صِدقهم، قرَن الله بهذه العلامة علامةً تُعارِضها، وهي سلامة القميص من التمزيق؛ إذ لا يُمكن افتراسُ الذئب ليوسفَ وهو لابِسٌ القميصَ، ويَسلم القميصُ، وأجْمَعوا على أن يعقوب - عليه السلام - استدلَّ على كذبهم بصحَّة القميص، فاستدلَّ العلماء بهذه الآية على إعمال الأَمَارات في مسائل كثيرة من الفقه".
كما استدلُّوا بقوله تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26 – 27].
على جواز إثبات الحُكم بالعلامة؛ إذ أثبَتوا بذلك كذبَ امرأة العزيز فيما نسَبته ليوسف - عليه الصلاة والسلام.
ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في صحيحه: (الأَيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبِكر تُستأمر، وإذنها سكوتُها).
فجعَل صُماتها قرينة دالة على الرِّضا، وتَجوز الشهادة عليها بأنها رَضِيت، وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن.
كما سارَ على ذلك الخلفاء الراشدون والصحابة في القضايا التي عرَضت، ومن ذلك ما حكَم به عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعثمان - رضي الله عنهم، ولا يُعلَم لهم مخالفٌ - بوجوب الحدِّ على مَن وُجِدت فيه رائحة الخمر، أو قاءَها؛ وذلك اعتمادًا على القرينة الظاهرة.
ومن أدلة إعمال القرينة في القضاء، ما أورَده النسائي في سُننه، قال - رحمه الله تعالى -: "باب السعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يَفعله: أفْعَل؛ ليَستبين الحقُّ"، ثم ساقَ الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (خرَجت امرأتان معهما صبيَّان لهما، فعدا الذئبُ على إحداهما، فأخَذ ولدها، فأصبَحتا تَختصمان في الصبي الباقي إلى داود - عليه السلام - فقضى به للكبرى منهما، فمرَّتا على سليمان، فقال: كيف أمركُما، فقصَّتا عليه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّ الغلام بينهما، فقالت الصغرى: أتشقُّه؟ قال: نعم، فقالت: لا تَفعل، حظي منه لها، قال: هو ابنك، فقَضى به لها) ، وصحَّحه الألباني.
قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -:
"قال العلماء: يُحتمل أن داود - عليه السلام - قضى به للكبرى لشَبَهٍ رآه فيها، أو أنه كان في شريعته ترجيحُ الكبرى، أو لكونه كان في يدها، فكان ذلك مُرجَّحًا في شرْعه، وأمَّا سليمان - عليه السلام - فتوصَّل بطريقٍ من الحِيلة والملاطفة إلى معرفة باطنة القضيَّة، فأوْهَمها أنه يُريد قطْعَه؛ ليَعرف مَن يَشُقُّ عليها قطْعُه، فتكون هي أُمَّه، فلمَّا أرادَت الكبرى قطْعَه، عرَف أنها ليستْ أُمَّه، فلمَّا قالت الصغرى ما قالت، عرَف أنها أُمُّه، ولَم يكن مُراده أنه يَقطعه حقيقةً، وإنما أرادَ اختبار شَفَقتها؛ ليتميَّز له الأمَّ"، ثم قال النووي: "قال العلماء: ومثلُ هذا يَفعله الحاكم؛ ليتوصَّل به إلى حقيقة الصواب".
والقرائن عند القانونيين تنقسم إلى قسمين؛ قرائن قانونيَّة، وقرائن قضائيَّة:
والقرائن القانونية: هي التي استنبَطها المُقَنِّن الوضعي، مما يَغلب وقوعه من الحالات، فبنى عليها قاعدة عامَّة نصَّ عليها، فلا يُسوغ للقاضي أن يُخالفها.
وأمَّا القرائن القضائية، فهي استنباطُ القاضي لأمورٍ مجهولة من أمورٍ معلومة، وبعبارة أخرى: هي القرائن التي يَستنتجها القاضي باجتهاده وذكائه في موضوع الدعوى وظروفها، وهي متعلِّقة بالوقائع، وتَختلف حسب الظروف، وأمرُها متروك للقاضي.
أولاً: تصوير المسألة:
كما قلنا أنه يُقصد بالقرائن، الأمارات والعلامات، وهذه الأمارات وقائع مادية ظاهرة1 ومحسوسة ومقترنة بحق شخصي أو مدني أو جزائي، وعليه فهل تعتبر هذه الواقعة وسيلة من وسائل إثبات الحق، ورفع الجهالة عنه، أم لا تعتبر؟.
وهل تُعتبر القرينة، وسيلة من وسائل التَّرجيح والدفع؟.
والقرينة كواقعة مادية ظاهرة ومحسوسة، مقارنة للحق، ومتصلة به، منها ما هو قديم، ذكره الفقهاء في القديم كالحمل2، قرينة ودليل على واقعة الزِّنا، والبكارة قرينة تدفَع وقوع جريمة الزنا، ومنها ما هو حديث مرتبط بالتقدم العلمي، كبصمة الإصبع، والتشريح، والتحاليل المخبرية للبُقع الدموية والمنويَّة، والصور الفوتوغرافية، وتسجيل الأصوات.3
ويجدر التنويه هنا أن القرائن الحديثة مضبوطة بضابط شرعي يتمثَّل فيما يلي4:
1- أن تكون القرينة قوية، واحتِمال الخطأ فيها نادرًا.
2- أن تتَّصل القرينة بالحق اتصالاً مباشرًا، وأن يكون الارتباط قويًّا، لا انفِكاك له.
3- أن تكون القرينة مَشروعة؛ لأن القرينة وسيلة، والحق غاية الوسيلة، فلا يجوز الوصول بوسيلة غير مشروعة؛ لأنَّ الغاية لا تبرِّر الوسيلة، والقصد غير الشرعي، هادم للقصد الشرعي.
ثانيًا: تحرير محل النزاع:
أ- القرائن لها دور قوي في الاستئناس والتَّرجيح، وتعيين جانب أقوى المتداعين في الدعوى؛ وبناء على ذلك يحدد المدعي في الدعوى؛ ليكلف بالإثبات؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، كما أن القرينة تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل قناعة القاضي عند وزن البينات، وهذا أمر لا خلاف فيه؛ لأنه يستند إلى أصول الشريعة، ومنطق العقل5.
ب- القرينة تعدُّ وسيلة من وسائل دفع الدعوى أو التهمة؛ كالبكارة، وسيلة لدفع جريمة الزنا، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء؛ لأنه يستند إلى أصول الشريعة، ومنطق العقل، وخاصة في جرائم الحدود؛ لأن القرينة شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
جـ- اختلف الفقهاء في اعتماد القرينة، كوسيلة من وسائل إثبات الحقوق بشكل مستقلٍّ عن وسائل الإثبات الأخرى، وبهذا انحصر الخلاف بين العلماء6.
ثالثًا: منشأ الخلاف:
يرجع الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة إلى عدة أمور، هي:
أ -الأدلة الواردة فيها، أدلة ظنية، يتطرَّق إليها الاحتمال، تتَّسع للرأي والرأي الآخر.
ب-تعارض الأدلة الواردة في هذه المسألة.
جـ -الاختلاف في مدى تطبيق قاعدة الذرائع، يقول الأستاذ الزحيلي: "ولعل السبب في عدم تصريح الفقهاء بالقرائن هو الاحتياط والتحرُّز، وسد الذرائع، لأن استعمال القرائن يحتاج إلى صفاء الذهن، وحدة الفكر، ورجحان العقل، وزيادة التقوى والصلاح والإخلاص، وإلا انحرَف بها صاحبها، وأصبحت أداة للظلم، ووسيلة للاضطهاد والتعسف"7.
ويقول الشيخ محمود شلتوت:"ومما ينبغي المسارعة إليه، في هذا المقام، أن الناظر في كتب الأئمة، يرى أنهم مجمعون على مبدأ الأخذ بالقرائن في الحكم والقضاء، وأن أوسع المذاهب في الأخذ بها مذهبا المالكية والحنابلة، ثم الشافعية ثم الحنفية"8.
رابعًا: آراء العلماء في هذه المسألة:
اختلف الفقهاء في اعتماد القرائن وسيلة من وسائل الإثبات إلى فريقين:
الأول: يرى أن القرائن وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعًا، وينسب هذا الرأي إلى جماهير العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة9، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- الأدلة من القرآن الكريم:
وردت أدلة كثيرة في القرآن الكريم، تُشير بوضح إلى اعتماد القرائن الواضحة، وسيلة من وسائل الإثبات، ومنها:
أ- قوله تعالى: ﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].
وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
تُفيد الآية الكريمة أن إخوة يوسف عليه السلام أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم، لكن سيدنا يعقوب عليه السلام، لم يَقتنِع بدعواهم، وذلك لوجود قرينة أقوى، وهي عدم تمزق قميص سيدنا يوسف عليه السلام،10 وكيف يأكله الذئب، دون أن يمزِّق قميصه؟! وهذه قرينة قاطعة، تدل على بطلان دعواهم، ولهذا استدل سيدنا يعقوب عليه السلام على كذبهم، بصحة القميص، وهذا دليل على اعتماد القرائن، وسيلة من وسائل الإثبات، وشرع من قبلنا شرع لنا، إذا جاء في شرعنا، ولم يرفع أو يرد في شرعنا ما يغيره.
ب- قال تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 26 – 28] .11
وجه الاستدلال:
تفيد الآيات بوضوح اعتماد قدِّ القميص وسيلة لمعرفة الصادق منهما من الكاذب في دَعواه، وهذا دليل واضح على اعتماد القرائن القاطعة وسيلة من وسائل الإثبات، وشرْع مَن قبلَنا شرعٌ لنا إذا جاء في شرعِنا ولم يَرِدْ في شَرعِنا ما يغيره12.
2-الأدلة من السنة الشريفة:
وردت عدة أدلة، تدل على اعتماد القرائن وسيلة من وسائل الإثبات، نذكُر منها:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا تُنكَح البِكر حتى تُستأذَن)، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكُت) 13.
وجه الاستدلال بالحديث الشريف:
يفيد الحديث بوضوح أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد سكوت البكر قرينةً قاطعة على رضاها بالزواج.
ب- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أردتُ الخروج إلى خيبر، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسَقًا، فإذا طلب منك آيةً، فضع يدَك على ترقوته).14
وجه الاستدلال بالحديث:
الحديث يدل بوضح على اعتماد القرينة الواضحة وسيلة من وسائل إثبات الحق والصدق، في طلب المال من وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن وضع اليد على ترقوة الوكيل، علامة على صدق رسولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه المال من وكيله.
جـ- عن عبد الرحمن بن عوف، قال: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منَّا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس: فقلتُ: ألا إنَّ هذا صاحبكما الذي سألتُماني، فابتدراه بسيفَيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرَفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: (أيكما قتله؟)، قال كل واحد منهما: أنا قتلتُه، فقال: (هل مسحتُما سيفيكما؟) قالا: لا، فنظَر في السيفين، فقال: (كلاكما قتله) .15 والحديث سبق تخريجه على نحو مخالف لما سبق..
وجه الاستدلال بالحديث:
يدلُّ الحديث بوضوح أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في قضائه على وجود أثر الدم على السيف كقرينة على القتل.16
د- عن عبيد الله بن عتْبة أنه سمعَ عبدالله بن عباس، يقول: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلْناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمْنا بعدَه، فأخشى، إنْ طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على مَن زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف".17
وجه الاستدلال:
يفيد الأثر بوضوح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل حمل المرأة التي لا زوج لها، قرينة قاطعة على زناها يقام عليها الحد.18
3-وأما المعقول:
فإن عدم اعتماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، يؤدي إلى ضياع الحقوق، ويشجع المجرمين على إجرامهم، وهذا مآل محرم، فما يؤدي إليه يكون باطلاً، ويُثبت نقيضه وهو اعتماد القرائن وسيلة إثبات للحقوق؛ لأن المحافظة على الحقوق من مقاصد الشريعة،19 وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والفريق الثاني: يرى عدم اعتماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، وينسب هذا الرأي إلى بعض الحنفية وبعض المالكية.20
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أ- عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر).21
وجه الاستدلال بالحديث:
الحديث اعتمد البينة وسيلة لإثبات الحق، ولو كانت القرينة مُعتمدة لذِكرها الحديث، وعدم ذكرها دليل على عدم اعتمادها وسيلة من وسائل إثبات الحق.22
ب- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة، لرجمتُ فلانة؛ فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها).23
وجه الاستدلال بالحديث:
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقم الحد على المرأة بناءً على الظاهر، وهذا دليل واضح على عدم اعتماده صلى الله عليه وسلم القرينة وسيلة من وسائل الإثبات.
جـ- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شرب رجل فسكر، فلُقي يَميل في الفجِّ، فانطُلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى بدار العباس، انفلَت، فدخل على العباس فالتزَمه فذكَر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: (أفعلها؟) ولم يأمر فيه بشيء.24
وجه الاستدلال بالحديث:
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإقامة الحد على الرجل؛ لأنه لم يعتمِد قرينةَ سُكرِه دليلاً على ذلك، ولو كانت القرينة وسيلة إثبات؛ لأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد، بناءً عليها.
د- أما المعقول:
فإن القرائن وإن كانت قوية من حيث الظاهر قد يظهر بعد ذلك الأمر على خلافها، ويتطرَّق إليها الاحتمال، وتدور حولها الشبهات، وقد يترتب على الحكم بها الظلم والمفسدة، وهذا لا يجوز شرعًا؛25 عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم لمسلم مخرجًا، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يُخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة).26
خامسًا: رأي القانون المستمَدِّ مِن الفقه الإسلامي:
ذهبت معظم القوانين المستمَّدة من الفقه الإسلامي، إلى اعتماد القرائن، وسيلةً من وسائل إثبات الحقوق؛ على النحو الآتي:
أ- الكتابة.
ب- الشهادة.
جـ- القرائن.
د- المُعايَنة والخِبرة.
هـ- الإقرار.
و- اليمين.
ويستفاد مما سبق ما يلي:
أ- القرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وهي تُغني عن الوسائل الأخرى وتقوم مقامها، كالشَّهادة سواء بسواء.
ب- القرينة وسيلة من وسائل دفع الدعوى.
جـ- يُعطى القاضي سلطة تقديرية في استِنباط القرائن، وخاصَّةً عند وزْنِ البيِّنات، وتكوين القناعة بشهادة الشهود.
سادسًا - المناقشة والتَّرجيح:
إن المتأمِّل في أدلَّة المانعين لاعتماد القرينة وسيلة من وسائل الحق، يجد أنها يتطرق إليها الاحتمال والضعف سندًا ومتنًا، وخاصة فيما يتعلق بالقرائن؛ لأنها قرائن ضعيفة وليست قاطعة؛ ولهذا لا يُبنى عليها حكم، وبهذا تكون الأدلة خارج محل النزاع، ولا يجوز الاستدلال بها في هذه المسألة؛ لأنَّ القرينة المعتمَدة، هي القرينة القاطِعة، والأدلة التي استدلَّ بها المانِعون، تشير إلى القرائن الضعيفة، والتي لا يَجوز أن يُبنى عليها الحكم، وهذا أمر متَّفق عليه، ولهذا تكون الأدلة التي استدلَّ بها المانِعون خارج محلِّ النزاع، ولا يَجوز الاستدلال بها.
كما أن القرينة تعدُّ بيِّنة؛ لأنَّها تُظهِرُ الحقَّ وتبيِّنه؛ ولهذا تَندرِجُ تحت مفهوم قولِه – عليه الصلاة والسلام - البيِّنة على مَن ادَّعى؛ ولهذا يكون استدلال المانعين بهذا الحديث، استدلالاً في غير محلِّه؛ ويكونُ حجَّة القائلين باعتِماد القَرينة وسيلة من وسائل الإثبات.
وبناءً على ذلك، وتَحقيقًا لمقاصد الشارع في تحقيق العدالة وحفظ الحقوق، فإنِّي أميلُ إلى اعتِماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق الشخصية والمدنية والجزائية، إذا كانت قاطعةً ومشروعةً، ولا يتطرَّق إليها الاحتِمال للأَسباب التاليَة:
1- قوَّة أدلَّة القائلين بها.
2- ضَعفُ أدلَّة المانِعين.
3- تَحقيق مقاصد الشارع بإقامة العدْل وحفظ الحقوق.
4- ولأنَّها بيِّنة تندرِجُ تحت مَفهوم قوله عليه السلام: ((البيِّنة على من ادعى)).
5- ولأنَّ القوانين المستمَدَّة من الفقه الإسلامي اعتمدتْها وسيلة مِن وسائل الإثبات.
المراجع:
[1] الرازي: مختار الصحاح (ص: 533) ، والجرجاني: التعريفات (ص: 223).
[2] ابن فرحون: تبصره الحكام (2 / 93) ، والنووي: صحيح مسلم بشرح النووي (6 / 207، 208).
[3] د. سعيد بن درويش: طرائق الحكم (ص: 347) وما بعدها.
[4] د. محمد الزحيلي: أصول المحاكمات الشرعية والمدنية (ص: 205).
[5] د. البوطي: محاضرات في الفقه المقارن (ص: 195).
[6] د. محمد رأفت عثمان ورفاقه: الفقه المقارن (ص: 253) ، ود. عبد الكريم زيدان: نظام القضاء في الشريعة الإسلامية (ص: 219) وما بعدها.
[7] د. محمد الزحيلي: أصول المحاكمات الشرعية والمدنية (ص: 210).
[8] الشيخ محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة (ص: 540).
[9] الزيلعي: تبيين الحقائق (3 / 299)، وابن عابدين: رد المحتار (7 / 438)، وابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (7 / 205) وما بعدها، والقرافي: الفروق (4 / 167)، وابن فرحون: تبصرة الحكام (2 / 93)، والعز بن عبدالسلام: قواعد الأحكام (2 / 50)، وابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 4).
[10] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (9 (ص: 150) ، وابن العربي: أحكام القرآن (3 / 1077).
[11] الجصاص: أحكام القرآن (3 / 171) ، وابن العربي: أحكام القرآن (3 / 1084) وما بعدها.
[12] ابن فرحون: تبصرة الحكام (2 / 93).
[13] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (9 / 191).
[14] أبو داود: سنن أبي داود (4 / 47) ، والتَّرقُوَة: العُظيم بين ثغرة النحر والعاتق؛ انظر: الفيروز آبادي: القاموس المحيط (3 / 315).
[15] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (7 / 226).
[16] ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 11).
[17] النووي: صحيح مسلم بشرح النووي (6 / 206) ، 207).
[18] د. سعيد الزهراني: طرائق الحكم (ص: 343).
[19] ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 4) وما بعدها.
[20] ابن نجيم: الأشباه والنظائر (ص: 248) ، والقرافي: الفروق (4 / 65).
[21] الترمذي: سنن الترمذي (5 / 20) ، والبيهقي: السنن الكبرى (10 / 252).
[22] عبدالكريم زيدان: القضاء في الإسلام (ص: 222).
[23] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (15 / 488).
[24] سنن أبي داود (4/ 162).
[25] د. محمد رأفت عثمان: الفقه المقارن (ص: 297).
[26] البيهقي: السنن الكبرى (10 / 238).
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
الفرع الرابع
الطعن في الحكم القضائي
مصطلحات قانونية
معنى الطعن في الحكم القضائي: إبطال العمل بالحكم القضائي الأول، والعمل بالحكم الذي يراه حقا سواء كان ذلك حكمه أم حكم قاضٍ سبقه، وله عدة طرق منها الطرق العادية وهي المعارضة في الحكم أو الاستئناف أو بالنقض أو التماس إعادة النظر.
والاستشكال: هو الاعتراض على تنفيذ حكم قضائي مشمول بالصيغة التنفيذية إما بعريضة أو أمام المحضر وقت التنفيذ وقد يكون من المنفذ ضده الحكم أو ومن الغير.
والاستئناف: هو إعادة نظر الدعوى الجزئية أو الابتدائية أمام دائرة استئنافية. واستئناف الأحكام القضائية بعد الحكم للحكم مرة أخرى قبل تنفيذها سنّة ماضية لتصحيح الحكم متى ما كان خطأ، ولا تبرأ الذمّة إلا به، سواء كان من قاضِ آخر أو رجوعاً من نفس القاضي الذي أصدر الحكم أولاً، كما أن وظيفة الاستئناف لا تقف عند مراقبة صحة الحكم المستأنف، إنما يؤدى إلى إعادة الفصل في القضية من جديد من حيث الوقائع والقواعد الشرعية والنظامية أمام محكمة الدرجة الثانية " الاستئناف ".
والنقض: هو الطعن على حكم محاكم الاستئناف إذا شابها مخالفة في القانون أو خطأ في تطبيقه أو تأويله أو إذا وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر ذلك الحكم. ولا يترتب على الطعن بالنقض وقف تنفيذ الحكم ولكن يجوز لمحكمة النقض أن تأمر بوقف تنفيذه مؤقتاً إذا طلب ذلك في صحيفة الطعن وكان يخشى من التنفيذ وقوع ضرر جسيم يتعذر تداركه.
ومن أدلّة مشروعيّة النقض ما يلي:
1- في سورة يوسف نرى قضية الاستئناف واضحة بجلاء وذلك في قوله تعالى:
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ سورة يوسف: 50 – 52.
ففي الآية دليل على جواز الدفاع في أي وقت سواء اثناء النظر في القضية او بعدها فقد دافع يوسف عليه السلام عن نفسه عند القاء التهمه عليه قال تعالى ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي .......(26) ﴾.
وعندما ظن نجاة ساقي الملك قال تعالى ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ..(42) ﴾.
ودافع عن نفسه ايضا حينما أرسل له الملك قال تعالى ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ .........(50) ﴾.
فنقول هذا حق لا مرية فيه، ففي الشريعة الإسلامية ادله كثيره على مشروعية الدفاع عن النفس او العرض او المال او النسل او الدين.
كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مات دون عرضه فهو شهيد ومن مات دون ماله فهو شهيد..... الى اخر الحديث.
وعليه فإن ما يفعله المستأنف في المحاكم المصرية اليوم هو نفسه ما فعله يوسف عليه السلام.
2 ـ نقضُ سليمان لحكم داود عليهما السلام قبل تنفيذه وحكمُ سليمان بحكم آخر، وقد أقرّ الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم فقــــال: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ الأنبياء: 78-79.
قال ابن حجر: (وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن مسروق قال: كان حرثهم عنباً نفشت فيه الغنم، أي رعت ليلاً، فقضى داود بالغنم لهم، فمرّوا على سليمان فأخبروه الخبر، فقال: لا، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها ومنفعتها، ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردّوا عليهم غنمهم) (فتح الباري 13/148).
وقال ابن العربي عند تفسيره للآية الوارد فيها نقض سليمان لحكم داود عليهما السلام في ( أحكام القرآن 3/266 ) : ( في هذه الآية دليل على رجوع القاضي عمّا حكم به إذا تبيّن أنّ الحقَّ في غيره ).
3 ـ وقد يؤيد قاضي الاستئناف حكم الدرجة الأولى مثل ما حدث في قصّة الزُبْيَة – وهي الحفرة التي تُغطّى ليُصاد بها الأسد - ، فعن علي رضي الله عنه قال : (لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً ، فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ فِيهَا فَهَلَكُوا ، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ : أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ إِنَاسٍ! تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ رَفَعْتُمْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ.
فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعَةِ، فَسَخِطَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا.
فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى عَلِيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَضَاءُ كَمَا قَضَى عَلِيٌّ.
فِي رِوَايَةٍ: فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ عَلِيٍّ). روا أحمد وغيره، وصحّحه أحمد شاكر برقم 573، وساق الحديث محتجاً به ابن القيّم كما في (زاد المعاد 5/13، وإعلام الموقعين 2/58)، والمجد كما في المنتقى (2/699).
4- واستندوا أيضا على الدليل النقلي الآتي: (إن عمر أتى بامرأة زنت، فأقرت، فأمر برجمها، فقال علي: لعل لها عذرا؟ ثم قال لها: ما حملك على الزنا؟ قالت كان لي خليط ـ أي راع ترافقه إذا رعت إبلها، وفي إبله ماء ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن، فظمئت فاستسقيته، فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثا، فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج، أعطيته الذي أراد فسقاني، فقال علي: الله أكبر ﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ﴾. الإمام القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والأمام، ط2، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1995م، هامش ص55..
يستدل من هذه الرواية بأن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نقض الحكم القضائي الذي أصدره عمر، وهذا دليل عملي على جواز الطعن بالحكم القضائي.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
-
الفرع الأول
الحيل التي اتَّبعها [يوسف] مع اخوته.!.
إن ّ[احتيال] سيّدنا يوسف لأجل أخذ أخيه عنده، دون أمرٍ سلطوي، أو إشعارٍ لهم بحقيقةِ شخصه.
و [احتياله] لإبعاد الشكِّ عن تدبيراته من أجل أخذ أخيه.
و [احتياله] لهم حتى يقبلوا بشريعة أبيهم لكي يُبقي أخاه عنده.
كلُّ ما تقدَّم، أمرٌ يستحق التوقف والتأمل الفقهي، لأجل الوصول الى حُكمٍ في مسألةٍ هي من أخطر المسائل حسَّاسيَّةً، ألا وهي مسألة ما أطلق عليه، أو قل ما اصطُلِح عليه:( بالحيل الشرعيَّة).
إنّ الاصطلاح لا مناقشة فيه..
إذ: [لا مشَّاحة في الاصطلاح]، فالعبرة بحقيقة الأشياء لا بأسمائها، فاختلاف الأسماء لا يُغيِّرُ مِن حقيقة المسميَّات، وإن كان الأفضل تجنُّب الألفاظ المثيرة للإبهام والإيهام.
إنَّ لفظ [الاستحسان] أثار ما أثار بسبب الفهم المتعجل لمعناه، ولو رجعنا إلى مقصود أصحابه منه لَما قيل الذي قيل فيه وفي المتَّخذين له دليلا، وما زال ذلك غُصَّةً في حلوق الطرفين: القائلين به، والمنكرين له.
فلو اختار أصحابُهُ غيْرَ هذا الاسم لَمَا توَلَّد الالتباس، ولو تأنى مُنْكِرُه لما لِيِمَ على حُكمهِ، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ … فتبينوا ... ﴾ .
بعد هذا ينبغي أن نُشَخِّص (الحيلة) التي استعملها سيِّدُنــــا [يُوسف] عليه السلام، حتى نستطيع الحكم عليها بمقبوليَّةٍ أو رفضٍ، لكي يكون الكلام بعدئذٍ في مدى إمكان الأخذ بها في شريعتنا، رغم أنَّها وردت في قرآننا العظيم، على أنّها مِن تطبيقات الشرائع السابقة لشريعة نبيِّنا عليه أفضل الصلاة والتسليم.
لقد احتال لهم أول مرَّة:
﴿ فلمّا جهّزهم بِجَهازِهِم جَعَلَ السقاية في رحْل أخيه ثمَّ أذنّ مؤذّن أيتها العيرُ إنّكم لسارقون ﴾ فقد فعل هذا تمهيداً لاتِّهامهم بالسرقة.
ثم احتال لهم ثانيةً حين سألهم:
﴿ .. قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ﴾ يوسف:74.
فلما أراد أن يستبقي عنده أخاه، ولم يكن له من سبيلٍ في قانــون [الملك]، سألهم عن شريعة أبيهم [يعقوب] في مثل هذه الحالات، فأخبروه باسترقاق المسروق منه للسارق، إن ثبتت السرقة.
فاحتال لهم ثالثة:
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ ﴾ يوسف:76.
فإبعاداً للظن والتُهمة، بدأ بالتفتيش في غير رحل أخيه، أو وِعاء السارق المجازي، وهو أخاه. وهذا نوع [احتيال].
إنّ هذا الاحتيال امتدحه الله سبحانه وتعالى بكونه هو فعل الذين رفع الله سبحانه وتعالى درجتهم بالعلم:
﴿ .. نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ يوسف:76..
فكان (الكيد) - أي التدبير - من الله سبحانه وتعالى، هو الذي ألهم سيِّدنا يوسف ما فعل، ولولا فعل سيِّدنا يوسف لما أخذ أخاه، فهو ممن رفع الله درجته بهذا العلم !!..
إنَّ في هذه الآية من الأمور القانونية والفقهيَّة، أمور منها:
1- [احتيال] سيّدنا [يوسف عليه السلام]، بجعل السقاية في رحل أخيه، تمهيداً لاتّهامه بالسرقة، ومن ثم تنفيذ بقية ما رسمه في ذهنه !!..
2- [احتياله] بانتزاع رضاهم بتحكيم شريعة أبيهم [يعقوب] !..
3- [احتياله] بإبعاد الظنِّ منهم في كون الأمر مدبَّرٌ، فيبدأ تفتيشه برحالهم.
فهل: [الاحتيال] جائز للأنبياء فقط؟ أم هو جائز لنا ؟.
وهل: جوازُهُ أصلاً وابتداءً؟، أم عن طريق الرجوع إلى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنا ؟.. هذا هو موضوع المبحث الآتي.
الفرع الثاني
معنى الاحتيال.. وشروط الأخذ بها..
معنى الاحتيال
نقول: الاحتيال هنا بمعنى التدبير، وهو المسمى [بالمُخْرِج] الشرعي. وجمعه: مخارج، ومفرده على صيغة اسم الفاعل.
ولقد سميَّت المخارج كذلك، لأنَّها: تُخرج من الضيق الذي فيه المكلَّف، إلى السعة التي يبتغيها.
أمَّا الحيلة: فجمعها [الحِيَل]. وهي: الحذق في التدبير، وتقليب الفكر للوصول إلى المقصود.
وفي الشرع، لم يتعرض العلماء لوضع تعريفٍ اصطلاحي لها، ولذلك فقد عرفناها بأنَّها هي:
الطريق لوصول المكلف إلى مُبتغاه، من غير وقوعٍ في الحرام أو شبهته، ومن غير إبطالٍ لواجبٍ، أو خروجٍ على المقاصد العامَّة للشريعة، أو الأصول العامَّةِ المعتبرة.
يقول شمس الأئمة السرخْسي في المبسوط:
[ .. فإنّ الحيل في الأحكام المُخرجةُ عن الآثام جائز عند جمهور العلماء رحمهم الله، وإنما كَرِه ذلك بعض المُتقشِّفة لجهلهم، وقلَّة تأملهم في الكتاب والسنة ] .
نقلاً من: [ملحق كتاب الحيل لمحمد بن الحسن، طبعة ليبسك 1930، وأعادته بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد ] .
وجوازه ممّا ورد ذكره في هذه الآية، وفي مواضِعَ قبْلَها، ممّا يدل على جوازه في شرائع مَنْ قبلنا، وقد أوضحناها قبلاً بالتفصيل.
ويؤيده ما ورد في قصة سيدنا [أيوب] عليه وعلى نبيّنا السلام، حيث حلف في أشد حالات مرضه وشدته:
إن أحياه الله لَيَضْرِبَنَّ امرأته مائة جلدة!،وذلك لأمر ما عدّة كبيراً، ويستدعي منه الذي نذره، مِنْ وجهة نظره رغم أنَّها الوحيدة التي بقيت معه في محنته، فلمّا أنجاه الله، وقع في محنةٍ بين أمرين:
الأول: البِّر بيمينه، وهو نبيٌّ لا يُخالف، خصوصا بعد أن منَّ الله عليه بالشفاء، وزيادة المال والولد.
يقول تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ ﴾ الأنبياء:83-84.
الثاني: الوفاء لزوجه التي صاحبته في محنته، بعد تخلى الجميع.. فأخرَجَهُ الله من ذلك [بحيلة] علمَّها إياهُ، أو قل هو: [مُخْرِجٌ شرعيٌّ].
يقول تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ص:41-44.
أي: خُذ عُرجوناً قديماً ذا مائة شِمراخ، فاضرب زوجتك بخفةٍ، ضربةً واحدةً تعوّض عن المائة، فلا تُعدّ حينئذٍ حانثاً، بل بارّاً بقسمك، ولا تعُد متنكِّراً لمن فاض جميلُها عليك في وقت محنتِك. !!..
والحيل الشرعيَّة للأخذ بها شروطاً، وهي:
1- أن تُخرج من الضيق الى السعة.
2- ألاّ تُؤدى الى ضياع حقّ من حقوق الله، أو العباد.
3- ألا تُعارض أمراً قامت الحُجة على اعتباره في شريعتنا، أو قاعدةٍ من القواعد المعروفة في الشريعة، أو أصلاً من الأصول.
فمن ضياع الحقوق: أنْ يعلِّم بعض الماجنين من المفتين، من وجبت عليهم الزكاة، وبقي بينهم وبين شرط [حولان الحـول] أيام، يعلّمون أولئك بالتصدّق بجزء يسير يَثْلِم النصاب، مقابل سقوط الكثير.
فمن ملك عشرين مثقالاً من الذهب، فعليه نصف مثقال، فلو تصدّق [بحبةٍ]، فإنّ النصاب سوف يقلُّ عن حدِّه الأدنىِّ، وبالتالي فلا زكاة.. والفرق بين الحبة ونصف المثقال كثير!!..
وما قامت الحجة على مراعاته في شريعتنا: حرمة الربا، فقيام بعض الماجنين بتعليم المُقرضِين أن يبيع المقترض سلعةً نقداً، ثم يشتريها بثمن أعلى مُنَسَّئاً، فتعود له سلعتُهُ ويكونُ مديناً بالفرق بين الصفقتين، وهو في حقيقته ربا الاقتراض، المعروف بربا النسيئة.
فكل هذا وذاك هو من: [العلم الذي يُعلَم ولا يُعَلَّم]
وهو احتيال مرفوض، ويكون اُلمفتي من هذا القبيل، مستحقـاً للحَجْر.. أي: [المنع]، باعتباره واحداً من ثلاثة جوّز الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، الحجر عليهم، استثناءً من مبدئه في عدم الحجر بعد سن الخامسة والعشرين، وهم:
أ. [المفتي الماجن] الذي: يعلِّم الناس الحيل.
ب. [والمتطبب الجاهل] الذي: يؤذي الناس بجهله.
ج. [والمُكاري المفلس] الذي: لا يستطـيع الإيفاء بالتزامـاته، ويكتفي بأخذ المال مع عدم القدرة على الوفاء.
فالأخذ [بالحيل] أو المخارج، بشروطها، كان استدلالاً بفعل سيِّدينا: [يوسف، وأيوب] عليهما السلام.
وكلّ هذا من شرع من قبلنا الذي سكت عنه قرآننا، فأخذنا به لعدم مخالفته قاعدةً شرعيةً، أو نصاً من النصوص، أو أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.
ولهذا فقد استدلّ الأحناف لجواز [الحيل]، بما يأتي:
أ. من القرآن الكريم:
1- ما ورد عن سيِّدنا أيوب، وقد تقدم.
2-ما ورد عن سيِّدنا يوسف، مما نحن بصدده.
3-ما ورد على لسان سيِّدنا موسى، حين قطع وعداً للرجل الصالح، حيثُ قال:
﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ الكهف:69.
فقد احتال سيِّدنا موسى لنفسه، خشية عدم قدرته على الصبر، فأتى بالاستثناء، وهو قول:
﴿ إِن شَاءَ اللَّهُ ….. ﴾.
ولم يُعاتَبْ على ذلك، لأنه استعمل مُخْرِجاً صحيحا.. فلا يُعدُّ حانثا إن لم يَسْتطع الصبر !!..
ومن السنة النبوية الشريفة:
1- وفي مصنف عبد الرزاق عن غزوة الخندق:
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَكَانَ يَأْمَنُهُ الْفَرِيقَانِ، كَانَ مُوادِعًا لَهُمَا فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ عُيَيْنَةَ وَأَبِي سُفْيَانَ إِذْ جَاءَهُمْ رَسُولُ بَنِي قُرَيْظَةَ: أَنِ اثْبُتُوا، فَإِنَّا سَنُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيْضَتِهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ)
وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، فَقَامَ بِكَلِمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..... فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَيَّ الرَّجُلَ، رُدُّوهُ) فَرَدُّوهُ فَقَالَ: (انْظُرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكَ، فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ) فَإِنَّمَا أَغْرَاهُ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى عُيَيْنَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتُمْ مِنْ مُحَمَّدٍ يَقُولُ قَوْلًا إِلَّا كَانَ حَقًّا؟ قَالَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي لَمَّا ذَكَرْتُ لَهُ شَأْنَ قُرَيْظَةَ قَالَ: (فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: سَنَعْلَمُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مَكْرًا..
فَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّكُمْ قَدْ أَمَرْتُمُونَا أَنْ نَثْبُتَ، وَأَنَّكُمْ سَتُخَالِفُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيْضَتِهِمْ، فَأَعْطُونَا بِذَلِكَ رَهِينَةً فَقَالُوا: إِنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّا لَا نَقْضِي فِي السَّبْتِ شَيْئًا.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ إِنَّكُمْ فِي مَكْرٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَارْتَحِلُوا، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَأطْفَأتْ نِيرَانَهُمْ وَقَطَعَتْ أَرْسَانَ خُيُولِهِمْ، وَانْطَلَقُوا مُنْهَزِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿ وكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ الأحزاب.
وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة:
(1472 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: قَالُوا كَذَا، وَفَعَلُوا كَذَا، صَنَعُوا كَذَا فَذَهَبَ الْعَيْنُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَهُزِمُوا، وَلَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنْ قَالَ: أَفَعَلُوا كَذَا، أَصَنَعُوا كَذَا؟ اسْتِفْهَامٌ. قَالَ : فَذَكَرْتُهُ لِمُغِيرَةَ فَأَعْجَبَهُ قَالُوا : فَالَّذِي رَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَدِيعَةِ فِي الْحَرْبِ ، نَحْوُ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِيهَا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ الْقَائِلُ فِيهَا مِمَّا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ ، مُوهِمًا بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ مَا فِيهِ الْوَهَنُ عَلَى الْعَدُوِّ ، كَايَدَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ إِذْ أَخْبَرَهُ بِرِسَالَةِ الْيَهُودِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ : فَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ ، فَقَالَ قَوْلًا مُحْتَمِلًا ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْيَهُودَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا ، مِنْ إِرْسَالِهِمُ الرُّسُلَ فِيهِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَا أَرْسَلُوا بِهِ ، إِمَّا عَنْ أَمْرِهِ ، أَوْ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ . وَذَلِكَ، لَا شَكَّ، أَنَّهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا عَنْ أَحَدِ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ، إِمَّا عَنْ أَمْرِهِ، وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّدْقُ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا لَوْ قَالَ: إِنَّمَا أَرْسَلَتِ الْيَهُودُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَا أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَيْهِ، بِأَمْرِنَا إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، فَمِنَ الْكَذِبِ بِمَعْزِلٍ قَالُوا: وَمِنَ الْخَدِيعَةِ الَّتِي أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي الْحَرْبِ مَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَ قَوْمٍ وَرَّى بِغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَكَالَّذِي رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، كَانَ يَفْعَلُ أَهْلُ الدِّينِ وَالْفَضْلِ فِي مَغَازِيهِمْ، قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ مَا) الحديث بطوله. تهذيب الأثار للطبري.
(فَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ).
قَالُوا: وَمِنَ الْخَدِيعَةِ الَّتِي أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي الْحَرْبِ مَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَ قَوْمٍ وَرَّى بِغَيْرِهِمْ.
وكان ذلك منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكتساب حيلة، ومُخرج من الإثم، بتقييد الكلام [بلعلَّ].
2- من كتاب المبسوط للسرخسي الصادر عن دار المعرفة
[كِتَابُ الْحِيَلِ]
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ....
قال:
فَإِنَّ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ الْكِتَابِ - قَوْله تَعَالَى - ﴿ : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ﴾ [ص: 44] هَذَا تَعْلِيمُ الْمَخْرَجِ لِأَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً، فَإِنَّهُ حِينَ قَالَتْ: لَهُ لَوْ ذَبَحْتَ عَنَاقًا بِاسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْرَدَهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ تَعَالَى -:
﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾ [يوسف: 70] إلَى قَوْلِهِ ﴿ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76] وَذَلِكَ مِنْهُ حِيلَةٌ، وَكَانَ هَذَا حِيلَةً لِإِمْسَاكِ أَخِيهِ عِنْدَهُ حِينَئِذٍ لِيُوقِفَ إخْوَتَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ.
وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ﴿ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69] ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ سَلَامَتَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مَخْرَجٌ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - ﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ﴾ [الكهف: 23] ﴿ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 24] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اكْتِسَابُ حِيلَةٍ وَمَخْرَجٍ مِنْ الْإِثْمِ بِتَقْيِيدِ الْكَلَامِ بِلَعَلَّ «وَلَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلِّمْ أَخَاكَ ثُمَّ تَزَوَّجْهَا» .
وَهَذَا تَعْلِيمُ الْحِيلَةِ وَالْآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، مَنْ تَأَمَّلَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَجَدَ الْمُعَامَلَاتِ كُلَّهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ امْرَأَةً إذَا سَأَلَ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ تَزَوَّجْهَا، وَإِذَا هَوِيَ جَارِيَةً فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ: اشْتَرِهَا، وَإِذَا كَرِهَ صُحْبَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا قِيلَ لَهُ طَلِّقْهَا.
وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا إذَا نَدِمَ وَسَأَلَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُ رَاجِعْهَا؟ وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا إذَا تَابَتْ مِنْ سُوءِ خُلُقِهَا وَطَلَبَا حِيلَةَ قِيلَ لَهُمَا الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَيَدْخُلَ بِهَا فَمَنْ كَرِهَ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يَكْرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحْكَامَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً فَمَا كَانَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا أَوَّلًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] فَفِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلسَّائِلِ لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى» .
ثمَّ أورد أدلةً أخرى، تجدها مبسوطةً في المبسوط، ولو استوفيناها لخرجنا عن المقصود.
لقد أكثر الأحناف من استعمال [الحيل]، حتى ظنَّ الظانُّون أنهـم في أحكام الدين متساهلون !!، وليس الأمر كما يُخيل للبعض، بل هو استعمالٌ للمخـارج توسعةً على المكلفين، على النحو الذي بينَّاه، وليس من السهل أن يتضح الأمر لكل أحدٍ، خصوصاً بعد شيوع استعمال لفظة (الحيلة) في غير الممدوح من الأمور.
ومن شدة اهتمامهم بهذا الفن من فنون الفقه، وهي متنوعةٌ، فقد أفرده بالتأليف الإمام: محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمام أبي حنيفة، والذي حفظ أصول مذهبه وفروعه، بكثرة مدوَّناته المتداولة، وسمَّى كتابه ذاك (المخارج في الحيل).
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
-
-
الفرع الثاني
أدلة براءة يوسف عليه السلام
نسوق خمسة عشر دليلاً على براءة يوسف عليه السلام
الدليل الأول
لو أن يوسف عليه السلام قد مال إلي امرأة العزيز، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة، فلماذا أعرض منذ البداية عندما راودته؟ ، ولماذا لم يحدث والطريق ممهد له بغلق الأبواب ؟ ، وامرأة العزيز في كامل زينتها، ولم يكن معهما أحد، وزيادة على ذلك أنها هي التي دعته إليها.
الدليل الثاني
لماذا ذكرها يوسف بالله، ثم بالرجل الذي رباه، ثم بسوء العاقبة بعد ذلك، أم أنه كان اعتراضا واهيا؟.
الدليل الثالث
لماذا كان همها هي سابقا لهمه للفعل؛ إن كان قد مال إليها وخارت قواه أمام إغراءاتها؟.
فالأولى إن كان ضعف أمامها أن يكون هو المبتدي بالهم، وتكون الآية (وهم بها وهمت به) لأن المرأة لها صفة الإغراء والدعوة، وتترك للرجل أن يبدأ هو بباقي الأمور من بداية الهم حتى النهاية.
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ يوسف: ٢٤
المتأمل في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾، أي كان همها سابقا لهمه.
ونعود لسؤالنا: لماذا كان همها هي سابقا لهمه؟.
هناك سببان لهمها:
السبب الأول: أنها قد وجدت فيه ضعفا فأرادت أن تشجعه وتخرجه من حالة الضعف هذه.
السبب الثاني: أنها قد وجدت فيه إعراضا قويا فأرادت أن تجبره على الفعل بالقوة.
فإلي أي السببين نميل؟.
وهذه هي إحدى الدلائل القوية على براءة يوسف من الهم بها لعمل الفاحشة، وأن يوسف أصلا لم يمل إلى امرأة العزيز ولم تحدثه نفسه بعمل الفاحشة.
وعلينا أن نذكر هنا أيضا أن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ ، والمدقق في قوله تعالى يلاحظ أنه جل علاه لم يقل ] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا]،..
فلماذا قال سبحانه وتعالى ] وَلَقَدْ]؟.
لأن كلمة ] وَلَقَدْ]، تأتى هنا لتعطى إحساسا بقوة الهم منها ولتأكيده.
أما قوله ﴿ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾،.. فقط، فتعطى انطباعا برعونة الهم بينهما وأنه من المحتمل أن يكون عليه السلام قد مال إليها بالفعل.
الدليل الرابع
تربية يوسف في بيت امرأة العزيز منذ صغره عندما عهد به العزيز إلى زوجته فكان عمره لم يتعدى أصابع اليد الواحدة، وتربى يوسف في بيت المرأة، وكبر يوسف وهو يجعلها مثل أمه، فهل إذا تربى أحد في بيت ما منذ صغره؟ فهل عندما يكبر سيميل شهوانيا إلى من ربته مهما كانت المغريات ؟، اللهم إلا إذا كانت تربيته كانت سيئة، وهذا البيت سيء، فقد يكون بيت العزيز سيئا، فهل كانت تربية يوسف عليه السلام سيئة ؟، إن يوسف عليه السلام قد تربى على أعين الله سبحانه وتعالى يؤيد هذا قوله تعالى في يوسف 21:
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يوسف: ٢١.
وقوله تعالى 22: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ يوسف: ٢٢.
الدليل الخامس:
اعتصامه بالله وتذكيره لامرأة العزيز بأن ربه لا يرضى بهذا الفعل ولم يأمر به:
قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ يوسف: ٢٣
ولك أن تتأمل قول يوسف عليه السلام في هذا المقام: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ﴾..
ثم تذكيره لها بزوجها الذي له الفضل عليه وعليها ﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾.
ثم وصل به الأمر إلى أن يهددها بعاقبة الأمور ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.
كل هذا في وقت واحد، وموقف واحد، ولا يوجد فترة زمنية للتروي ومراودة النفس للفعل، ثم ينقلب الموقف فجأة وبدون مقدمات ليهم بها لعمل الفاحشة، كيف هذا؟ مع أن كل الذي قاله يوسف من أعذار شديدة، مقدمات لعدم الفعل.
الدليل السادس
حديث النفس للفعل يأخذ وقتا ومراودة مع النفس حتى يقتنع الإنسان بعمل الشيء، والموقف مع امرأة العزيز لم يأخذ وقتا حتى لمراودة النفس.
الدليل السابع
اختلاف العلماء والمفسرين في البرهان الذي أعطاه الله ليوسف ولم يدل حديث شريف على هذا البرهان، ولكنه اجتهاد علماء ومفسرين ليس له دليل قاطع.
والبرهان كما يقول الإمام الشعراوي في خواطره: هو الحجة على الحكم.
أو هو الإثبات بدليل، والدليل إما أن يكون بالقرآن واضحا، أو من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بالاستنباط من القرآن أو السنة النبوية الشريفة أو منهما معا، ونحن هنا نتكلم عن نبي له عصمته من الله سبحانه وتعالى فيجب أن يكون كلامنا مدعم بكل ما سبق.
فيقول رب العزة: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ يوسف: ٢٤.
﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي من أجل أن يوسف صبر على فتنة امرأة العزيز ولم يميل إليها وساق إليها الحجج لكيلا يفعل الفاحشة معها واعتصم بالله، فإننا سنصرف عنه سوء يصيبه من وراءها، وسنعود لهذه النقطة فيما بعد. ﴿ لِنَصْرِفَ ﴾ لنبعد.
﴿ السُّوءَ ﴾ هو وصم الإنسان بعمل شائن، أو بصفة تشينه، مثل انه (سارق ـ زان ـ كاذب ـ مرتش.... الخ)، أو أن نقول عنه أنه حاول أن يفعل كذا، مما يصيبه هذا السوء، كأن نقول مثلا أن هذا الشخص سرق أو حاول السرقة فإننا بهذا نكون قد أسأنا إليه، وذلك لينال عقوبة ما، إما في سمعته وهذه إساءة نفسية أو في بدنه.
﴿ وَالْفَحْشَاء﴾ هي فعلة الزنا حيث يقول رب العزة:
قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ الإسراء: ٣٢.
الدليل الثامن
علينا هنا أن نقرأ الآية جيدا: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ يوسف: ٢٤.
وعليه فإننا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا أنزل الله الآية بهذا المنطوق وبهذا الترتيب؟، أي قدم صرف السوء على الفحشاء، وفي هذا ملمح مهم:
إن كان يوسف قد مال إلى امرأة العزيز، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة، ثم رأى برهان ربه الذي منعه عن الفعل، فإن الله في هذه الحالة قد صرف عنه فعل الفاحشة.
ويكون منطوق الآية: ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ َالْفَحْشَاء) فقط.
وأما إذا كان الله يريد أن يصرف عنه الفحشاء كي لا يصيبه سوء بعد ذلك، فإن منطوق الآية يكون:
(لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْفَحْشَاء والسُّوءَ)، لأن الفحشاء هنا مقدمة في محاولة الفعل على السوء الذي كان سيصيبه بعد ذلك. ولأن الله هو المتكلم فإن كل أية، وكل كلمة، بل وكل حرف في القرآن الكريم موضوع بحساب وميزان دقيق، لكي يؤدى المعنى والغرض الذي يريده الله منه ويهدف إليه.
إذا فعلينا أن نعمل عقولنا، ولنقرأ الآية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ يوسف: ٢٤.
ونعود لسؤالنا لماذا قدم الله السوء على الفحشاء؟
والإجابة في الآية التالية والله تعالى أعلم.
قال تعالى: ﴿ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يوسف: ٢٥
فإن كان يوسف قد مال إليها، وحاول فعل الفاحشة، فإنه قد أراد بأهل العزيز سوءا بالفعل، ومحاولة خيانة العزيز في أهله، مهما كانت هي أغوته أو لم تغوه.
ولأنه لم تحدثه نفسه بهذا، فإن الله قد صرف عنه هذا السوء بإظهار براءته:
قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ يوسف: ٢٨
ويأتي تأكيد براءته في الآية التالية على لسان العزيز نفسه، قال تعالى: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ يوسف: ٢٩
وعلى هذا فإن السوء الذي سيصيب يوسف يأتي من فرية تفتريها عليه امرأة العزيز في جريمة لم يرتكبها ولم يفكر فيها. هذا عن السوء، ولكن ماذا عن الفحشاء؟
الفحشاء يأتي ذكرها في الآية33من نفس السورة: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾ يوسف: ٣٣
وذلك بعد أن تكالبت عليه النسوة، وهددته امرأة العزيز بالعقاب إن لم يفعل معها الفاحشة:
قال تعالى:
﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾ يوسف: ٣٢
ويأتي صرف الفحشاء في الآية 34حيث قال رب العزة :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)﴾ يوسف: ٣٤
لبى الله نداء يوسف واستغاثته به حيث يقول رب العزة في سورة النمل 62:
﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62)﴾ النمل: ٦٢
وكأنني أشعر أن هذه الآية قد أنزلت في نبي الله يوسف خاصة لأنه فعلا كان في حالة المضطر المستغيث، ولأن يوسف عليه السلام لم يكن في حالة استغاثة أو اضطرار في قوله:
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾ يوسف: ٢٣
لأنه كان في حالة تنبيه وتذكير لامرأة العزيز ، ولم يكن هناك اضطرار إلي الاستغاثة والركن الكامل ، ولكن كان أمامه خيارات كثيرة ، ووقت متسع ، وحيل للهرب من الموقف الذي كان فيه من قبل .
أما في هذا الموقف فان يوسف قد أحيط به، ولا يوجد مخرج له، فإما الفعل، أو السجن والصغار، ولا يوجد خيار أخر، فكان لابد من الركن إلي الله وهو مضطر.
وهنا يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن العبد يجب عليه أولا أن يعمل عقله الذي خلقه الله له في الأزمات للخروج منها ، فإذا ما استعمل الإنسان عقله ، فان الله سيهديه إلي برهان للخروج من مأزقه ، كما فعل يوسفu وهداه الله لحيلة الهروب إلي الباب ، ولكن إذا استنفذ العبد كل حيله وأحيط به ، فعليه أن يلجأ إلي من هو أقوى منه ومن الموقف الذي هو فيه ، فان الله سبحانه وتعالى سيخرجه منه بقدرته ولكن أن نركن إلي الدعاء فقط ولا نحاول أن نفكر للخروج من مما نحن فيه ، ونقول أن الله سبحانه وتعالى سيخرجنا مما نحن فيه ، فهذا يعتبر تواكلا .﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)﴾ يوسف: ٣٤
فصرف الله عنه ما كانت امرأة العزيز والنسوة يمكرون على فعله معه.
أما كيف صرف الله عنه كيد النسوة ، فهي من آيات الله التي لم يبين لنا أحد من المفسرين وعلمائنا الأجلاء كيف صرف الله هذا الكيد.
ظهر للعزيز وحاشيته أن يوسف بريء، وأن أخلاقه، وأدبه، ودينه لا غبار عليه، ولكن وجوده فيه فتنة على نسائهم، إذا فعليهم أن يتخذوا موقفا لدرء هذا الخطر.
وكان القرار حبس يوسف عليه السلام فترة من الزمن حتى تموت هذه الفتنة.
الدليل التاسع شهادة إبليس نفسه عليه اللعنة ليوسف عليه السلام.
قال تعالى في الآية التي نحن بصددها:
﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾ يوسف: ٢٤، والمخلصين كما قال العلماء إما بفتح اللام، وهم من استخلصهم الله لنفسه أو بكسر اللام، وهم الذين اخلصوا دينهم لله.
فهل عبد مخلص لله، أو استخلصه الله لنفسه، يقع بالتفكير في معصية أو فاحشة ويقع في براثن الشيطان، مع أن الله يقول في كتابه الكريم على لسان الشيطان في سورة ص:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)﴾ ص: ٨٢ - ٨٣
فاستثنى لعنة الله عليه عباد الله المخلصين من مجرد الغواية فيقول القرطبي:
فمعنى: ﴿ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ﴾ لاستدعينهم إلى المعاصي.
ويقول الإمام الشعراوي:
وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائما بالغواية، فالشيطان نفسه يقر أن من يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز هو كشيطان عن غوايته ولا يجرؤ على الاقتراب منه. والغواية هي وقوع المعصية في النفس وإن لم يفعل.
ويوسف عليه السلام نبي أخلص الدين لله، واستخلصه الله لنفسه، فكيف يقع في براثن الشيطان ويميل إلى امرأة العزيز ويهم بعمل الفاحشة معها.
الدليل العاشر عصمة الأنبياء
إن الله قد عصم الأنبياء جميعا من مجرد الوقوع في الخطيئة، أو الاقتراب منها، أو التفكير فيها ، ولكن جل تفكيرهم في عظمة الله سبحانه وتعالى ، واخذ الأشياء بحلالها وليس بحرامها مهما كانت المغريات ، لأن الله جعلهم قدوة وأسوة للبشر في أفعالهم ليقتاد بهم الناس ، فإن كان يوسف عليه السلام قد حدثته نفسه بفعل الفاحشة ، فإن هذا يكون دليلا لكل إنسان ضعيف الإيمان تحدثه نفسه بالفاحشة ويذعن لها ثم يجعل لنفسه حجة بأن الله لم يريه دليلا أو برهانا للكف أو الابتعاد عنها كما أرى يوسف برهان ربه فارتدع وابتعد .
وبعد كل ما ظهر من الأدلة السابقة واللاحقة في أن يوسف عليه السلام لم يهم بعمل الفاحشة مع امرأة العزيز ولم يفكر فيها.
إذا فعلينا أن نعرف ما الذي حدث أو على الأقل نتصوره، وقبل هذا علينا أن نحلل البرهان بعد أن عرفنا معناه.
قلنا من قبل أن البرهان هو كما قال الإمام الشعراوي، هو الحجة على الحكم، أو هو إثبات الشيء بدليل، أي أن البرهان هو دليل إثبات لقضية أو لحكم.
فإما أن يأتي ماديا ليثبت هذه القضية.
أو أن يأتي عقليا: كأن تنشغل بقضية ما تهمك ولا تجد لها حلا، فتهم بعمل ما قد يكون فيه ضرر لك، ولكن تأتى إليك فكرة أخرى للخروج من هذا المأزق أو هذه القضية، فتقول لقد كدت أن أفعل كذا، لولا أن الله ألهمني لأبتعد عن هذا الفعل وأفعل غيره.
ونقول كما قال العلماء والمفسرين، لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكن هم بماذا؟
فإن الهم هنا، هو القضية التي تباحث فيها العلماء، وأدت إلي الفهم بأن هم يوسف هو لفعل الفاحشة.
ولنتصور ما حدث على ضوء الأدلة:
اشتد إلحاح امرأة العزيز على يوسف عليه السلام وزاد سخطها وغضبها، فماذا تفعل مع هذا الرجل الواقف أمامها، وتطلب منه فعل لو طلبته من الملوك لأجابوها إليه، ولكن أمامها نوع آخر من الرجال لم يرفض طلبها وحسب، ولكنه يناطحها بالحجج التي تمنعه من الفعل.
فما كان عليها إلا أن تجبره على الفعل ولو بالقوة، فهمت بالانقضاض عليه لتمسكه من قميصه مِنْ قُبُلٍ (أي من الإمام) لتشده إليها أو لتجذبه نحوها، (وعندما نقول همت معناه أنها لم تصل إليه بعد ولم تمسكه)، فما كان من يوسف إلا أن هم ليردها عنه، ويدافع عن نفسه، وكاد أن يلمسها من قميصها، عندما وجد في وجهها هذا الهم ولكن جاءه إلهام رباني (البرهان):
أن يا يوسف لا تمدن يدك عليها لتدفعها عنك، ولا تلمسها، ولكن أدر لها ظهرك بسرعة، واهرب من أمامها، واتجه إلى الباب، فإنا منجوك من سوء يلحقك إن لمستها، ودليل ذلك القميص وسيأتي شرحه وتوضيحه في الآية التالية 25:
قال تعالى:
﴿ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)﴾ يوسف: ٢٥
بسرعة أدار يوسف ظهره لامرأة العزيز وولى هاربا إلى الباب ليفتحه، فوجدت امرأة العزيز نفسها في موقف لا تحسد عليه، إن خرج يوسف من هذا المكان سيفتضح أمرها، ولن يفعل ما تأمره به وهي في هذه الحالة من السعار، ولن يكون لها القدرة بعد ذلك في التعامل معه.
إذا ماذا تفعل؟ عليها أن تمنعه من الهرب، وعليه أن يفعل ما تأمره به، لكيلا يستطيع بعده إفشاء سرها.
بسرعة جرت وراء يوسف لتمنعه من الخروج، وتمنعه من الباب، فأمسكت بقميصه من الخلف لتجذبه إلى الوراء، ولكن يوسف شاب وقوى، فمع اندفاع يوسف وجذبها للقميص من الخلف، انحنى ظهر يوسف للأمام ليعطى نفسه قوة في الاندفاع للهرب ومعالجة الباب لفتحه، انقطع القميص من الخلف وتمكن يوسف من فتح الباب.
وكانت المفاجأة، فإذا بزوجها أمام الباب.
أدركت امرأة العزيز أنها في ورطة وإن لم تخرج منها بسرعة فسوف يدرك زوجها ما حدث.
رجل يفتح الباب، وهذا الرجل ليس ككل رجال القصر، إنه يوسف الذي رباه ويعرف أخلاقه.
وامرأته وراءه وليست أمامه، والمنظر العام ليس حسنا.
إذا فعليها أن تخرج بسرعة من هذه الورطة، فكان لابد من استحضار مكر المرأة وخداعها، واستثماره في هذه اللحظة لتبعد عنها الشكوك ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ، يوسف 25.
ألقت على يوسف تهمة هو بريء منها فألحقت به سوءًا، باتهامه بمحاولة فعل الفاحشة معها.
وأرادت به سوءًا بأن يسجن أو يعذب.
وهذه قدرة عجيبة في الخروج من المأزق الذي صنعته هي، ثم تلحق التهمة بالبريء، ثم تحدد العقوبة، بل وتفرضها على زوجها لكيلا يتحقق مما حدث، ولتجعله يصدقها.
الشاهد
قال تعالى: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِيوَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26)﴾ يوسف: ٢٦
وجد يوسف نفسه قد تورط في قضية لم يكن هو السبب فيها، فلم يفعلها، أو يسعى إليها، أو يفكر فيها أصلا.
ذهل يوسف من القدرة الغريبة في لي الحقيقة، وهذا ما نقابله ونعيشه في هذه الأيام من لي في الحقائق، فأصبح البريء متهما ، والمجرم بريئا، وأكل الحقوق افتخارا، وضاعت الحقوق بين الناس ، وامتلأت المحاكم بالقضايا ومحامون درسوا القانون ليتلاعبوا به وبألفاظه ، وليس للدفاع عن المظلوم وإعطاء الحق لأصحابه ، وهم يعلمون الحقيقة من موكليهم ، فماذا يا ترى سيفعل الله بهم يوم القيامة ، أفيقي يا أمة الإسلام .
فلم يكن أمام يوسف من دفاع عن نفسه إلا جملة واحدة ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾
إننا نجد هنا أن يوسف قد بدأ كلامه بكلمة ﴿ هِيَ ﴾
أي بضمير الغائب كأنها غير موجودة ولم يزد أو يسترسل في حديث طويل لا طائل من ورائه، وفيه أدب، ووجه كلامه إلي من اتهم عنده، ومن يهمه الأمر، ولم يلتفت إلي المرأة، لأنها ابتدأت الحديث بالكذب، فلم يوبخها، أو يؤنبها، أو يكذبها، ولم يقسم بأنه لم يفعل هذا الأمر ولكنه أوجز في الحديث
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾.
صمت العزيز ولم يتكلم، إنه في موقف صعب، هناك تعارض في القول، فكلا الطرفين عزيز عنده.
المرأة: زوجته.
ويوسف هو من رباه ويعرف أخلاقه.
وكلاهما قريب من نفسه، فماذا يفعل؟.
إن صدق زوجته في اتهامها ليوسف، وأصدر حكمه كما أمرت زوجته، ثم تظهر براءة يوسف بعد ذلك فقد يندم على حكمه الظالم، ولكن الموقف الذي رآه فيه شك من كلام زوجته.
وإن صدق يوسف في دفاعه عن نفسه، قد تكون زوجته صادقة في اتهامها.
﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26)﴾ يوسف: ٢٦
فكان لابد من عرض الأمر على شخص قريب منه، على درجة عالية من الحكمة والعقل، ويزن الأمور بميزان الحق والعدل ويطمئن إلي حكمه.
ليس هذا فحسب ولكن يجب أن يكون قريبا لزوجته أيضا، أي من أهلها، لأنه سيكتم فضيحتها إن كانت هي المخطئة، وإن كان يوسف هو المخطئ فسوف يحكم عليه وينتهي الأمر.
تم عرض الأمر على الشاهد أو من سيعطى حكمه في هذه القضية.
فماذا قال الرجل: ﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ(26)﴾ يوسف: ٢٦
أي أن القميص الذي يرتديه إن كان قطع من الأمام، فإنها تكون صادقة في كلامها، لأنه في هذه الحالة تكون المواجهة، ويكون هو مقبلا عليها ومحاولا الاعتداء عليها، وتكون هي مدافعة عن نفسها ، فتدفعه عنها ، فيقطع القميص من الإمام ، ويكون هو كاذبا في هذه الحالة.
الدليل الحادي عشر الشاهد مرة أخرى
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27)﴾ يوسف: ٢٧
أي وإن كان القميص قطع من الخلف، فإنها تكون كاذبة في ادعائها، وكان هو صادقا في كلامه، وبرهان ذلك أن ظهره كان لها وهي وراءه.
فما الذي دفعها لتقطع قميصه من الخلف.
اللهم إلا إذا كانت هي الطالبة له، وهو في حالة فرار منها، مما أدى إلى قطع القميص من الخلف من شدة اندفاعه وفراره منها.
أليس هذا دليل دامغ وبرهان ما بعده برهان، على أن برهان ربه هو إيحاء من الله إلى يوسف، بعدم الدفاع عن نفسه، وألا يلمس المرأة، ولكن عليه أن يعطى لها ظهره بسرعة ليهرب من أمامها.
لأنه في هذه الحالة كان ستحدث مواجهة بين الاثنين (يوسف وامرأة العزيز)، فكانت ستمسك به من الأمام وسيحاول هو الإفلات منها مما كان سيؤدى إلى قطع القميص من الأمام.
وعلينا أن نتصور ما كان سيحدث إن كان يوسف قد مال إليها وهم بالمعصية:
فهل كانت ستتركه بعد هذا الهم، وأصبح في متناول يديها ؟.
أم أنها كانت ستقبض عليه بسرعة قبل أن يذهب من أمامها، وتمسك بقميصه من أمام ويكون هناك مشادة بينهما وتكون مواجهة، وكان سيقطع القميص من قبل.
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى، أن يضع برهان البراءة في آية منفصلة، ولم توصل بالآية السابقة، لنتدبر آياته سبحانه، ولا نمر عليها مر الكرام.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى علمنا كيفية استنباط الأحكام بالأدلة المادية والعقلية.
قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)﴾ يوسف 28.
وجد العزيز نفسه أمام موقف يجب أن ينسى، ولا يذكر مرة أخرى، وإلا سينتشر الأمر، وستكون فتنة، وتلوك الألسن سيرة زوجته، وسيرته وقد يفقد منصبه جراء ذلك، فأراد أن تموت هذه الفتنة في مهدها، وليحمى سمعته من القيل والقال، بحيث تكون الأمور طبيعية وهذا من طبيعة علية القوم دائما.
من هنا اتخذ العزيز موقفه لكيلا يفتضح بيته، فقال ليوسف بصيغة الأمر:
﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)﴾ يوسف: ٢٩
﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا﴾، أي عليك يا يوسف أن تنسى هذا الأمر نهائيا ولا تحدث به أحد.
ثم وجه حديثه لامرأته موبخا إياها: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ أي اطلبي الصفح والعفو والغفران لأنك أذنبت ذنبا شديدا.
لأنه ما كان لك وأنت امرأة العزيز أن تقعي في مثل ما تقع فيه سائر النساء.
الدليل الثاني عشر
قول الإمام الشعراوي تعقيبا على الآية السابقة:
وبهذا القول من الزوج أنهى الحق سبحانه هذا الموقف عند هذا الحد، الذي جعل عزيز مصر يقر أن امرأته قد أخطأت ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر ليكتمه.
مكر النسوة
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)﴾ يوسف: ٣٠
انتشر الخبر في المدينة بالكيفية التي أخبر بها العلماء، وبدأت النسوة تتكلم وتلوك سيرة امرأة العزيز
﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾
وكلمة ﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ﴾ هي إكبارا لها وتصغيرا لفعلها.
إكبارا لها لكونها امرأة العزيز، وتصغيرا، لأنها وهي في هذه المكانة العالية، وتطلب فعل الفاحشة مع أحد الخدم في القصر.
ولأن فعلها هذا يضعهن في موضع الحرج أمام خدمهن وعلى هذا قلن:
﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي أنها لا يمكن أن تفعل هذا الفعل، إلا إذا كان حبه قد تمكن منها، ووصل هذا الحب إلى شغاف قلبها، وحبها هذا قد أوصلها إلى الضلال، ولم تعد تدري ما تفعل.
يقول فضيلة الشيخ الشعراوي في خواطره: وما قلناه هو الحق، لكنهن لم يقلن ذلك تعصبا للحق أو تعصبا للفضيلة، ولكنه الرغبة للنكاية بامرأة العزيز، وفضحا للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز.
وأردن أيضا شيئا آخر، أن ينزلن امرأة العزيز من كبريائها، وينشرن فضيحتها فأتين بنقيضين، لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
وقالت النسوة: ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ﴾.
وقسم فضيلته الحب إلى منازل:
(الهوى ـ التعلق ـ الكلف ـ العشق ـ التدله ـ الهيام ـ الجوى) وقد شرحها فضيلته بإسهاب في خواطره.
قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾ يوسف: ٣١
وصل إلى امرأة العزيز ما تناقلته نسوة كبار القوم، وعلمت أنهن يمكرون بها ويسيئون إليها في أحاديثهن.
ويستمر الإمام الشعراوي في قوله:
المكر هو ستر شيء خلف شيء، كأن الحق ينبهنا على أن قولتها ليس غضبة للحق ولا كرها للضلال الذي قامت به امرأة العزيز ولكنهن أردن شيئا آخر، وهو أن ينزلن امرأة العزيز عن كبريائها وينشرن فضيحتها.
وعلى هذا بدأت امرأة العزيز تفكر في مكر أقوى وأشد، لتظهر ما في أنفسهن وفى نفس الوقت يكون ردا عليهن ودفاعا عن نفسها.
أرسلت إليهن، وأعدت لكل واحدة منهن مجلسا مجهزا بالمفارش ومخاد ومساند ليستندن إليها ويكن في حالة استرخاء تام.
الدليل الثالث عشر
مازال المتحدث هو الإمام الشعراوي
وهذا دليل براءة آخر على لسان إمام الدعاة لنبي الله يوسف عليه السلام حيث يقول رضي الله تعالى عنه:
وكان الاعتراف: ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ وكلمة ﴿ حَاشَ ﴾ هي للتنزيه، هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالي، أو أنهن قد نزهن صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز.
الدليل الرابع عشر
اعتراف امرأة العزيز
﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾ يوسف: ٣٢
وجدت امرأة العزيز ما حدث للنسوة فقالت لهن معاتبة، وشامتة في النسوة، ومعترفة، ومصرة على الفعل، في آن واحد. أي أن هذا هو من قلتن فيه: ﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)﴾ يوسف: ٣٠، ولقد وصلني ما قلتن في، عنى وعنه فأردت أن أريكن إياه، فإنكن ومن نظرة واحدة، تاهت عقولكن ولم تدرين ما تفعلن وقطعتن أيديكن انبهارا لجماله، فما بالي أنا التي أعيش معه ليل نهار.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة للانقضاض عليهن والاعتراف بل والتباهي بما حدث منها:
﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾ وذلك خلافا لما قالت من قبل:
﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )25)﴾ يوسف: ٢٥
الدليل الخامس عشر:
يقول رب العزة على لسان امرأة العزيز ﴿ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ وهذا دليل أخر من الأدلة الدامغة، على أن يوسف لم يمل إلى امرأة العزيز شهوانيا ولم يهم بعمل الفاحشة.
لأنه باعترافها هي قالت: ﴿ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ لم تقل ] ولكنه استعصم]، فهناك فرق كبير بين الكلمتين لأن الفاء هنا تعطى سرعة رد فعل يوسف بالرفض لفعل الفاحشة وشدته، وأن اعتصامه ورفضه لم يأخذ وقتا للمراودة مع النفس يفعل أو لا يفعل.
ثم أظهرت إصرارها وتحديها لفعل الفاحشة مع يوسف في جرأة أمام النسوة، لأنها وجدت في النسوة ميل إلي يوسف، فأعلنت تحديها له: ﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾ يوسف: ٣٢.
فأصبح الطلب مكشوفا، ومفضوحا، وبلا حياء لأنها وجدت نفسها وقد انهزمت من قبل أمام يوسف، إذا فعليه الآن أن يفعل وبالأمر، وإن لم يطع أمرها فإنه سيعاقب بالسجن، وسينزل من المنزلة التي هو عليها الآن من كونه المقرب إليها في حاشيتها، ورأى من مظاهر العز والترف ما لم يره غيره، إلى السجن، ويفعل أشياء تصغر من شأنه.
وهذا يظهر لنا ما لنساء علية القوم من تأثير في القرارات التي تصدر وتخص العامة والدولة.
وجد يوسف نفسه أمام تحد جديد، وهو من اختبار الله له، واختبار لإيمانه وصبره، ويعلمنا الله من خلاله كيف نقف أمام الشدائد، وكيف ومتى نلجأ إلي الركن الشديد.
فالمرأة مازالت مصرة على الفعل، وهذه المرة ليست كسابقتها، فإن لم يفعل فالسجن أمامه، وليس السجن فقط، ولكن سينزل من المكانة التي هو فيها الآن من ترف العيش ورغدة، إلى منازل الذين يقومون بالأعمال المشينة، وهو غير معتاد على هذا.
أي شاب هذا الذي يترك النعيم والترف بجوار امرأة العزيز، وينزل إلى منازل الصاغرين، هل من أجل ليلة مع امرأة، وأي امرأة إنها امرأة العزيز التي إن وافق على طلبها فسيكون في منزلة يحسده عليها العزيز نفسه.
وليس مع امرأة العزيز وحدها ولكن مع نساء علية القوم أيضا.
ثم أليست هذه هي الفحشاء التي تكلم الله فيها وقال فيها.. ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾ يوسف: ٢٤.
أصبح يوسف في موقف صعب، وهو على مفترق طريقين.
أحدهما فيه هناء الدنيا وردغها ونعيمها، وفيه الضغوط شديدة لفعل الفاحشة، ولكن فيه غضب الله سبحانه، والآخر فيه السجن، والشقاء، والعذاب، والتصغير من الشأن في الدنيا، ولكن فيه رضاء الله سبحانه وتعالى، ونعيم الآخرة..
والكيد: هو ما أضمرته امرأة العزيز والنسوة في الضغط علي يوسف لفعل الفاحشة معهن.
ولكن يوسف له رأى أخر: وليتعلم منه رجال الأمة وشبابها، الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، ونسوا أن لهم ربا مطلع على أفعالهم، وسيحاسبهم بها يوم العرض عليه.
حسم يوسف أمره، واتجه إلي الله بالدعاء حيث قال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ يوسف: ٣٣.
هنا جمع يوسف النسوة في محاولة فعل الفاحشة معه، ولم يتكلم عن امرأة العزيز على الرغم من أن امرأة عزيز هي التي قالت: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾ يوسف: ٣٢ .
وهذا يؤكد أن يوسف لم تتحرك غريزته تجاه امرأة العزيز في مراودتها الأولى، ولكن تكالب النسوة عليه، كاد أن يغلبه فكان دعائه وتضرعه إلي الله:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ يوسف: ٣٣.
أي أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء؛ أو يوافق النسوة على دعوتهن له، ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه؛ فقال: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ يوسف: ٣٣.
فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإن لم يصرف الله عنه كيدهن؛ لاستجاب لغوايتهن ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفتون إلى عواقب الأمور.
إلي هنا تنتهي علاقة يوسف مع امرأة العزيز، ولكنه لم يبرأ التبرئة الكاملة، فلقد دخل السجن ظلما، ولكن الله سبحانه له تصريف آخر.فكان تعبير رؤيا الرجلين اللذان كانا معه في السجن هي مفتاح النقلة الأخرى له، فجاءت رؤيا الملك التي لم يستطع أحد أن يعبرها، لتنقل يوسف نقلة أخرى، ويتم عن طريقها كشف ما حاول العزيز وحاشيته أن يطمسوه، ولتبرئ يوسف براءة كاملة من محاولة فعل الفاحشة مع امرأة العزيز.
فبعد أن عبر رؤيا الملك، أدرك الملك أن من يعبر تلك الرؤيا بهذا التأويل لا يمكن أن يكون مثله في السجن، فطلبه الملك.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 01:10 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 01:00 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 12:50 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 12:41 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 05-01-2006, 10:03 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات