

-
المطلب الثامن
حق المتهم في الدفاع عن نفسه
إن قاعدة افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته، قد وُجدت في الشريعة الإسلامية من مدة تزيد على أربعة عشر قرناً، حيث جاءت بها نصوص القرآن والسنة، وبهذا فقد امتازت هذه الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أدخلت في القانون الوضعي الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقُررت لأول مرة في المادة 9 من إعلان حقوق الإنسان الصادر عام1789م، ثم انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى التشريعات الوضعية الأخرى، حتى أصبحت قاعدة عالمية في القوانين الوضعية كلها.
وتطبيقاً لهذه القاعدة في الشريعة الإسلامية فإن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعى، فعليه أن يثبت وقوع الجريمة من المدعى عليه (المتهم) ومسؤوليته عنها، عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-:”البينة على من ادعى”، ولا يوجد أي التزام على المتهم من حيث المبدأ لإثبات براءته، فهو في نظر الجميع يعتبر بريئاً حتى يُدان، غير أنه ليس هناك ما يمنع المتهم من المساهمة في إثبات براءته بتقديم الأدلة والبيانات للقضاء التي من شأنها نفي التهمة ودرء المسؤولية الجنائية عنه، أو التعبير عن قيام سبب من أسباب الإباحة، أو انعدام المسؤولية أو أي عذر من الأعذار الشرعية.
وبناء عليه فإن حق الفرد الذي اتهم في دينه وعرضه وسلوكا ظلما كيوسف عليه السلام أن يدافع عن نفسه تجاه من ظلمه، ويرفع صوته جاهزا بالحق مثل قول يوسف عليه السلام (هي راودتني عن نفسي) في مواجهة الحاكم، بل أباح الله تعالى له ما لم يبح لغيره، رعاية لظرفه، وذودا عن حرمته، حين قال الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}(النساء:148)، ولا يجوز لأحد منع التهم من الدفاع عن نفسه، فهذا حق طبيعي وشرعي، وقد أعطى الله الحرية لإبليس اللعين ليجادل عن نفسه أمام رب العالمين، ويقول عن آدم:"أنا خير منه" كما جعل من حق كل نفس يوم القيامة أن تجادل عن نفسها.
فحق المتهم في الدفاع عن نفسه من أهم المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة بين الخصوم، كما ان مبدأ حق المتهم في سماع مقاله أمام القضاء، وهو حق أصيل يجب ألا يصادر تحت أي مصوغ، لأن لكل صاحب حق مقالاً، والأصل في ضرورة تمكين المتهم من سماع مقاله قبل الحكم عليه، حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب عندما بعثه إلى اليمن قاضياً، فعن علي -كرم الله وجهه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول الله تُرسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء..؟ فقال :”إن الله سيهدي قلبك ويُثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، أحرى أن يتبين لك القضاء” قال: مازلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد.
من هذا الحديث يتضح لنا أنه يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع مقاله، وإذا ما حكم القاضي دون سماع أقوال المتهم كان حكمه باطلاً، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن الحكم قبل سماع حجة المتهم، والنهي يُفيد فساد المنهي عنه، فحضور المتهم لإبداء دفاعه شرط لصحة القضاء، ففي القضية التي تسور فيها الخصمان المحراب على نبي الله داود -عليه السلام- ليحكم بينهما بالعدل، وكان المدعي قوي الحجة، إذ قال فيما نص عليه القرآن على لسانه:(إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) وأمام هذه الحجة الظاهرة حكم له النبي داوود دون سماعه لحجة المدعى عليه(المتهم)، كما جاء في قوله تعالى:(قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات….).
ولما كان هذا الحكم قد صدر بدون سماع حجة طرفي الخصومة، فإن داود قد شعر بخلل حكمه فسارع إلى الاستغفار والتوبة، كما قال تعالى:( وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) وكان هذا من الله توجيهاً لنبيه داود، وإنذاراً لمن يتولى القضاء بين الناس في الأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بأن الحكم بظاهر حجة خصم دون سماع حجة الخصم الآخر، هو ميل عن الحق وإتباع للهوى يترتب عليه العذاب الشديد يوم القيامة، كما قال تعالى في كتابه الكريم:(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
التعديل الأخير تم بواسطة المهندس زهدي جمال الدين محمد ; 12-04-2020 الساعة 07:09 AM
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة صاحب القرآن في المنتدى فى ظل أية وحديث
مشاركات: 76
آخر مشاركة: 21-06-2015, 12:43 AM
-
بواسطة ابوغسان في المنتدى اللغة العربية وأبحاثها
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-11-2014, 06:23 PM
-
بواسطة فريد عبد العليم في المنتدى المنتدى الإسلامي العام
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 13-03-2010, 02:00 AM
-
بواسطة ياسر سواس في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 16-02-2010, 10:39 PM
-
بواسطة نسيبة بنت كعب في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 08-09-2007, 12:22 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات