المبحث الثاني
معنى الاحتيال .. وشروط الأخذ بها ..
والأدلة الشرعية لجوازها

نقول : الاحتيال هنا بمعنى التدبير ، وهو المسمى [ بالمُخْرِج ]الشرعي. وجمعه : مخارج ، ومفرده على صيغة اسم الفاعل .
ولقد سميَّت المخارج كذلك ، لأنَّها :
تُخرج من الضيق الذي فيه المكلَّف ، إلى السعة التي يبتغيها .
أمَّا الحيلة : فجمعها [ الحِيَل ] .
وهي : الحذق في التدبير، وتقليب الفكر للوصول إلى المقصود .
وفي الشرع ، لم يتعرض العلماء لوضع تعريفٍ اصطلاحي لها ، ولذلك فقد عرفناها بأنَّها هي :
الطريق لوصول المكلف إلى مُبتغاه ، من غير وقوعٍ في الحرام أو شبهته ، ومن غير إبطالٍ لواجبٍ ، أو خروجٍ على المقاصد العامَّة للشريعة ، أو الأصول العامَّةِ المعتبرة .
يقول شمس الأئمة السرخْسي في المبسوط :
[ .. فإنّ الحيل في الأحكام المُخرجةُ عن الآثام جائز عند جمهور العلماء رحمهم الله ، وإنما كَرِه ذلك بعض المُتقشِّفة لجهلهم ، وقلَّة تأملهم في الكتاب والسنة ] .
نقلاً من : [ ملحق كتاب الحيل لمحمد بن الحسن ، طبعة ليبسك 1930 ، وأعادته بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد ] .
وجوازه ممّا ورد ذكره في هذه الآية ، وفي مواضِعَ قبْلَها ، ممّا يدل على جوازه في شرائع مَنْ قبلنا ، وقد أوضحناها قبلاً بالتفصيل.
ويؤيده ما ورد في قصة سيدنا [ أيوب ]عليه وعلى نبيّنا السلام،حيث حلف في أشد حالات مرضه وشدته :
إن أحياه الله لَيَضْرِبَنَّ امرأته مائة جلدة !! ..
وذلك لأمر ما عدّة كبيراً ، ويستدعي منه الذي نذره ، مِنْ وجهة نظره !! ، رغم أنَّها الوحيدة التي بقيت معه في محنته !!..
فلمّا أنجاه الله ، وقع في محنةٍ بين أمرين :
الأول : البِّر بيمينه ، وهو نبيٌّ لا يُخالف ، خصوصا بعد أن منَّ الله عليه بالشفاء ، وزيادة المال والولد .
يقول تعالى : ( وأيّوب إذ نادى ربَّهُ أنِّي مسَّنيَ الضُرُّ وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرٍّ وآتيناهُ أهله ومثلهم معهم رحمةً مِن عِندِنا وذكرى للعابدين ).
الثاني : الوفاء لزوجه التي صاحبته في محنته ، بعد تخلى الجميع .. فأخرَجَهُ الله من ذلك [بحيلة ]علمَّها إياهُ ، أو قل هو :[ مُخْرِجٌ شرعيٌّ ].
يقول تعالى :( واذكُر عَبْدَنا أيُوبَ إذ نادى ربَّه أنِّي مسَّنيَ الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب * أُركُض بِرجْلِكَ هذا مغتسَلٌ باردٌ وشرابْ * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمةً منَّا وذكرى لأولي الألباب * وخذ بيدك ضِغْثاً فاضرب به ولا تحنَث إنَّا وجدناهُ صابراً نِعْمَ العبـدُ إنَّه أوَّاب) .
أي : خُذ عُرجوناً قديماً ذا مائة شِمراخ ، فاضرب زوجتك بخفةٍ،ضربةً واحدةً تعوّض عن المائة ، فلا تُعدّ حينئذٍ حانثاً ، بل بارّاً بقسمك، ولا تعُد متنكِّراً لمن فاض جميلُها عليك في وقت محنتِك. !!..
والحيل الشرعيَّة .. للأخذ بها شروطاً، وهي :
1- أن تُخرج من الضيق الى السعة .
2- ألاّ تُؤدى الى ضياع حقّ من حقوق الله ، أو العباد .
3- ألا تُعارض أمراً قامت الحُجة على اعتباره في شريعتنا ، أو قاعدةٍ من القواعد المعروفة في الشريعة ، أو أصلاً من الأصول .
فمن ضياع الحقوق : أنْ يعلِّم بعض الماجنين من المفتين ، من وجبت عليهم الزكاة ، وبقي بينهم وبين شرط [ حولان الحـول ] أيام ، يعلّمون أولئك بالتصدّق بجزء يسير يَثْلِم النصاب ، مقابل سقوط الكثير .
فمن ملك عشرين مثقالاً من الذهب ، فعليه نصف مثقال ، فلو تصدّق [ بحبةٍ ] ، فإنّ النصاب سوف يقلُّ عن حدِّه الأدنىِّ ، وبالتالي فلا زكاة .. والفرق بين الحبة ونصف المثقال كثير!! ..
وما قامت الحجة على مراعاته في شريعتنا : حرمة الربا ، فقيام بعض الماجنين بتعليم المُقرضِين أن يبيع المقترض سلعةً نقداً ، ثم يشتريها بثمن أعلى مُنَسَّئاً ، فتعود له سلعتُهُ و يكونُ مديناً بالفرق بين الصفقتين ، وهو في حقيقته ربا الاقتراض ، المعروف بربا النسيئة .
فكل هذا و ذاك هو من: [ العلم الذي يُعلَم ولا يُعَلَّم ] .
وهو احتيال مرفوض ، ويكون اُلمفتي من هذا القبيل ، مستحقـاً للحَجْر.. أي : [ المنع ] ، باعتباره واحداً من ثلاثة جوّز الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، الحجر عليهم ، استثناءً من مبدئه في عدم الحجر بعد سن الخامسة والعشرين ، وهم :
أ. [ المفتى الماجن ] الذي : يعلِّم الناس الحيل .
ب.[ والمتطبب الجاهل ] الذي : يؤذي الناس بجهله .
ج.[ والمُكاري المفلس ] الذي: لا يستطـيع الإيفاء بالتزامـاته ، ويكتفي بأخذ المال مع عدم القدرة على الوفاء .
فالأخذ [بالحيل ] أو المخارج ، بشروطها ، كان استدلالاً بفعل سيِّدينا : [ يوسف ، وأيوب ] عليهما السلام .
وكلّ هذا من شرع من قبلنا الذي سكت عنه قرآننا ، فأخذنا به لعدم مخالفته قاعدةً شرعيةً ، أو نصاً من النصوص ، أو أمراً معلوماً من الدين بالضرورة .
ولهذا فقد استدلّ الأحناف لجواز[ الحيل ] ، بما يأتي :
أ. من القرآن الكريم :
1. ما ورد عن سيِّدنا أيوب ، وقد تقدم .
2. ما ورد عن سيِّدنا يوسف ، مما نحن بصدده .
3. ما ورد على لسان سيِّدنا موسى ، حين قطع وعداً للرجل الصالح ، حيثُ قال :
( قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا ).
فقد احتال سيِّدنا موسى لنفسه ، خشية عدم قدرته على الصبر، فأتى بالاستثناء ، وهو قول : [ إن شاء الله ] .
ولم يُعاتَبْ على ذلك ، لأنه استعمل مُخْرِجاً صحيحا .. فلا يُعدُّ حانثا إن لم يَسْتطع الصبر !! ..
ومن السنة النبوية الشريفة :
1. روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة :
(فلعلَّنا أمرناهم بذلك ) .
فلما قال له عمر رضي الله عنه في ذلك ، قال عليه السلام:
( الحرب خدعة ) .
وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم اكتساب حيلة ، ومُخرج من الإثم ، بتقييد الكلام [ بلعلَّ ] .
2. أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أنَّه حلف بطلاَّق امرأته ثلاثاً أنْ لا يُكلِّم أخاه ، فقال له رسول الله عليه السلام :
( طلِّقها واحدةً فإذا انقضت عدَّتها فكلِّم أخاك ، ثم تزوجها )
وهذا تعليمٌ للحيلة صادر عن رسول الله عليه السلام !! .
قال السَرَخْسي : [.. والآثار فيه كثيرة ] .
ثم أورد السرخسي جملةً من الأمور المشَّرعة في شريعتنا ، وحقيقتها حيلٌ توفرت فيها الشروط التي أوردناها ، فيقول :
[ ومن تأملَّ أحكامَ الشرعِ ، وجد المعاملات كُلَّها بهذه الصفة ...
فإنَّ من أحبَّ امرأةً ، إذا سأل فقال : كيف لي أنْ أصِل إليها ؟.
يقال له : تزوجها .
وإذا هوى جاريةً ، فقال : ما الحيلة لي في أن أصل إليها ؟.
يقال له : اشْتَرِها .
وإذا كره صحبة امرأةٍ ، فقال : ما الحيلة لي في التخلص منها ؟ .
قيل له : طلِّقها .
وبعد ما طلقها إذا ندم ، وسأل الحيلة في ذلك ؟ .
قيل له : راجعها .
وبعد ما طلَّقها ثلاثاً ، إذا تابت من سوء خُلُقِها ، وطلبا حيلةً .
قيل لهما: الحيلة في ذلك ، أن تتزوج بزوجٍ آخر ، ويدخل بها ].
. ثم قال : [ فمن كره الحيل في الأحكام ، فإنَّما يكره في الحقيقة أحكام الشرع ، وإنَّما يوقع في مثل هذا الاشتباه ، من قلَّة التأمل .
فالحاصل أنَّ ما يتخلص به الرجل من الحرام ، أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل ، فهو حسن . وإنَما يكره من ذلك :
أن : يحتال في حقٍّ لرجل حتَّى يُبطله .
أو : في باطل حتَّى يُموِّهه .
أو : في حقٍّ حتى يُدخل فيه شُبْهةً.
فما كان على هذا السبيل فهو مكروهٌ. وما كان على السبيل الذي قلنا أولاً ، فلا بأس به. لأن الله تعالى قال :
(وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ).
ففي النوع الأوَّل معنى التعاون على البر والتقوى .
وفي النوع الثاني معنى التعاون على الإثم والعدوان ] .
ثمَّ أورد أدلةً أخرى ، تجدها مبسوطةً في المبسوط ، ولو استوفيناها لخرجنا عن المقصود .
لقد أكثر الأحناف من استعمال [ الحيل ] ، حتى ظنَّ الظانُّون أنهـم في أحكام الدين متساهلون !! ، وليس الأمر كما يُخيل للبعض ، بل هو استعمالٌ للمخـارج توسعةً على المكلفين ، على النحو الذي بينَّاه ، وليس من السهل أن يتضح الأمر لكل أحدٍ ، خصوصاً بعد شيوع استعمال لفظة [ الحيلة ] في غير الممدوح من الأمور .
ومن شدة اهتمامهم بهذا الفن من فنون الفقه ، وهي متنوعةٌ ، فقد أفرده بالتأليف الإمام : محمد بن الحسن الشيباني ، تلميذ الإمام أبي حنيفة ، والذي حفظ أصول مذهبه وفروعه ، بكثرة مدوَّناته المتداولة ، وسمَّى كتابه ذاك [ المخارج في الحيل ] .