الفرع الأول
مقاصد الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان

يرتبط إحقاق حقوق الإنسان بالإصلاح الاجتماعي، فلا إحقاق للحقوق في ظِلِّ الفساد والإفساد القائم على الجور والظلم، ولذلك فإن الشريعة الإسلامية الغراء قد أقرَّت المقاصد الشرعية الإسلامية لتحقيق الإصلاح الاجتماعي القائم على إنصاف الإنسان وإعطائه كامل حقوقه في ظلِّ العدل والمساواة، وبناءً على ذلك تتطابق نتائج حِكْمَةِ الْحُكم وعلته، ويتجلى ذلك في المقصد الذي ترمي إليه الأحكام من خلال درء المفاسد، وجلب المصالح للمخلوقات.
وإن استقراء المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية يوضح أن الشريعة قد جاءت من أجل حماية الكون، وفي مقدمته إنصاف الإنسان، وتحريره من الظلم، وفرضت أحكام الحلال والحرام، وأباحت الرخص بشروطها المعقولة في حالات استثنائية من أجل حفظ المهجة، ورعاية المصالح العامة والخاصة، واعتماد تقعيد العموم والخصوص، وإقرار فقه الحقوق الإنسانية العامة والخاصة عملا بقاعدة "لا ضرر ولا ضرار".
ومَن يستقرئ أصول الأحكام الشرعية وفروعها يجد توافقاً عقلياًّ وشرعياًّ على ضرورة توفر الشروط الخاصة بكل حُكم، والشرطُ العامّ هو توفر الأهلية باعتبارها مناط التكليف الشرعي القائم على الأمرِ بطاعةٍ، والنهي عن معصيةٍ، واشتراطُ الأهلية لوجوب التكليف هو الضمان الأساسي لحقوق الإنسان لأن انعدام الأهلية يُسقط التكليف لعدم وجود الاستطاعة.
وبمعنى آخر : إن طاعة الحاكم الشرعي، أو غير الشرعي لا تقتضي ظلم الرعية لأن ظلمها يتعارض مع مقاصد الشريعة الشرعية، ومع شرعة حقوق الإنسان الوضعية، والفارق كبير بين طاعة الخالق، وطاعة المخلوق، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تجب طاعة المخلوق من أجل طاعة الخالق، وبناء على ذلك يتضح الواجب الشرعي القاضي بالإنصاف، والناهي عن الظلم، وميزان تقييم تأدية الواجب هو مدى التزام الحكام عامةً وخاصّةً بتطبيقِ العدل المأمور به شرعاً وعقلاً ونقلاً، وتَجَنُّبِ الْجَور المنهي عنه شرعاً وأخلاقياًّ وإنسانياًّ وفلسفياًّ.
إن رصد وقائع الأحداث في عالمنا المعاصر يوضِحُ وجود حراك وجدال ومناظرات في الميادين الفكرية والتشريعية والسياسية والفلسفية، وكل فريق يدعي أنه يمتلك الحل السحري للمعضلات البشرية، ويضمن حقوق الإنسان من العدوان، ويتمسك بالديمقراطية التي تخدمه، ولو ألغت الفريق المعارض له، وفي خضم الجدال نجد بعض المجادلين الناقمين على الإسلام يعادون أفكار الآخرين بسبب التعصب الذاتي، وبسبب جهلهم ما عند الآخر، والإنسان عدو ما يجهل بالغريزة، ومن هنا نجد من يعادي الشريعة الإسلامية ويعتبرها خطراً على حقوق الإنسان لأنه يجهل أحكام الشريعة وأسبابها وشروطها وعللها.
وهنالك مَن يدعي مسّ الشريعة الإسلامية بحقوق الإنسان، وسبب الادعاءات هو أن ذلك الْمُدّعي لم يقرأ التراث الشرعي الإسلامي، ويهاجم بدوافع الحقد والكراهية، والأحكام المسبقة دون اعتبار للأدلة الواضحة للمنصفين، ولكن المنصف الذي درس التراث، واعتنى بتأصيل العلوم، ومعرفة سياقها التاريخي بشكل دقيق يعلم عدالتها، ويتأكد من شرعيتها بإسنادها إلى المصدر الأول في عهد النبوة، إذ أن العمل بما هو شرعي يقتضي النصَّ قولاً أو عملاً أو إقراراً، ولدى استقراء ما وصلنا من عهد النبوة والخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية فالعباسية فالعثمانية نجد تسلسل انتقال العلوم من التأصيل إلى التفريع، ومن الإجمال إلى التفصيل، وفي استقراء وقائع الأحداث في جميع المراحل التاريخية منذ فجر الإسلام حتى الآن نجد أن حفظ حقوق الإنسان منوط بالتمسك بمقاصد الشريعة التي يُعبَّرُ عنها بالمصالح، وقد وصلتنا نصوص مخطوطة لعلماء أجلاء تدعم الروايات الشفوية المتواترة بالسماع الصحيح الذي أخذه الخلف عن السلف.
ومن العلماء المؤلفين الذين تركوا لنا نصوصا مضيئة حول المصالح الإنسانية الإمام العزّ بن عبد السلام المتوفى عام 660 ﻫ / 1262م، وضمّنها كتابه ‏(‏قواعد الأحكام في مصالح الأنام) وبيَّن كيفية "جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا"، وقال: "لِلدارَيْنِ مَصَالِحُ إذَا فَاتَتْ فَسَدَ أَمْرُهُمَا، وَمَفَاسِدُ إذَا تَحَقَّقَتْ هَلَكَ أَهْلُهُمَا" وفي هذا الكلام إشارة إلى حفظ حقوق الإنسان في الدنيا والآخرة.
ومن كتب التراث الإسلامي الرائدة في إيضاح حقوق الإنسان كتاب الموافقات الذي ألفه الإمام الشاطبي المالكي، وضمَّنه مقاصد الشريعة الإسلامية التي تضمن حقوق الإنسان، وكانت وفاة الشاطبي سنة 790 ﻫ / 1388م في عهد السلطان العثماني مراد الأول الذي استشهد بعد الانتصار في معركة كوسوفو، ومصطلح المقاصد عند الأصوليين مُواز لمصطلح المصالح، وما فيه مقصد للشريعة فيه مصلحة للبشر، ومجيء المصالح بمعنى المقاصد وارد عند الإمام الزركشي الشافعي( 745 - 794 ﻫ / 1344 - 1392م) حيث يستخدم مصطلح المصالح بدل مصطلح المقاصد، وهذا واضح في كتاب البحر المحيط في أصول الفقه حيث يقول:
"قَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ, إجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ, إمَّا عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ عَلَى أَصْلِنَا, أَوْ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ, فَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ, وَلا لأَنَّ خُلُوَّ الأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ, وَإِنَّمَا نَقُولُ: رِعَايَةُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ, وَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ لا يَقَعَ كَسَائِرِ الأُمُورِ الْعَادِيَّةِ".
ويستخدم الزركشي مصطلح الاستصلاح في قوله: "وَلَكِنَّ الَّذِي عَرَفْنَاهُ مِنْ الشَّرَائِعِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى الاسْتِصْلَاحِ , ودَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى مُلاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِيَّةِ، وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَأَنَّهَا لا تَنْفَكُّ عَنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ"، وتتعدد المصطلحات المرتبة بالمقاصد والمصالح عند الأصوليين المسلمين، وهذا واضح عند الزركشي في معرض البحث في موضوع "[ الْمَسْلَكُ ] الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ [الْمُنَاسَبَةُ]" حيث يقول الزركشي:
"وَهِيَ مِنْ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ " الإِخَالَةِ " وَبِـ " الْمَصْلَحَةِ " وَبِـ " الاسْتِدْلالِ " وَبِـ " رِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ ".
وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " لأَنَّهُ إبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ، وَغَمْرَتُهُ، وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ.
وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، أَيْ: الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُلاءَمَةُ" وفي هذا الكلام إيضاح عدد من المرادفات التي استعملها العلماء للتعبير عن مراعاة المقاصد الشرعية ورعاية المصالح الإنسانية، وهذا دليل على قِدَم الاهتمام بالمقاصد والمصالح رغم تنوع المصطلحات المعبرة عنها عبر القرون التي سبقت القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، ومازالت معتبرة حتى العصر الحاضر.