

-
[العرض والحساب وقراءة الكتاب]
و العرض والحساب وقراءة الكتاب: ونؤمن بالعرض، حيث يُعْرَض الناس على ربهم كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ - وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ - وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ - يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 15 - 18] (3)
_________
(1) سورة ق آية: 9 - 11.
(2) سورة يس آية: 81.
(3) سورة الحاقة الآيات: 15 - 18. .
(1/92)
________________________________________
وقال عز وجل: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48] (1) .
ونؤمن بالحساب، حيث أن الله يحاسب الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة مَن توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقرَّرون بها.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ - فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا - وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ - فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا - إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا - إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ - بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 6 - 15] (2) .
_________
(1) سورة الكهف آية: 48.
(2) سورة الانشقاق الآيات: 6- 15.
(1/93)
________________________________________
وروى البخاري في صحيحه «عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هَلَك" فقلت يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7 - 8] (1) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرْض، وليس أحد يناقَش الحسابَ يوم القيامة إلا عُذِّب".»
ونؤمن بأن كل إنسان سيعطى كتاب أعماله، وإذا اطلع المؤمن على ما تحويه صحيفته من التوحيد وصالح الأعمال سُرّ واستبشر، وأعلن هذا السرور، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ - إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ - فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ - قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ - كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 19 - 24] (2) .
وأما الكافر والمنافق وأهل الضلال؛ فإنهم يؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، وعند ذلك يدعو الكافر بالويل والثبور، وعظائم الأمور، كما قال سبحانه:
_________
(1) سورة الانشقاق الآيتان: 7، 8.
(2) سورة الحاقة الآيات: 19 - 24.
(1/94)
________________________________________
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة - مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ - خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 25 - 31] (1)
[الميزان والصراط]
ز- الميزان والصراط: ونؤمن بالميزان، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] (2) .
وقد دلت السنة النبوية على أن ميزان الأعمال له كفتان حسِّيتان مشاهدتان.
ووزن الأعمال يكون بعد انقضاء الحساب، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها.
ونؤمن بالصراط وهو الجسر المنصوب على ظهر جهنم طريقا إلى الجنة، حيث يمر جميع الناس على هذا الصراط حسب أعمالهم.
_________
(1) سورة الحاقة الآيات: 25 - 31. .
(2) سورة الأنبياء آية: 47.
(1/95)
________________________________________
فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يُخطف خطفا ويُلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب (1) تخطف الناس بأعمالهم، فمن تجاوز الصراط دخل الجنة.
ويجب أن يُعلم أن من استقام على صراط الله الذي هو دينه الحق في الدنيا، استقام على هذا الصراط في الآخرة، ومن حاد عن الصراط المستقيم في الدنيا، فلن يصمد على صراط الآخرة.
وعند الصراط في يوم الآخرة يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلَّفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم.
[الجنة والنار]
ح- الجنة والنار: نؤمن بالجنة التي أعدها الله للمؤمنين، ونؤمن بالنار التي
_________
(1) جمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة. وهو حديدة معقوفة الرأس.
(1/96)
________________________________________
أعدها الله للكافرين، فالجنة والنار كلاهما حق لا ريب فيهما، فالنار دار أعداء الله، والجنة دار أوليائه.
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ - وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 24 - 25] (1) .
ولقد جاء وصف الجنة والنار، ووصف النعيم والعذاب في مواضع كثيرة جدا من القرآن، كلما ذكر الجنةَ عطف عليها بذكر النار، والعكس، وتارة يرغِّب في الجنة ويدعو إليها، ويرهِّب من النار ويحذر منها، وتارة يخبر عما أعدَّ في الجنة من النعيم لأوليائه، ويخبر عما أرصد في النار من العذاب الأليم لأعدائه.
ونعتقد يقينا أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآنَ.
قال الله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] (2) .
_________
(1) سورة البقرة الآيتان: 24، 25.
(2) سورة آل عمران آية: 133.
(1/97)
________________________________________
وقال عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] (1) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مَقْعَدُه بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار» (2) .
ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في إثبات ذلك كثيرة جدا، ولذا فقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان مُوجدتان الآن.
كما نؤمن بأن الجنة والنار لا تفنيان أبدا ولا تبيدان، وقد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على ذلك.
يقول تعالى عن الجنة: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] (3) .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت» (4) .
ومن أدلة بقاء النار وعدم فنائها، قوله تعالى:
_________
(1) سورة البقرة آية: 24.
(2) رواه البخاري.
(3) سورة الرعد آية: 35.
(4) رواه مسلم.
(1/98)
________________________________________
{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37] (1) وقوله تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] (2) .
اللهم إنّا نسألك رضاك والجنة وما قرّب إليهما من قول وعمل، ونعوذ بك من سخطك والنار وما قرّب إليهما من قول وعمل.
_________
(1) سورة المائدة آية: 37.
(2) سورة فاطر آية: 36.
(1/99)
________________________________________
[الإيمان بالقدر]
[معنى الإيمان بالقدر]
الإيمان بالقدر 1 - معنى الإيمان بالقدر: هو التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، وأنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا مَحيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، وأنه خالق أفعال العباد والطاعات والمعاصي، ومع ذلك فقد أمر العباد ونهاهم، وجعلهم مختارين لأفعالهم، غير مجبورين عليها، بل هي واقعة بحسب قدرتهم وإرادتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
والإيمان بقدر الله تعالى أحد أركان الإيمان، كما في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن
(1/100)
________________________________________
بالقدر خيره وشره» (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أن الله سبحانه عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أحد ذهبا أنفقته في سبيل الله تعالى ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار» (2) .
والقدر - بفتح الدال -: هو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته.
[مراتب الإيمان بالقدر]
ب- مراتب الإيمان بالقدر: الإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى عَلِم بكل بشيء جملةً وتفصيَلَا، وأنه تعالى قد عَلِم جميع خلقه قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وأقوالهم وأعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، وأسرارهم وعلانيَّاتهم، ومن هو منهم من أهل
_________
(1) أخرجه مسلم.
(2) أخرجه أحمد.
(1/101)
________________________________________
الجنة، ومن هو منهم من أهل النار.
قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] (1) .
وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] (2) .
الثاني: الإيمان بكتابة ذلك، وأنه تعالى قد كتب جميع ما سبق به عِلْمُه أنه كائن في اللوح المحفوظ.
ودليلُه قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] (3) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» (4) .
الأمر الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة التي لا يردُّها شيء، وقدرته التي لا يعجزها شيء، فجميع الحوادث وقعت بمشيئة الله وقدرته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
_________
(1) سورة الحشر آية: 22.
(2) سورة الطلاق آية: 12.
(3) سورة الحديد آية: 22.
(4) أخرجه مسلم.
(1/102)
________________________________________
ودليله قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] (1) .
وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] (2) .
الأمر الرابع: الإيمان بأنه سبحانه هو الموجد للأشياء كلها، وأنه الخالق وحده، وكل ما سواه مخلوق له، وأنه على كل شيء قدير.
ودليلُه قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] (3) .
وقوله سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] (4) .
ويجب أن نعلم أن القدر قُدرة الله سبحانه وتعالى، وأن كل شيء يجري بتقديره، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن.
كما يجب أن نعلم أن أصل القدر هو سر الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملك مقرَّب، ولا نبيٌّ مُرسل.
إن المؤمن يصف ربّه بصفات الكمال، فتراه مؤمنا بأن كل
_________
(1) سورة الإنسان آية: 30.
(2) سورة إبراهيم آية: 27.
(3) سورة الرعد آية: 16.
(4) سورة الفرقان آية: 2.
(1/103)
________________________________________
عمل لا يحدث إلا وله حكمة، وإذا غابت عنه الحكمة الإلهية في أمر من الأمور، عرف جهله أمام علم الله - المحيط بكل شيء - وترك الاعتراض على الحكيم الخبير العليم الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
[حكم الاحتجاج بالقدر في ترك ما أمر الله به]
جـ- حكم الاحتجاج بالقدر في ترك ما أمر الله به: إن الإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وقدرة عليها، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع، فقد قال الله تعالى في المشيئة: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39] (1) .
وقال تعالى في القدرة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] (2) .
وأما الواقع فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل، وبهم يترك، ويفرِّق بين ما يقع بإرادته كالمشي وما يقع بغير إرادته كالارتعاش، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان
_________
(1) سورة النبأ آية: 39.
(2) سورة البقرة آية: 286.
(1/104)
________________________________________
بمشيئة الله تعالى وقدرته، لقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] (1) ولأن الكون كله مُلك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.
والإيمان بالقدر على ما سبق تقريره لا يمنح العبد حُجّةً على ترك ما أمر الله به أو فِعل ما نهى الله عنه، فمن احتج بالقدر على فعل المعاصي فهذا احتجاج باطل من وجوه:
الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة". فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ " قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (2) . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل ونهى عن الاتكال على القدر.
الثاني: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (3) .
ولو كان العبد مجبورا على الفعل، لكان مكلفا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه
_________
(1) سورة الإنسان آية: 30.
(2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) سورة التغابن آية: 16.
(1/105)
________________________________________
المعصية بجهل أو نسيان أو إكراه فلا إثم عليه، لأنه معذور.
الثالث: أن قَدَرَ الله تعالى سرٌ مكتوم لا يُعْلَم إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقةٌ على فعله، فتكون إرادته الفعل غيرُ مبنيةٍ على علم منه بقَدَر الله، وحينئذ تنتفي حُجته بالقدر؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
فإذا اعترض العاصي وقال: إن المعصية كانت مكتوبة عليّ، فيقال له: قبل أن تقترف المعصية، ما يدريك عن علم الله تعالى؛ فما دمتَ لا تعلم ومعك الاختيار والقدرة، وقد وُضِّحت لك طُرُق الخير والشر، فحينئذ إذا عصيت فأنت المختار للمعصية، المفضل لها على الطاعة، فتتحمل عقوبة معصيتك.
الرابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي لو اعتدى عليه شخص، فأخذ ماله، أو انتهك حرمته، ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يَقبل حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟!
[آثار الإيمان بالقدر]
د- آثار الإيمان بالقدر: إن الإيمان بالقدر مع أنه عقيدة يجب الإيمان بها، وركن من
(1/106)
________________________________________
أركان الإيمان يَكفُر مُنكره، إلاَّ أن له آَثارا محسوسة في حياة الناس، ومن هذه الآثار ما يلي:
1 - القدر من أكبر الدواعي التي تدعو الفرد إلى العمل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل، ويُقدم على عظائم الأمور بثبات ويقين.
إن المؤمنين مأمورون بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، والإيمان بأن الأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله، لأن الله هو الذي خلق الأسباب، وهو الذي خلق النتائج.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير، إحرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (1) .
وحين أراد المسلمون تغيير الواقع بالجهاد، أخذوا بأسباب الجهاد كلها، ثم توكلوا على الله تعالى، ولم يقولوا إن الله قدّر نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين واكتفوا بذلك عن
_________
(1) رواه مسلم.
(1/107)
________________________________________
الاستعداد، والجهاد والصبر وخوض المعارك، بل فعلوا كل هذه الأمور فنصرهم الله وأعز الله بهم الإسلام.
2 - ومن آثار الإيمان بالقدر أن يَعْرِف الإنسان قَدْر نفسه، فلا يتكبر ولا يَبْطُر ولا يتعالى أبدا؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدورِ، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثم يقرّ الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائما.
3 - إن الإنسان إذا أصابه الخير بَطَر واغتر به، وإذا أصابه الشر والمصيبة جزع وحزن، ولا يعصم الإنسان من البطر والطغيان إذا أصابه الخير، والحزن إذا أصابه الشر، إلا الإيمان بالقدر، وأن ما وقع فقد جرت به المقادير، وسبق به علم الله.
يقول أحد السلف: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه.
4 - والإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لأن الله هو الذي رزقهم وقدّر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسد غيره إنما يعترض على القدر.
5 - إن الإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على
(1/108)
________________________________________
مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم، فتثبت في ساحات الجهاد، ولا تخاف الموت؛ لأنها توقن أن الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة.
ولما كانت هذه العقيدة راسخةً في قلوب المؤمنين ثبتوا في القتال وعزموا على مواصلة الجهاد، فجاءت ملاحم الجهاد تحمل أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوَّتهم، ومهما كان عددهم؛ لأنهم أيقنوا أنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتب له.
6 - الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضا دائم الافتقار إلى ربه تعالى يستمد منه العون على الثبات، وهو أيضا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين فتجده يعطف عليهم ويسدي المعروف إليهم.
7 - ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبين للناس حقيقة الإيمان ويوضح لهم مقتضياته، كما يبين لهم مظاهر الكفر والنفاق ويحذَرهم منها، ويكشف
(1/109)
________________________________________
الباطل وزيفه، ويقول كلمة الحق أمام الظالمين، فإن المؤمن يفعل كل ذلك وهو راسخ الإيمان واثق بالله، متوكل عليه، صابر على كل ما يحصل له في سبيله؛ لأنه موقن أن الآجال بيد الله وحده، وأن الأرزاق عنده وحده، وأن العبيد لا يملكون من ذلك شيئا مهما وجد لهم من قوة وأعوان.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اَله وصحبه أجمعين.
وأخيراً أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل نافعاً، مباركاً، خالصاً لوجهه الكريم
وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
حياكم الله بموقع بداية الهداية الخطوة إلى طريق العلم الشرعي الصحيح
http://www.musacentral.com/
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة مصرمصر في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 29-01-2012, 01:18 PM
-
بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 09-12-2010, 02:37 AM
-
بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 13-11-2010, 03:54 AM
-
بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 21-07-2010, 07:20 AM
-
بواسطة شبكة الحقيقة الاسلامية في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 15
آخر مشاركة: 26-01-2008, 09:43 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات