نستكمل مع السيده مريم العذراء - ام عيسى نبى وعبد الله - عليه السلام
ولكن زكريا انصرف يفكر في نفسه ويقيس على ما رآه عند مريم من قدرة الله عز وجل ، فاشتهى ورغب في نفسه أن يرزقه الله بولد من صلبه ، رغم شيخوخته وهرمه ، أليس الله بقادر على كل شيء ، وبرغم هرم زوجته وقد كانت حتى في شبابها عاقرا لم تلد ، ولكن الله عز وجل واسع الرحمة , قادر على كل شيء ، فارتفعت عينا زكريا إلى السماء وقفزت يداه إلى اعلي ، ونادي ربه نداءا خفيا ، لا يسمعه إلا السميع العليم ، الله القادر ، ودعا ربه أن يهبه وراح يقول :
((( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ))) – مريم 4
ثم راح زكريا في دعائه يذكر أسباب طلبه هذا ، وأهمها خوفه من مواليه وأقاربه وقال :
((( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ ))) مريم 5
وكان أبناء عمومته من شرار بني إسرائيل ولذلك قال زكريا سببا وجيها يخشى منه على الدين ، فقد يقوم هؤلاء الموالى بتغيير دينهم و لا يحسنون خلافته على قومه بعد موته ، فطلب ولدا من صلبه يرثه ويكون صالحا يقتدي به الناس .
وقال زكريا في دعائه :
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً 5-6
عند ذلك استجاب الله لرجاء زكريا ودعائه وجاءت استجابة الله عز وجل شريعة حاسمة فقد قال له الله مخاطبا زكريا ذاته :
((( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ))) مريم 7
وتحقق حلم زكريا بفضل الله سبحانه وتعالى وكان الدافع إلى ذلك ما سمعه من مريم ، فحدّث ربه ورجاه ، فاستجاب له وبشره بغلام جميل صالح هو يحيى عليه السلام .
نمت مريم واشتد عودها، ففاضت بالتقوى والصلاح وانقطعت للصلاة و الصوم ومرت السنون وأصيب القوم بشح في الأموال والأرزاق ، وخرج زكريا يقول للناس : أيها الناس لقد كبرت وخارت قواي وضعفت عن حمل وكفاله مريم ، فأيكم يكفلها بعدى فيوفر لها معاشها حتى تتفرغ لعبادة الله عز وجل وتستمر تؤدى نذرا نذرته أمها حنة بنت فاقوذ كما تعلمون ؟
فخرج من بينهم رجل صالح قريب لمريم وابن عمها هو يوسف النجار ، وقال أنا اكفلها وحمل هذه الأمانة عن زكريا علية السلام .
فاضت نعم الله عز وجل على يوسف النجار تكريما لمريم وبركة لها ، فكان يأتيها كل يوم بالطعام والشراب فيرى عند مريم نعم كثيرة ورزقا وافرا ، فاكهة من كل نوع وطعام من كل لون ، فيسألها يوسف من أين لك هذا يامريم ؟
فتجيب إجابة واحده ((( قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ))) آل عمران 37
لم تكن تعلم مريم في يوم من الأيام أنها آية من آيات الله وعجزة من معجزاته انصرفت لعبادتها مستسلمة لخالقها ولكل ما أراد بها لا تعلم الغيب ولا تملك من أمرها شيئا.
فها هي في خلوتها مطمئنة إلى انفرادها يسيطر على وجدانها ومشاعرها ما يسيطر على الفتاه في وحدتها . ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة تخرجها من وحدتها إلى مسافة بعيدة – فبينما هي تمضى ذات يوم لتملأ جرة من جرار الماء من مغارة قريبة من محرابها ، إذ بها تفاجأ بجبريل عليه السلام وقد تمثل لها بشرا سويا ، وقال لها يا مريم إن الله قد بعثني إليك .
((( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ))) مريم 19
تراجعت مريم إلى الخلف وقالت
((( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ))) مريم 18
فقد تكون حيلة رجل فاتك يستغل طيبتها 0 كيف يصارحها بما يخدش حياءها وهى الفتاة الخجول ؟ كيف يقول انه يريد أن يهب لي غلاما ؟ وهما في خلوة وحدهما ؟ أليس في حديث مثل هذا من رجل لفتاة عذراء في مكان معزول شيء من الريبة والشك ؟
عندئذ تمالكت مريم زمام نفسها واستجمعت قواها لتدافع دفاع الأنثى عن عرضها ، فقالت
((( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ))) مريم 20
هكذا تحدثت بصراحة وبوضوح مكشوف فهي والرجل في خلوة، ولكن جبريل خفف من روعها قائلا:
((( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّا))) مريم 21
وانصرفت مشيئة الله إلى تنفيذ أمره فقد قال له كن فكان .
يتبع ان شاء الله
المفضلات