بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين




ظهور الشرك في هذه الأمة :
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك غاية التحذير وسد كل الطرق الموصلة إليه ، وحمى حمى التوحيد ومن ذلك :
(1) أنه نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته من دون الله كما حصل للنصارى في حق عيسى ابن مريم ، قال صلى الله عليه وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسو له .
(2) نهى عن الغلو في تعظيم قبور الصالحين بالبناء عليها وإسراجها
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 201)
وتجصيصها والكتابة عليها ؛ لأن هذا يفضي إلى عبادتها وطلب قضاء الحوائج من الموتى .
(3) نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مساجد أم لا ؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها ولو على المدى الطويل .
(4) نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لما في ذلك من التشبه - بالذين يعبدونها ويسجدون لها في هذين الوقتين .
والمسلم مطلوب منه مخالفة المشركين في عقائدهم وعبادتهم وعاداتهم الخاصة بهم .
(5) نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة غير المساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ) .
(6) نهى عن الوفاء بالنذر بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية إبعادا عن التشبه بهم في تعظيم المكان والوثن .
(7) نهى عن الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق ، كقول : (ما شاء الله وما شئت) و (لولا الله وأنت) كل هذا صيانة للتوحيد وسدا لمنافذ الشرك وإبعادا للأمة عن أن تقع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من فساد العقائد وقد سار صدر هذه الأمة على موجب تلك الوصايا النبوية وحافظوا على عقائدهم ، وصانوها عن كل مناقض ومنقص .
ولما انتهى وقت القرون المفضلة وامتد الزمن بالناس وجهل أغلبهم آثار الرسالة تسرب إليهم كثير من البدع والخرافات والعوائد الجاهلية في عقائدهم ووقع الكثير فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 202)
الشرك بالله وفتح المنافذ والطرق الموصلة إليه ، فبنيت المساجد على القبور ، واتجه إليها الكثير بأنواع العبادة كالطواف بها والذبح لها والتوجه إليها بالرغبة والرهبة والدعاء والاستغاثة وأنواع من الشرك الأكبر الذي يسمونه توسلا وطلبا لشفاعتهم كما قال إخوانهم من قبل : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ . وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا .
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله :
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا .
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها وإليها ، ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله .
ونهى عن إيقاد السرج عليها ، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها . ونهى عن أن تتخذ عيدا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر ، . . .
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته ، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث ويرفعونها عن الأرض كالبيت
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 203)
ويعقدون عليها القباب ، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ، كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجُرّ والجص والأحجار .
قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم ، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها السرج ، الذين يبنون عليها المساجد والقباب منافون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به ، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها ، وهو من الكبائر . . . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله . . . . وهو يصف ما حدث في وقته وقد زاد الأمر على ما وصفه بأضعاف وغلوا في الموتى فعبدوهم من دون الله وكذلك ارتكبوا ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه وإطرائه مضاهاة للنصارى في مدح عيسى ابن مريم حتى رفعوه فوق منزلته حتى وقعوا في الشرك الأكبر ، وأظهر لهم الشيطان هذا الغلو في قالب تعظيمه ومحبته وأن عدم الغلو فيه تنقيص له وحط من قدره .
وكذلك غلوا في الصالحين كما غلا فيهم قوم نوح من قبل حتى اعتقدوا فيهم شيئا من خصائص الإلهية من جلب النفع ودفع الضر مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فهتفوا بأسمائهم عند الشدائد والكربات ، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وطافوا بقبورهم كما يطاف بالكعبة وذبحوا القرابين عند قبورهم وصرفوا لهم النذور . قال الإمام العلامة ابن القيم : وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين ، وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 204)
الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله - فما زال يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء المقبور وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم . . . .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر ، وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطَّغَام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم . . . انتهى كلامه رحمه الله وهو يصور الداء وأسبابه . ولا علاج لهذا الداء القاتل والوباء الفتاك إلا ببذل الأسباب الشافية والواقية والتي تتلخص في نظري فيما يأتي :
(1) الرجوع إلى الكتاب والسنة وكتب السلف الصالح لفهم العقيدة الصحيحة ومعرفة ما يضادها أو ينقصها من الشرك والبدع والخرافات ونبذ الكتب المخالفة للكتاب والسنة من كتب الصوفية والقبورية والمخرفين .
(2) تدريس كتب العقائد الصحيحة في المراحل الدراسية وتكثيف منهاجها والتركيز عليها في النجاح والرسوب واختيار المدرسين
(الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 205)
المتخصصين في فهم عقيدة السلف وتفهيمها للطلاب ، وأن تكون هناك دروس في المساجد لتفهيم العقيدة لعامة الناس ، ومن لا تسمح له ظروفه بمتابعة الدراسة المنهجية .
(3) اهتمام الدعاة بتصحيح العقائد والدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وإنكار ما يقع من الشرك حول الأضرحة في محاضراتهم ومؤلفاتهم وبيان العقيدة الصحيحة ، واجتماع كلمتهم على ذلك بدلا من اختلافهم في مناهج الدعوة اختلافا شتتهم وحير الجهال فيمن يتبعون منهم .
وأفرح أعداء الإسلام بعدم نجاح دعوتهم ، وقد قال الله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا .
(4) إزالة مظاهر الشرك من بلاد الإسلام بهدم الأضرحة ومنع بناء المساجد على القبور ومقاومة المخرفين ، والمبتدعة ، ورد شبهاتهم وكشف تزييفهم حتى يرتدعوا عن غيهم ويسلم الناس من شرهم .
(5) نشر كتب السلف الصالح وإيصالها إلى أيدي القراء بسهولة وتوفيرها في المكتبات العامة للمراجعة .
(6) توعية الشباب والدارسين بتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المستقيمين والمؤلفات المفيدة في العقيدة وتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المنحرفين والمؤلفات الفاسدة والمخلة في العقيدة .
نفس المصدر السابق _ صالح بن فوزان الفوزان