

-
سلمان رشدي ونسرين
ويقال لهؤلاء المعظمين للملاحدة المحتفين بهم وبعلومهم أترضون أن يعظم سلمان رشدي ونسرين اللذان كفرا بالله وسخرا من الإسلام ومن الرسول عليه الصلاة والسلام؟
ولا ريب أن المسلمين متفقون على تكفيرهما والبراءة منهما، ومن على شاكلتهما، وتكفير من توقف في كفرهما أيضاً، أو اعتذر عنهما فكيف بمن يعظم شأنهما ويفخم أمرهما؟
ولئن كان ذانك الكافران رشدي ونسرين قد تنقَّصا من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وجحدا بعض أحكام الإسلام فإن هؤلاء الفلاسفة قد كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر واتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالكذب على الله وعلى الناس، بل أنكروا نبوته أصلاً.
سبب التفريق بين الفريقين
والذي يظهر لي أن سبب تفريق الناس بين هؤلاء الزنادقة الفلاسفة، وأولئك الكفرة الفجرة (نسرين ورشدي ومن على شاكلتهما) يرجع إلى أمرين.
الأول : جهل كثير من المسلمين بكثير من أحكام هذا الدين العظيم وأصوله فالكفر عندهم لا يقع إلا بالتصريح بسب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. أما من يضع لهم ذلك الكفر وأضعافه في قالب الفلسفة ويزينه ببهرج المنطق ويتستر بشيء من العلم أو الزهد أو التصوف فهو في عداد المؤمنين بل ربما ألحق بالعلماء العارفين وشيوخ الإسلام العابدين!
الأمر الثاني: انبهار كثير من المسلمين بما وصلت إليه الأمم الكافرة من تقدم في العلوم الدنيوية وما فتح الله عليهم من أبواب كل شيء فأخذوا يبحثون عن شيء يفاخرون به الكفار ويدفعون عن أنفسهم وصمة الجهل والتخلف في علوم الدنيا فوجدوا ضالتهم في أولئك الفلاسفة الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وإخوانه خاصة وهم يرون تقديس علماء الغرب لهم وتعظيمهم لعلومهم وإفادتهم من كتبهم ومؤلفاتهم التي لا تزال حتى الآن من المراجع الرئيسة في الطب والفيزياء والفلك والرياضيات ونحوها من العلوم.
ونسي هؤلاء المنبهرون المخدوعون أو جهلوا تلك الدرجة الرفيعة السامية التي وصل إليها المسلمون الأوائل في علوم القرآن والحديث والتفسير والفقه واللغة والتاريخ وغيرها وهي العلوم التي امتاز بها المسلمون على سائر الأمم.
نسي هؤلاء، أو تناسوا، جهابذة العلم وحفاظ الإسلام، كالصحابة الكرام وتابعيهم والأئمة المشهورين من بعدهم مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق والبخاري ومسلم ومن جاء بعدهم كابن تيمية وابن القيم والذهبي والمزي وابن كثير ونحوهم.
فهؤلاء وأمثالهم هم مفخرة المسلمين وعلومهم هي أشرف العلوم وأزكاها وأنفعها في الدنيا والآخرة ولو فرض أن المسلمين لم ينبغوا في علم من العلوم التجريبية التي يقدسها الغرب ويعظمها كثير من أبناء المسلمين اليوم فلا غضاضة عليهم في ذلك ولا ينقص ذلك من قدرهم شيئاً فحسبهم ما عندهم من علوم ربانية وحكمة نبوية ورثوها عن إمام العلماء وسيد الحكماء صلى الله عليه وسلم.
أشرف العلوم وأنفعها في الدنيا والآخرة
وقد ساءني إصرار الدكتور وليد الفتيحي هداه الله في مقاله اللاحق رقم (5) الذي أكد فيه ما كان ذكره من قبل في مقالاته السابقة من تمجيد وتعظيم لتلك الفئة الضالة المنحرفة من الفلاسفة الملاحدة وزاد فيه قوله: (نكمل معكم اليوم رحلتنا مع العلم والإيمان بين كل من الشرق والغرب التي اقتفينا خلالها آثار صورة العالم المسلم عقلاً وروحاً عبر مئات السنين بانتقاء سيرة بعض عمالقة العلم في التاريخ الإسلامي من أمثال ثابت بن قرة وعبد الرحمن بن أحمد بن يونس والبيروني والرازي والخازن وابن النفيس وابن الهيثم وما هؤلاء إلا أسماء قليلة من مئات العلماء المسلمين الذين مارسوا أسمى صور العبادة لخالقهم عندما فهموا نصوص القرآن والسنة التي تدعو للعلم والتفكر والبحث والنظر والتي ترفع من قدر العلم ومكانة العالم فتضعه فوق العابد…) الخ.
قلت: وقد اشتمل هذا الكلام على جملة من الأخطاء والمغالطات التي وددت لو أن الدكتور لم يقع فيها:
1- فمن ذلك قوله عن أولئك المنحرفين الضالين إنهم : (عمالقة العلم في التاريخ الإسلامي) هذا إطراء لا يستحقه أمثال هؤلاء، فقد علمت قولهم في الله تعالى وإنكارهم لحقيقة وجوده وجحدهم لصفاته وكلامه واعتقادهم السيئ في الملائكة والرسل واليوم الآخر.
2- ومن ذلك قوله في وصف أولئك الضالين إنهم: (مارسوا أسمى صور العبادة لخالقهم) وهذا جهل عظيم وزلة كبيرة من الدكتور ، إذ إن أسمى صور العبادة أي أعلاها لم يبلغها إلا الأنبياء عليهم السلام وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الصحابة من بعدهم وتابعوهم بإحسان.
أما أولئك المنحرفون فإن حسبهم إن عذروا في أخطائهم وبلاياهم أن يلحقوا بعوام المسلمين لا أن يكونوا في مصاف علمائهم وعبادهم.
3- ومن ذلك وصفه لهم بأنهم: (فهموا نصوص القرآن والسنة التي تدعو للعلم والتفكر والبحث والنظر والتي ترفع من قدر العلم ومكانة العالم فتضعه فوق العابد) وهذا جهل آخر أيضاً بمعنى العلم ومدلوله في القرآن والسنة فإن العلم المندوب إليه في نصوصها هو العلم بالله وبأمره وشرعه وهذا مطرد في كل النصوص.
قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة/11].
وقال: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران/7].
وقال: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك} [النساء/162].
وقال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط} [آل عمران/18].
وقال: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير} [القصص/80].
وقال: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت/49].
وقال: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} [الروم/56].
وقال: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} [سبأ/6].
وقد تضمنت الآيات السابقة نفي العلم عن أولئك الفلاسفة الضالين فإنهم لم يؤمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشهدوا شهادة الحق على وجهها، وقد قدمنا لك حقيقة مذهبهم الفاسد في وجود الله وصفاته ، وفي أركان الإيمان وأصوله.
وقد وصف الله تعالى رسله عليهم السلام بالعلم والحكمة وامتن عليهم بها فقال عن يوسف:{ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلما} [يوسف/22].
وقال: {ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً} [الأنبياء/74]. وقال: {ولقد آتينا داود وسليمان علماً} [النمل/15].
ووصف الحق سبحانه كتابه ووحيه بالعلم فقال: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} [البقرة/120].
ولا ريب أن العلم الذي آتاه الله رسله وميزهم به عن سائر خلقه هو العلم الديني الشرعي إذ الرسل إنما بعثت لتبليغ الناس وتعليمهم هذا العلم أما العلوم الأخرى فإنها تستفاد بالتجربة والنظر ويشترك فيها سائر الناس مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم كما يشتركون في سائر الأمور الدنيوية المباحة كالصناعة والتجارة والزراعة ونحوها.
وقد دلت السنة على ما دل عليه القرآن، من أن العلم إذا أطلق في مقام المدح والترغيب فالمقصود به علم الشريعة ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً) الحديث .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العلماء وإنما يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) .
فالعلم هنا المقصود به علم الدين المستقى من الوحي المنـزل، لا العلوم الدنيوية.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) هو من هذا الباب وللحديث قصة سيق من أجلها تدل على المطلوب وهي أن رجلاً أتى أبا الدرداء رضي الله عنه وهو في مسجد دمشق فقال يا أبا الدرداء: إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بلغني أنك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ما كانت لك حاجة غيره؟ قال: لا. قال: ولا جئت لتجارة؟ قال: لا . قال: ولا جئت إلا فيه؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) وساق بقية الحديث، وذكر فيه فضل العالم على العابد وقال في آخره: (وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) .
فآخر الحديث يفسر أوله، لأن الأنبياء لم يورثوا علم الفلك والطب والفيزياء ، وإنما ورثوا العلم الشرعي الذي به يعرف الله ويعبد وبه تحيا القلوب وتزكو النفوس، وتصلح أمور الدنيا والآخرة.
وقد فهم أبو الدرداء رضي الله عنه وهو راوي الحديث أن العلم المذكور فيه هو علم الشريعة ولهذا سأل الرجل: هل جئت لحاجة من حاجات الدنيا؟ فلما أخبره أنه إنما جاء ليسأله عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق الحديث المذكور.
قلت: ولا أعلم خلافاً بين العلماء من السلف والخلف في أن العلم المأمور به والمندوب إليه في نصوص الشرع هو العلم الشرعي المستقى من الوحيين: الكتاب والسنة.
وحال الأئمة والعلماء وفعلهم يؤكد ذلك فقد أفنوا أعمارهم وشغلوا أوقاتهم بطلب العلم الشرعي وجمعه والتفقه فيه والرحلة إليه ثم العمل بمقتضاه.
نعم كانت لهم علوم أخرى دنيوية في الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها مما يحتاجه الناس في معاشهم وبرع بعضهم في علوم الفلك والطب والحساب لكنهم لم يساووها بعلوم الدين والشرع ولم يفنوا فيها الأعمار والأوقات ولم يشتهروا بها كما اشتهروا بتلك.
وهاهنا شبهة قد يثيرها بعض المفتونين بهؤلاء الفلاسفة فيقولون: إن العلوم التي برعوا فيها انتفع بها سائر الخلق بخلاف علوم الشرع التي اقتصر نفعها على المسلمين فقط.
والجواب عن ذلك أن يقال: إن النفع الحاصل للناس من علوم الطب والفلك والطبيعة ونحوها لا يتعدى هذه الحياة الدنيا بخلاف علوم الشرع التي عم نفعها في الدارين: الدنيا والآخرة.
ولا نسلم أن العلم الشرعي اقتصر نفعه على المسلمين فقط، فإن الوحي الإلهي فيه صلاح أمور العباد كلهم في سائر شؤون حياتهم ومعاشهم على مر الدهور واختلاف العصور.
قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [إبراهيم/1].
وقال: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل/97].
وقال: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه/123-124].
وقال: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف/96].
فالعلوم الربانية فيها حياة القلوب والأرواح وشفاؤها وهدايتها واستقامتها بخلاف غيرها من العلوم التي يظن أنها توصل إلى معرفة الله وعبادته وغاية ما فيها الدلالة على وجوده وقدرته وهذا وحده لا يكفي للنجاة قال الله تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام/122].
وقال: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى/52].
فسمى الله تعالى وحيه المنـزل روحاً لأن به حياة الأرواح وسماه نوراً لأنه نور البصائر والقلوب.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء قبل نزول الوحي عليه ولم يكن قد دخل في شيء من أمور الجاهلية حاشاه فقد صنعه الله على عينه وجبله على خلق عظيم.
ومع ذلك فإن حاله بعد الوحي والعلم الإلهي مباينة لما كان عليه من قبل كما دل عليه قوله تعالى:{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}.
ثم نقول: لو كانت العلوم الدنيوية نافعة وحدها في هداية الناس لانتفع بها هؤلاء الزنادقة وحالهم كما رأيت كفر بالله وجهل بدينه وتكذيب بكتبه ورسوله.
ثم هل يصح أن يسوى بين علم أنزله الله عز وجل على رسله وأمرهم بتبليغه وجعله نوراً للناس وبين علوم أرسطاطاليس وبطليموس وجالينوس وسقراط ونحوهم من ملاحدة الإغريق وفلاسفة اليونان؟
حكم تعلم العلوم الشرعية
طلب العلم الشرعي منه ما هو فرض عين على المكلفين وهو علم توحيد الله سبحانه ومعرفته وما يتبع ذلك من مسائل الاعتقاد المجملة كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره فإنه لا يصح إيمان إلا بعلم.
وكذا علم فرائض الإسلام كالصلاة والصيام الزكاة والحج وغيرها من العبادات والمعاملات يجب على المكلفين بها تعلم أحكامها.
وأما تعلم ما سوى ذلك من تفصيلات مسائل الإيمان وشرائع الإسلام الأخرى فمنها ما هو فرض على الكفاية ومنها ما يعد من النوافل والمستحبات.
حكم تعلم العلوم الدنيوية
أما تعلم العلوم الأخرى، كالرياضيات والفيزياء والطب والفلك والهندسة ونحوها من العلوم الدنيوية فالأصل فيه الإباحة وقد يكون مطلوباً حسب حاجة المسلمين إليه في معاشهم وقد يصل إلى الواجبات إذا كان من وسائل جهاد الكفار ومما يدافع به المسلمون عن أنفسهم وأعراضهم وديارهم وأموالهم.
أما الظن بأن كل ما وصل إليه الكفار من علوم فإن على المسلمين تعلمه والبراعة فيه فهذا ظن خاطئ إذ الواجب على المرء أن يجعل الآخرة همه لا الدنيا ومتاعها وعلومها.
ولا فرق بين أن تذهب الأعمار وتهدر الأوقات في طلب المال والتجارات وبين هدرها في تتبع دقائق العلوم الدنيوية والحذق فيها.
ومعلوم أن الكفار لا هم لهم إلا الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها وقد صرفوا كل أوقاتهم وأيامهم من أجل عمارتها وتحسين معيشتهم فيها فكان حرياً إذاً أن يبرعوا في كل شأن من شئونها ويبرزوا في كل علم من علومها.
وليس هذا خاصاً بالكفار في هذه العصور المتأخرة كما قد يظن ذلك بعض المفتونين بالمدنية المعاصرة بل لم يزل ذلك ديدن الأمم الكافرة عبر القرون.
ألم يكن في قوم إبراهيم وقوم عاد وثمود وأصحاب مدين وسبأ وغيرهم من الأمم الغابرة حضارات دنيوية وعلوم متقدمة سبقوا فيها غيرهم ممن عاصرهم من الأمم بل فاقوا بها بعض من جاء بعدهم كالعرب الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فماذا أغنت عنهم علومهم وحضاراتهم؟
قال الله تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [الأعراف/74].
وقال: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية} [سبأ/15].
وقال: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات} [الروم/9].
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد أثبت الله تعالى للأولين علوماً لكنها لم تنفعهم ولم تغن عنهم شيئاً لما أعرضوا عن علم الوحي والعمل به.
قال الله تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} [غافر/83-85].
فأثبت لهم الله عز وجل علماً لكنه لم ينفعهم حين كفروا بالله وكذبوا الرسول.
وقال تعالى: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم/6-7].
فنفى عنهم العلم النافع المتلقى من الوحي الصادق وأثبت لهم العلم الدنيوي.
قال القرطبي في تفسيره [14/7]: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} يعني: أمر معاشهم ودنياهم متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون.
قال الحسن: بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي.
وقال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا. {وهم عن الآخرة} أي عن العلم بها والعمل لها {هم غافلون} انتهى باختصار.
قلت: والمقصود أن هذه المدنية الغربية التي فتنت بزخرفها وبهرجها كثيراً من أبناء المسلمين خاصة المشتغلين بالعلوم الدنيوية لا ينبغي أن تصبح غاية يتطلع إليها المسلمون ويتسابقون في تحصيلها والتنافس فيها بل حسبهم أن يأخذوا منها ومن علومها قدر حاجتهم وكفايتهم من غير إفراط ولا تفريط فإن الحياة الدنيا دار ممر لا دار مقر والمقصود العمل للآخرة ولا يستقيم العمل لها إلا بالعلم الشرعي الموروث من أعلم الخلق وأكثرهم عبادة وتضرعاً وخشية وتقوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهو القائل: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) .
والقائل: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) .
فلم يكن صلى الله عليه وسلم ، ولا أمته أعلم الخلق بأمر الدنيا ولم يرغب أمته فيها وفي علومها وإنما رغبهم في العلم الشرعي فقال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) .
وقال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) .
وقال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .
وقال: (نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه) .
ودعا لابن عباس رضي الله عنهما فقال: (اللهم علمه الكتاب) .
والأحاديث في الترغيب في طلب العلم الشرعي وتعلمه وتعليمه أكثر من أن تحصر.
واعتبر بحال أولئك الفلاسفة الذين عظم الدكتور من شأنهم وفخم من أمرهم هل نفعتهم علومهم التي أفنوا أعمارهم فيها وأهدروا أوقاتهم في تحصيلها؟
كلا، بل قادتهم إلى الكفر والتعطيل والزندقة هذا من حيث الاعتقاد والعلم.
أما العبادة فأحسنهم حالاً من كان يعبد الكواكب ويتردد إلى الهيكل لعبادة الأصنام والعكوف عليها كما مر في ترجمة الصابئ: ثابت بن قرة.
وحسبك ما جاء في ترجمة شيخهم وإمامهم الطبي العبقري: ابن سينا مما تقدم ذكره أنه كان يسهر فإذا غلبه النوم شرب قدحاً من شراب .
وأنهم كانوا إبان وزارته إذا فرغوا من القراءة عليه (حضر المغنون وهيء مجلس الشراب) .
وقال خادمه إنه كان: (يسرف في الجماع فأثر في مزاجه) .
واستمر على إسرافه في الجماع حتى قبل موته حين أصابه القولنج مما أضعف قوته وزاد علته .
فأي عبادة تلك التي يزعم الكاتب أنهم بلغوا أسمى درجاتها وأعلى منازلها؟!
حال السلف في العلم والعبادة
بل الذي بلغ أسمى الدرجات وأعلى المنازل في كل فضيلة وخلق ودين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أئمة السلف وعلماؤهم.
أما العلوم الشرعية فهم أساطينها لا ينازعهم فيها منازع ومن قرأ سيرة الإمام أحمد والبخاري ومسلم وابن معين وابن المديني وأضرابهم وسيرة ابن تيمية وابن القيم والذهبي ونحوهم رأى العجب العجاب.
وأما العبادة فحسبك مثالاً على ذلك ما جاء في ترجمة الإمام حماد بن سلمة في تهذيب التهذيب [3/13] : قال ابن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً).
وجاء مثله في التهذيب [9/210] : (كان بالكوفة ثلاثة لو قيل لأحدهم إنك تموت غداً ما كان يقدر أن يزيد في عمله. محمد بن سوقة وعمرو بن قيس الملائي وأبو حيان التميمي).
وذكر في ترجمة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في السير [3/370] أنه كان لا ينازع في ثلاثة: شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة وأنه كان صواماً قواماً.
وجاء في الحلية [7/144] في ترجمة شعبة بن الحجاج : (قال البكراوي: ما رأيت أعبد لله من شعبة لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه ليس بينهما لحم).
قلت: ولولا خوف الإطالة لسردت من أحوالهم وعلومهم وعبادتهم وأخلاقهم أكثر مما ذكرت وأعجب مما سطرت وكتب السير والتاريخ والتراجم تزخر بالعجائب من ذلك.
الخاتمة
وبعد فقد بقيت مسائل وشبهات متعلقة بالموضوع لعلها تفرد في جزء لاحق إن شاء الله تعالى ولعل فيما سطرته هنا كفاية في التنبيه على خطأ تعظيم المسلمين لأعداء الله من الزنادقة والملاحدة البارعين في العلوم الدنيوية وتصحيح المفهوم تجاه تلك العلوم وأنها لا تقارن بالعلم الشرعي المتلقى من الوحي فضلاً عن تفضيلها عليه.
وأسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح الذي فيه نجاتنا وفلاحنا في الدارين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب
المهندس
سمير بن خليل المالكي الحسني
.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة gardanyah في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 12-06-2008, 10:21 AM
-
بواسطة مسلم77 في المنتدى مشروع كشف تدليس مواقع النصارى
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 04-03-2008, 12:39 AM
-
بواسطة muad في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 11
آخر مشاركة: 21-01-2008, 01:41 PM
-
بواسطة Amine-al monadi في المنتدى منتدى غرف البال توك
مشاركات: 4
آخر مشاركة: 23-11-2005, 02:57 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات