هيا استعجلوا.. اليوم هو آخر يوم لنا في روما، ونريد أن نزور أماكن كثيرة.

كان نهارًا حافلًا.. زارت العائلة حدائق ومنتزهات، وركبوا القوارب في البحيرة الصناعيّة.. وختموا جولتهم بالذهاب إلى السوق.. وعند خروجهم وكز جورج كاترينا بخفّة.. وابتسم ابتسامة ذات مغزى:

لم تقومي بشراء الصليب، فهل أصبحت لا تحبين المسيح؟ لم أزدد إلا حبًّا له، لكن الحب بالطاعة والعمل وليست بالصلبان فقط. هذا ما كنت أقوله لك منذ فترة، ليست المحبة بالصلبان والتماثيل والرهبان والقساوسة. دعنا من هذا الآن، أيها البروتستانتي المتعصب. أو ربما يكون حبي للمسيح سيجعلني مسلمًا إرهابيًّا، رغم أني لم أقرأ الكتاب. أظنك تصلح أن تكون إرهابيًّا، كما تصلح أن تكون هندوسيا تعبد البقر. هههه.
مع حلول المساء.. توجهت الأسرة إلى مطعم فاخر يطلّ على نهر التيفرة، وتناولوا عشاءهم على إطلالة باهرة وجو ٍّجميل منعش..

سمعتكما كثيرًا تتحدثان عن الدين، هل الدين مهم للناس؟ بلا شك يا مايكل. أحد أصدقائي في المدرسة يقول: إن الإلحاد هو الأصل، وإن الطبيعة هي التي خلقتنا، وإن التفكير الديني والتفكير في الدين هو من الأساطير القديمة البالية. وأنت ما رأيك؟ أعتقد أن بعض الأمور في الدين خرافة. فرق بين أن يكون الدين خرافة وأن يكون في بعض الأديان خرافة. لكن الخرافات في الدين كثيرة جدًّا، كما يقول صديقي. مثل ماذا يا صغيري؟! رغم أن الأستاذ في المدرسة شرحه أكثر من مرة، إلا أني لم أفهم عقيدة التثليث، ولا الفداء، ولا... ربما لصغر سنك يا بني، وعندما تكبر ستفهمها. يقول لي صديقي الملحد الذي حدثتك عنه: «إن من ستسأله سيقول لك إنك صغير، لكن صدقني إنهم جميعا لا يفهمون ذلك»، فهل أنت تفهمين هذه الأمور؟! نعم، نعم إلى حد ما. وأنت يا أبي؟ هههه، لا، لا إلى حدٍ ما! أشعر أن الموضوع صعب، فهل الرب يريد إرهاقنا لكي نفهمه؟
تضجرت كاترينا..

أوووف، أنت تصعب الأمور مثل أبيك، الأمر أسهل من ذلك يا صغيري.
بحزم أردف جورج..

رائع يا مايكل، لا يمكن أن يأتي الرب بشيء تستحيله العقول، فإن بدا ذلك لك فهذا يعني أنك يجب أن تتعلم أكثر لتفهم، أما كون الأمور تتحول لأسرار فلا تقبل ذلك. إذن أنت توافق صديقي الملحد يا أبي؟ أبدا، فالإلحاد أساطير تخالف العقل مخالفة كلية. لم أفهم يا أبي؟ هل يمكن أن يكون العالم وجد صدفة؟! وخلق الناس بالصدفة؟! الملاحدة لا يقولون ذلك يا أبي، فبعضهم يتحدث بعلم عن نظرية داروين التي درسناها في مادة الأحياء. نعم، نظرية داروين من النظريات التاريخية القديمة، أما الآن فقد ثبت خطؤها علمًا وعقلًا. كيف؟ يمكنك أن تسأل مدرس العلوم، هو أعرف مني بذلك وتفصيله، ويمكن أن أشتري لك كتابًا تفصيليًّا عن ذلك، يجب أن نعتمد على العلم لا على الأساطير، حتى لو بدت علمية. لكن المشكلة في أن الدين يخالف العلم. لا يمكن، فلا يستغني واحد منهما عن الآخر أبدًا. كيف؟ يمكن أن ألخص لك ذلك بمقولة أينشتاين: «العلم بلا دين أعرج، والدين بلا علم أعمى». تعني أن الملاحدة علمهم أعرج؟! بل جهلهم أكثر من علمهم، وما يعلمونه أعرج، كما أن الدين بلا علم قد يتحول إلى أساطير وأسرار؛ فلذلك هو أعمى..
سكت مايكل وظل جورج يتأمل هل هذه التساؤلات التي تبدو أكبر من عمره دليل على الذكاء أم مرض الشك في صورة مصغرة. عندما عادت العائلة إلى الفندق.. كان جانولكا بانتظارهم في صالة الاستقبال، وما إن لمحهم حتّى قام إليهم وألقى التحية..

زيارة مفاجئة، مرحبا بك. صديق القس مرحبا بك، لم نرك في القداس! لم أحضر القداس منذ قرابة السنة. كيف تصاحب القس إذن؟! يبدو أن القس مقدس جدا عندكِ، رغم عدم إجابته أسئلة جورج وتهربه منا، فقد تأكدت منه مما حدث.
جورج باستغراب:

وهل كنت تكذبني. لا أبدًا، لكن للتأكد, فقد كان تصرفا غريبا، ويبدو أنه كما قلت: لم يود القس أن يخرج كاترينا لوحدها.
فتحت كاترينا عينيها باستغراب..

ولماذا أنا بالذات؟! قلت لك هو يفرق بين الخطاب العام التي أنت أحد المستفيدين منه، وبين الخطاب الخاص، عمومًا.. لا أود أن أطيل عليكما، أظن سفركما غدًا. نعم. جئت لأودعكما، وأحب أن يستمر تواصلنا معا، فأنا سعدت بلقائكما. ونحن كذلك.. شكرا لك. ولدي طلب، هل من الممكن أن تعطيني الكتاب؟ فقد طلبته من صديقي وأخبرني أنها النسخة الأخيرة لديه. ألهذه الدرجة الكتاب مهم عندك؟! جلستنا في ذلك اليوم أثبتت لي أني لا أعرف عن الإسلام إلا كلامًا عامًّا، أو تقارير إعلامية، فقررت أن أفهم هذا الدين، وعنوان الكتاب شدني؛ فوددت أن أقرأه. سأصعد للغرفة مع الأبناء، وسآتيك بالكتاب.. هيا مايكل، هيا سالي.
ابتسم جورج ضاحكًا وقال:

ههه، إذن قررت دراسة الإسلام؟ نعم. وهل ستصبح مسلمًا؟ هل تتوقع أن أكون كالقذافي رئيس ليبيا السابق مثلًا.. أنا أدرس كل الأفكار بدون تمييز، واكتشفت أني لا أعرف الإسلام في تلك الجلسة، فرغم كثرة المعلومات عندي عن الإسلام إلا أنها كلّها غير موثقة. أنا لم أقرأ عن الإسلام، وسأقرأ في المرحلة القادمة، وللأسف لم أقرأ الكتاب، وكنت أود أن أقرأه. عذرا الكتاب لكما، وأنا أعتذر عن طلبي.
جاءت كاترينا ومعها الكتاب، وأعطته لجانولكا الذي أخرج ورقة وقلمًا ودوّن فيها بعض المعلومات عن الكتاب، ثمّ أعاد الكتاب شاكرًا..

ألا تريد الكتاب؟ لقد أخذت موقع الكتاب على الشبكة الدولية، وهذا يكفي، تحياتي لكما.
صعد جورج وكاترينا للغرفة.. وفتح جورج جهاز الحاسوب، فقد كان ينتظر جواب أصدقائه عن سؤاله: إن كان بولس هو محرف التوراة أم ماذا؟ وكانت المفاجئة أن الإجابات جميعها أجمعت على التحريف، واختلفت في طريقتها.. كتب كل الإجابات وأعاد إرسالها إليهم جميعًا..

حبيب: تاريخيًّا.. للأسف نعم. توم: إن كان محرفًا فلا يهمني من حرفه. آدم: سؤال ملغوم، لا أعرف من الذي حرفه. ليفي: ومن حرف العهد القديم إذن؟! ربما كانت المشكلة في الكتابة وتأخرها، وليس القصد التحريف.
ثم كتب لهم:

«الحلقة الرابعة: بصراحة، هل لديك رغبة في التعرف على الإسلام؟ ولماذا؟ أنتظر إجابة مختصرة لو سمحتم.. غدًا مساء سأكون في لندن جورج ـ روما»
أرسلها لجميع زملائه، وأضاف لهم هذه المرة كاترينا وجانولكا.. وتابع تصفح بريده فوجد رسالة من توم:

«إلى جميع الأصدقاء، أشعركم بأن صفحتي على الفيس بوك قد سرقت مني، وأنا أتفاوض مع الموقع لإعادتها لي، وأعتذر عن أي شيء مشين يظهر فيها، فهو لا يعبر عني. توم»
وفتح الصفحة فوجد فيها صورًا لتوم مع كثير من النساء بأوضاع غير محترمة، فكانت نفسه تحدثه: هل بدأت المعركة بين توم وبراد؟ ثم تذكر مقال آدم عن التقلبات الفكرية للطبيب، وقال: صدق آدم، أظن أن توم كان في الحضيض. استمر جورج في مشاهدة الصور، واستوعب بعد مدة قصيرة أنه كان ينظر في صور النساء ليبحث عن كاترينا فيها، ورأى أن ذلك شك في غير محله، ولا يليق به ولا بها. فأغلق جهازه، وقام إلى كاترينا؛ حيث كانت مستلقية على السرير وقبّلها، فأحسّت بقبلته فقبلته وفتحت عينيها وابتسمت..

أحبك. وأنا أحبك أيضًا.. اقتربي مني.
مرّ اليوم التالي سريعًا، إذ لم تكن أمامهم إلا ساعات معدودة قبل موعد ذهابهم إلى المطار.. ذهبوا إلى السوق، وهناك ذكّرت كاترينا جورج بهديّة آدم، الحقيبة الجلدية الفاخرة جدًّا والرخيصة جدًّا، حتى وقفوا أثناء التسوّق على محل للحقائب الجلديّة الأصليّة، وكانت عنده تصفية على بعض الأنواع، حتى إنّه يبيع بعضها بخصم بلغ 80%، فاشترى لآدم حقيبة فاخرة ورخيصة.. وخرجوا من المحل وهم يضحكون على الطلب الغريب، وعلى الصدفة التي مكّنتهم من تحقيقه. وبعدما تناولوا الغداء في مطعم قريب من السوق، عادوا إلى الفندق ليأخذوا حقائبهم.. ومضوا إلى المطار.