وصلوا إلى مطعم الفخامة بعد مشي استغرق خمس دقائق تقريبًا.. فانحنى جورج مقتربًا من مايكل وسالي:

أحبائي.. ما رأيكما أن تأكلا في شرفة المطعم؟ وأنت وماما أين ستأكلان؟ لدينا موعد مهم، وأفضل أن تجلسا وحدكما في الشرفة؛ لتتحدثا معًا، وتتأملا المناظر الجميلة. حسنًا، هيا بنا يا سالي.
جلس جورج وكاترينا وجانولكا على طاولة متوسطة.. وفيما كانوا ينظرون في قائمة الطعام.. التفت جورج إلى جانولكا..

أين صاحبك المسلم؟ أخشى أن يطلب أن يتحدث معك وحدك وتتركنا.. عموما سيأتي بعد قليل لأخذ الطلبات. أنا لم أطلب منك أن تتركني مع القس، صاحبك القس هو من طلب ذلك. لكنك وافقته مباشرة. ههههه ألا تجب طاعة رجال الدين؟! المهم.. كان يريد أن يقول لي لا يوجد إجابة لأسئلتي، ولم يكن يريد أن تريا ضعفه وعدم معرفته.
امتعضت كاترينا ونظرت لعيني جورج:

لا يمكن ألا يكون لدى القس لويجي إجابة لمثل هذه التساؤلات البسيطة! أعرف أنه ليس لديه إجابات، وهو يعرف أني أعرف ذلك، فلمَ كان يريدنا أن نخرج؟ أشعر أن في الموضوع شيئا آخر. بإمكانكما سؤاله، فأنتما تعرفانه أكثر مني، وأظنه استحى أن يُخرج كاترينا لوحدها.
مرت فترة صمت.. رأى جورج الحيرة والشك لأول مرة في نظرات كاترينا التائهة، وكأن عيناها تتحدث عن اضطراب في داخلها تحاول أن تتغلب عليه وتخفيه، ربما كان سكوتها أشبه بالبركان في فترة الكمون لا ترى إلا دخانه، أما جانولكا فكان سكوته باستغراب من تصرف صاحبه على شيء معروف، كما أنه لا يزال لديه شك فيما قاله جورج وأن وراء الأكمة شيئًا آخر. جاء النادل ليأخذ طلبات الغداء، وقطع فترة الصمت الرهيبة.. فسأله جانولكا عن سليم صاحب المطعم، وطلب التحدث معه إن كان ذلك ممكنًا..

سيدي سليم مجتمع مع عدد من أصدقائه في مكتبه.. سأخبره بطلبك. عفوًا ما هي طلباتكم للغداء؟
أخبروا النادل بطلباتهم، وأخبر جورج النادل بمكان مايكل وسالي ليوصل لهما طلبهما.. ثمّ نظر إلى جانولكا مستفسرًا..

سليم هل هو المسلم الذي أخبرتني عنه؟ نعم، وعندما تراه ربما تحسبه إيطاليًّا لأول نظرة.. وبالمناسبة هو يتحدث الإنجليزيّة بطلاقة. جيد، لعله يأتي بعد قليل لنسمع منه.
تكلمت كاترينا بعد الصمت المكلوم:

الآن لنعد إلى القس.. أنت تقول بأنه لم يستطع إجابة تساؤلاتك! نعم، بل يقول إنه طوال حياته يبحث عن إجابة لهذه وغيرها كثير، ولم يستطع أن يصل لإجابة مقنعة. مستحيل! القس الذي تتحدثين عنه يا كاترينا صديقي، وأعرف أنه لا يعرف إجابتها، فقد ناقشته فيها وفي غيرها مرارًا، لكن ما أستغربه هو لماذا أراد أن نخرج؟! هذا ما لا أعرفه! القس لويجي ستافينوا من أهم من كان يعينني على اليقين، فكيف تكون هذه الشكوك عنده؟!
تنهد جانولكا، ونظر إلى الأعلى، وقال:

تجربتي تقول: كلما ازداد علم القس، كان أكثر مرونة في الحديث الخاص، وازداد تأثيرًا في الخطاب العام بما يتناسب معهم. ماذا تقصد؟ ما سمعتِه منه هو الخطاب العام، وما يقوله في جلساته الخاصة شيئًا آخر، عمومًا أنا أتفهم هذا، ماذا تريدين منه أن يقول في خطابه العام؟! تريدين أن يقول: أنا لا نعرف الرب، أو أن الكتاب المقدس محرف أو مختلق؟!
دمعت عينا كاترينا وهي تقول:

لا، أريده أن يقول أن الرب الكريم الرحيم الواحد ولو كان له أقانيم ثلاثة، هو الذي أنزل الكتاب المقدس.
جانولكا بنظرة شفقة لكاترينا:

وماذا نفعل بتعارض الكتاب المقدس مع نفسه؟! هل تستطيعين أن توضحي لي بطريقة منطقية مقنعة كيف يكون الثلاثة واحد والواحد ثلاثة؟! آمل ألا تقولين لي ما يقولون في الكنائس، فقد سمعته ألف مرة ولم أقتنع به، بل مقتنع بأنه لا يصلح إلا للخطاب العام فقط.
شعر جورج باضطراب كاترينا الداخلي، وبالبركان الذي يتفجر داخلها، وقال لنفسه:

ربما كانت الصدمة من القس أكبر من قدرتها على التحمل فحاول أن يغير الموضوع... ما رأيكما أن تؤجلا حديثكما، هناك رجل قادم إلينا. آه هو سليم.. مرحبا سليم، هناك من يريد التعرف عليك. مرحبًا بكم جميعًا.. مرحبًا بك يا جانولكا وبضيوفك. ضيفَيّ لم يجلسا مع مسلم من قبل، ويودان أن يجلسا معك. مرحبا، أنا من مصر، وأنتما من أين؟ من بريطانيا. المسلمون في بريطانيا أضعاف المسلمين في إيطاليا.
صحيح، ولكني وددت أن أتعرف إلى الإسلام منك، فهل كتابكم المقدس يؤمن بالعهد القديم والعهد الجديد؟ رغم أن معرفتي بالعقيدة الإسلامية يسير جدًّا ولكني سأجيبكما كما أعرف...نعم، يؤمن بهما، ولكنه ـ وأعتذر لكما ـ يعتبرهما محرفين. وهل تؤمنون بموسى واليسوع؟ نؤمن بأنهما نبيان من عند الله. وهل تؤمنون بالرب اليسوع؟ لا، المسلمون يؤمنون أنه رسول كريم وليس ربا. وكتابكم المقدس ما اسمه؟ وكيف وصلكم؟ اسمه القرآن، ووصلنا من النبي محمد.. ماذا تريدان أن تصلا إليه؟ نريد أن نتعرف إلى الإسلام وتعاليمه؟ أنا لا أعرف الإسلام أصلًا، ما أعرف هو السياحة والتجارة، لكن ماذا تريدون من الإسلام؟ فقط نحن مستغربون من العنف والإرهاب الذي لديكم؟ الإرهابيون الإسلاميون الذين لدينا يخربون كل شيء باسم الدين. تقول باسم الدين، أي الدين ليس فيه هذا الإرهاب والعنف؟ نعم، فالإسلام دين سلام وليس دين إرهاب، لكن المسلمون متخلفون متنطعون. مرة أخرى، هل الإسلام متخلف أم الإرهابيون؟ الإسلام ليس متخلفًا، لكن المسلمون متخلفون؟ لو كنتم مسلمين لما أمكن لزوجتك أن تجلس معنا لتتحدث هكذا، أليس هذا تخلفًا؟ لماذا لا يمكن أن أجلس معكم؟ لأنك يجب أن تتحجبي وتبتعدي عن الرجال، أنا في الحقيقة تركت مصر؛ لأبتعد عن هذا التخلف. وهل أهلك ودولتك يرون نفس رأيك؟ ههههه.. أبي وأمي وأصدقائي يقولون لي دائما: إن أفكارك خارجة عن الإسلام. لماذا؟ الإسلام يختلف كليًّا عن المسيحية، أنتم يكفي أن تصلُّوا السبت ولو أحيانا لتكونوا مسيحيين، أما نحن فمن لم يصل يوميًّا خمس مرات يعتبر خارجًا عن الإسلام، أنتم تنتقدون التوراة والإنجيل، أما نحن فمن تكلم عن القرآن فهو خارج عن الإسلام. هل يوجد أحد من أهلك هنا في إيطاليا؟ أسكن في إيطاليا وحدي منذ عشر سنوات، ورفضت أن أعود إلى بلادي، ولأول مرة قبل أسبوع جاء أخي وأمي وأبي، وسيسافرون بعد ثلاثة أيام. هل يمكن أن أراهم؟ نعم ممكن، لكن ـ أعتذر لكم ـ أنتم عندهم كفار. كيف؟ أنت تقول أن الله ثلاثة، وهذا شرك مع الله، فقد كفرت به. وما الجديد؟! نحن نقول إنهم كافرون؛ لأنهم لم يؤمنوا بألوهية اليسوع، فلن يضرنا أن نتقابل؟
لم تزل كاترينا مصدومة مما حدث مع القس، وتشعر أنها لا تتحمل صدمة أخرى:

جورج، ليس لدينا وقت يا جورج، لا تنس غدًا قداس السبت المقدس. سنجد الكثير من الوقت إذا كان وقتهم يسمح.. متى يمكن مقابلتهم؟ هم طوال الوقت إما في البيت أو في المطعم، أتوقع أن يأتوا بعد دقائق، وإن أردت في وقت آخر فسأجعلهم ينتظرونك.. وأكرر: لست مسئولًا عما يقولون لكم.
بدا على وجه كاترينا الاستياء من إصرار جورج، وقالت له بحدة :

عذرًا..لم أفهم مقصدك يا جورج، ولكني أرى إن كنت مصرًّا أن تنتظر دقائق؛ حتى لا نضطر للعودة للمطعم. سأصعد لأرى مايكل وسالي، وأعود إليكم. انتظر، هؤلاء هم قادمون، فهل أدعوهم للجلوس معنا؟ أقترح أن تدعوهم، وسأرى الأبناء وأعود سريعًا. سأدعوهم، وتحملوا نتيجة الدعوة، فهذا طلبكم.. أمي، أبي، خالد تعالوا.. هناك من يرغب بالجلوس معكم. ماذا تريد يا سليم؟
خالد هؤلاء أصدقائي يريدون أن التعرف عليكم، تفضلوا. أعرفكم: هذا أخي خالد، وهذه أمي، وهذا أبي.. خالد يتحدث الإنجليزّية، وأما أمي وأبي فيفهمانها إلى حد ما، لكنهما لا يتحدثان بها، اسمحوا لي جميعًا سأتابع حواركم بصمت ولن أتدخل بشيء. مرحبا بكم جميعا، أنا خالد مهندس معماري، أخو سليم، وهذا أبي عبد الله، وهذه أمي عائشة. أنا جانولكا، إيطالي، أعمل في التجارة الحرة. وأنا كاترينا، بريطانية. أهلا بكم جميعًا.
قدم جورج من عند أبنائه، فألقى التحيّة وصافح خالدًا وأباه، وعندما مدّ يده ليصافح الأم ابتسمت وردّت التحيّة..

معذرة.. ولكنّ أمّي لا تصافح الرجال، هي تقول لك أهلًا بك. أعتذر أنا، فأنا لم أكن أعرف ذلك. تعارفنا قبل أن تأتي، أنا خالد مهندس معماري أخو سليم، وهذه أمي، وهذا أبي. أنا جورج، مهندس حاسوب من بريطانيا، كيف رأيتم روما بلاد العراقة والدين والفن؟ بحكم أني مهندس معماري؛ فأبدأ بموضوع الفن، الفن في روما متفرد، فهي بلاد صاحبة حضارة، وصاحبة تجارب حديثة رائدة، وإن كان فيها شيء لا يعجبني. ما هو؟ الأصنام وتقديس الناس لها لا يعجبني؛ فهو لا يتوافق مع ما تربينا عليه في ديننا، فنحن نعتبر هذا من الوثنية وعبادة غير الله.
تذكر جورج أنه يشبه المسلمين في عدم حبه للتماثيل والوثنية، فتذكر وثنية وتماثيل آلهة الهندوس والبوذيين.. استطرد خالد...

وهذا يدخلني لموضوع الدين في روما الذي سألتني عنه. عذرا على المقاطعة، ماذا تعني بتربيتكم في دينكم؟
في الإسلام لا نشرك مع الله أحدًا، ونعتقد أنه ينبغي أن يوحَّد وحده لا شريك له، ولا ينبغي أن يرفع الناس إلى درجة ورتبة الله، أيًا كان هؤلاء الناس، ولذا كان نبينا محمد ﷺ يقول: (لا تتخذوا قبري يعبد من بعدي، فإنما أنا عبد الله ورسوله).

أفهم من كلامك أننا مشركون؟ من يرى أن الله ثالث ثلاثة هو مشرك بالله عندنا.
تدخلت كاترينا في النقاش، وكأنها تفرغ شيئًا مما في صدرها..

لكن سليم وهو أكبر منك لا يرى ذلك، ويرى أن هذا القول تطرف. أخي سليم أكبر مني وله احترامه، ولا أود أن أختلف معه أمام الناس، ولكني شخصيًّا مقتنع جدا بما قلته.
جورج مقاطعًا..

وهل معنى ذلك أن موسى وعيسى كاذبان؟ معاذ الله، نحن نؤمن بصدق موسى وعيسى عليهما السلام، ونحترمهما ونجلهما، ونعتقد أنهما أرسلا من عند الله، وأنه أنزل عليهما كتبا.. بل نعتقد أن كثيرا من عقائدكم تحط من درجتهما. نحن نحط من قدر الابن يسوع! أنتم تعتقدون أنه قتل، أما نحن فنعتقد أنه لم يقتل، بل أليس بعضكم يرى أنه ابن زنا؟ ألستم أنتم من تعتقدون ذلك؟ وأنتم.. ماذا ترون وتعتقدون في اليسوع والعذراء؟ نعتقد أنه عبد الله ورسوله، وأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم، وأنه مولود من أمه مريم عليها السلام بلا أب بمعجزة من الله، كما خلق آدم من غير أم ولا أب، ولذا تكلم في المهد، وأعطاه الله من الآيات الكثير؛ فكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. إذن لديكم رؤية متكاملة لعيسى عليه السلام، وتؤمنون به، وتؤمنون بالعهد القديم والجديد؟ نعم، نؤمن بالتوراة والإنجيل وبكونهما أنزلا من عند الله. ولكن في الكتاب المقدس أن عيسى ابن الله! نؤمن أنها أنزلت من عند الله ولكنها حرفت، أليس في بعض الأناجيل لديكم أن عيسى عبد الله وليس ابنه وليس إله؟ لا، ليس لدينا شيء من ذلك.
رفع جانولكا شعره الطويل بطرف يده، ورفع يده وقال:

أعتذر عن مقاطعتكما، لكن لدينا في أنجيل برنابا، وهو إنجيل كُتِب في القرن الخامس عشر عن طريق راهب كاثوليكي ارتد عن المسيحية، ولم تعترف به الطوائف المسيحية؛ لكونه اعتبر أن المسيح بشَّر برسول من بعده، وأن المسيح (عيسى) رسول من الله.
فتح جورج عينيه مستغربًا، وقال:

صحيح! ولماذا لم تعترف به الطوائف الكاثوليكية؟! نعم،لم تعترف به الكاثوليكية ولا البروتستانتية؛ وإلا فقد اعترفت به طوائف مسيحية أخرى، وكثير منها أسلم بعد ذلك، ولذا متهم أن من كتبه مسلم.
ابتسم خالد، وقال:

وهناك أدلة أنه الإنجيل الأقرب للصواب. ماذا تعني الأقرب للصواب؟ فهل هناك نسخ صواب وأخرى بعيدة عن الصواب؟
أعني الأقرب للمنزّل من رب العالمين، وأيد ذلك أحد المخطوطات الأثرية، أو الأناجيل التي عثر عليهـا في أحد كهوف بني مزار بمصر، ويعود تاريخهـا إلى بداية القرن الثالث الميلادي، وسمي بإنجيل يهوذا، وفيه نفس الكلام، ولاحظ أنه قبل بعثة النبي محمد ﷺ. جانولكا بسخرية:

صدقت في كل ما تقول، لكن غالب المسيحيين لم يؤمنوا بهذا لإنجيل ولا بذاك.
خالد وهو ينظر لأخيه سليم:

أعتذر إن كنت أزعجتكم، وكل ما أقوله ناشئ من محبتي لعيسى عليه السلام، وللكتاب المنزل عليه من عند الله.
اختلطت مشاعر كاترينا، واغرورقت عيناها بالدمع عندما سمعت محبة اليسوع وقالت:

حياتي كلها فداء ومحبة ليسوع، ولذا نؤمن به وبكونه مخلصنا، ولذا سمينا مسيحيين. أنا لست عالمـًا في الدين، وإنما مهندس معماري، لكن يبدو أنك صادقة في حبك لعيسى عليه السلام، هل قرأت كتاب «حبي العظيم لعيسى قادني إلى الإسلام» تأليف الكاتب الفنزويلي الكاثوليكي الأصل سايمون الفريدو كارابيللو؟ لم أسمع بالكتاب أصلا، ولا أظن أن حبي للمسيح سيقودني لغير الكاثوليكيّة! وهل يضرك لو قرأتيه؟! ألست واثقة في كاثوليكيتك؟! لم أره، وإلا قرأته. هذه نسخة مني لك هدية، لا أدري لماذا أشعر أنك صادقة في حبك لعيسى عليه السلام، عذرا وليس مثل بعض ـ وأكرر بعض الرهبان والقساوسة ـ الذين يبدون أنهم زاهدون في الدنيا، وهم يتكسبون بحب عيسى. شكرًا لك.. سأقرأه، وأنا متأكدة من أنه لن يغير شيئًا في حبي لعيسى ولا في كاثوليكيتي. تقول إنك لست بعالم دين، ثم أراك تتحدث بلغة عالم الدين، بل بلغة الداعية لهذا الدين. الإسلام يدعونا لنكون جميعًا دعاة لهذا الدين، ثم ابتسم ونظر إلى أمه، وقال: ثم أمي لما أجبرتني على المجيء، قالت لي: وهي فرصة لتدعو للإسلام هناك، وأنا لا أعرف الإيطالية، وهذه كانت أول فرصة لي. عذرا، كل الناس يسعدون بالمجيء للغرب المتمدن المتقدم، والهروب من الدول المتخلفة، وأنت تقول أجبرتني؟! أوربا أكثر تقدما منا بكثير، وهذا ما يجعل المهاجرين يسعدون لأنهم استطاعوا أن يصلوا إليها، خاصة بسبب الاضطهاد السياسي والديني والاقتصادي في دولنا، لكني أعمل مهندسا في شركة جيدة، ولي دخلي الذي يكفيني، وبعد سقوط النظام الدكتاتوري عندنا في مصر وضعنا أفضل، وسيكون أفضل مستقبلا إن شاء الله. لكن أليس الاضطهاد الديني والسياسي لديكم سببه الدين؟ لا يمكن أن يكون الإسلام سبب اضطهاد أبدًا. أليس المسلمون هم من فجروا كنيسة القديسين في الإسكندرية؟ هكذا قيل في البداية، وصدَّق العالم كله ومنهم أنا، وإن كنت استغربت ذلك، وبعد سقوط الديكتاتور محمد حسني مبارك الذي يدعمه الغرب، ثبت أنه وجهاز مخابراته وراء التفجيرات، وأعتقد أنك سمعت الخبر الأول، ولم تسمع الثاني كعادة الناس في الغرب. لكنكم لا زلتم متخلفين بسبب دينكم!
أشارت أم خالد (عائشة) إليه، وقالت:

يا خالد قل له إننّا متخلفون يابني بسبب بعدنا عن ديننا!
نقل خالد ما قالت أمه.. وصل الغداء، ووضع على الطاولة، فحاول جورج أن يكمل النقاش السابق...

هل تفهم أمك وأبوك النقاش الذي يدور بيننا؟ نعم، تفهمه جيدا، وإن كانت لا تحسن الحديث، ألم يقل لكم ذلك سليم من البداية، لكن ربما قبل قدومك. هل يمكن أن أسألها؟ أمي تقول لك تفضل، وأنا سأترجم ما تقوله لك. ألا تتمني أن تكوني ملحدة أو يهودية أو نصرانية؟ الأم (ترجمة خالد :(أعوذ بالله، يا ابني، لا يوجد أحد يحب الضياع أبدًا. وهل ما نحن فيه ضياع؟ الأم (ترجمة خالد :(إن لم يكن ضياعًا فلا أعرف معنى للضياع، أنا سعيدة مكرمة معززة في الإسلام. لكن هل هذا رأيك، أم رأي كل المصريين؟ الأم (ترجمة خالد :(رأيي أنا على الأقل، وللأسف لدينا أيضًا من المتأثرين بكم من يرى الدين تخلفًا..
ثم نظرت إلى ابنها سليم، فخفض رأسه..

ولكن المرأة محتقرة في الإسلام! الأم (ترجمة خالد): من قال لك ذلك؟! أنا عمري خمس وستون سنة، ومع ذلك أستطيع أن أجبر ابني خالدًا أن يأتي معي ويطيعني بكل سعادة، رغم أني أعرف أنه مشغول ولا يود أن يأتي، ويزورني هو، وتزورني بناتي كل أسبوع ثلاث أو أربع أو خمس مرات، ويقدمون لي الهدايا، ولا يستطيعون أن يخالفوا كلمة أقولها أو يقولها أبوهم، هل تعرف إكرامًا كهذا؟ لا أعرف الإكرام إن لم يكن هذا هو الإكرام. لم أر أبي ولا أمي منذ ثلاثة أشهر.
ارتبك خالد قليلًا بعد ما سمع إجابة أمه، ونظر إلى سليم الذي بدا أيضًا مرتبكًا..

ماذا تقول..؟ لا أريد أن أزعجك... أبدًا تفضل. تقول: مثل سليم الذي تعلم منكم، وأخذ من طبائعكم. ما أكثر من نراهم لا يتجاوزون شرب الخمر وقلة الأدب والذوق في بلادنا! الأم (ترجمة خالد :(في كل مكان أناس يفقدون بوصلتهم ويضيعون، ولكن متى عرفوا اتجاههم تابوا وعادوا إلى ربهم.
جاء مايكل وسالي من الشرفة بعدما أنهيا غداءهما..

بابا، قلت لنا ستعود بعد ثلث ساعة، ولنا 45 دقيقة، ألن نذهب كما وعدتنا؟ أعتذر، شغلناكما عن أبنائكما. أوه، أنا لم أنتبه للوقت. شاكر لك سليم وخالد وعائشة وعبد الله.. أخذنا من وقتكم الكثير، هذه بطاقتي هل من الممكن أن تعطوني بطاقاتكم؟ أي بطاقات مع أمي وأبي؟! هذه بطاقتي أنا، وفيها بريدي الإلكتروني، هل أطمح أن ترسلي لي رأيك في الكتاب يا كاترينا؟ سأحاول، شكرا لك
عندما انصرف خالد مع أبيه وأمه، توجه سليم إلى ضيوفه معتذرًا..

التزمت الصمت كما قلت لكم، أعتذر عن كل خطأ في حقكم، لكنني قلت لكم من البداية وحذرتكم، ولكنكم مصرون. رغم مفاجئتي بما قالوا، ورغم حدة طرحهم، إلا أنهم كانوا جميعًا لبقون في الحديث، فلا تعتذر.. ههه، بل اذهب واعتذر لأمك لأنك لم تزرها منذ سنين.
ودع جانولكا الجميع وانصرف إلى عمله، وذهب جورج وكاترينا مع الأطفال إلى نافورة تريفي.. كانت نافورة رائعة جدًّا، فرحوا برؤيتها وقضوا بقيّة يومهم حولها.. وقبل انصرافهم رمت كاترينا قطعة نقود فيها، فنظرت سالي إلى أمها متعجبة..

يقولون في الأساطير الإيطالية هنا أن من رمى قطعة نقود هنا يعود إلى روما. بابا، أعطني قطعة نقود لأرميها. لا تصدقي يا ابنتي هذه الخرافات. أعرف أنها خرافات، ولكني أيضا أود أن أرمي قطعة نقود؛ لأقول أني رميت في نافورة تريفي. خذا هذه قطعة نقود لكي وأخرى لمايكل، وآمل يا كاترينا ألا تكوني خرافية.
أجابت كاترينا بحدة واضحة..

وآمل ألا تكون أنت معقدًا.. بسط الأمور، مجرد نزهة.