سند العهد القديم


إعلموا أيها الفضلاء أنه من بين أسفار العهد القديم كلها لا يوجد دليل قاطع على الأتي :

1- إثبات أن هذه الأسفار إلهامية ( كما سنبين إن شاء الله ) .
2- معرفة كتبة ومؤلفي هذه الأسفار .
3- معرفة الزمن والمكان الذي كتبت فيه هذه الأسفار .
فلقد وصل إلى أيدينا ثلاث نصوص مختلفة للعهد القديم ، ولا نقصد هنا أن هناك ثلاث ترجمات ، بل نعني أنه توجد ثلاث نصوص يستقل بعضها عن بعض , وهى :
1- التوراة السامرية .
2- التوراة العبرانية .
3- التوراة اليونانية ( السبعينية ) .

وهذه النصوص متشابهة في عمودها الفقري ، لكنها مختلفة ومتناقضة في بعض التفاصيل الدقيقة ، كما ثمة فرقين كبيرين ، وهما أن التوراة اليونانية تزيد أسفار (الأبوكريفا) السبعة عن التوراة العبرية ، فيما تزيدان معاً كثيراً عن التوراة السامرية ، والتي لا تعترف إلا بالأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى ( التكوين , الخروج , اللاويين , العدد , التثنية ) .

وهذه النصوص يعترف بها وينكرها طوائف شتى من طوائف النصارى , فالتوراة اليونانية (السبعينية) معترف بها عند الكاثوليك والأرثوذكس وقد كتبت بأمر من بطليموس الثاني على يد اثنين وسبعين شيخًا من شيوخ اليهود عام 258 ق . م , ولا يعلم أحد بالطبع هوية هؤلاء الشيوخ , ولا ما هى درجة إجادتهم للغتين ( العبرية واليونانية ) , ولا نعرف من الذي اعتمد تلك الترجمة لهم على أنها كلام الله !
والتوراة العبرانية معتبرة عند بعض اليهود وجميع طوائف البروتستانت من النصارى ، والتوراة السامرية معتبرة عند طائفة السامريين من اليهود فقط .
وكل ذلك على خلاف بينهم , فالكاثوليك والأرثوذكس يقرون أسفارًا عددها سبعة وأربعون , بينما يقر البروتستانت تسعًا وثلاثين فقط بحذف ثمانية أسفار والتي تعرف بـ(الأبوكريفا ) أو الأسفار المنحولة ويسميها البعض " الأسفار القانونية الثانية " . ( أبوكريفا : "أي النص الذي لا تعترف به الكنيسة ولا تقبله في قانون الكتاب المقدس" , انظر الجدول الخاص بالمصطلحات اللغوية للترجمة الكاثوليكية ( اليسوعية ) ص 28 ) .

وثمة خلاف كبير في عدد هذه الأسفار المستترة والزائدة ( الأبوكريفا ) . فالكتاب المعتمد عليه عند الكاثوليكيين الرومان يضم سبعة أسفار من الأبوكريفا , بالإضافة إلى تسعة وثلاثين سفرًا معترف بصحتها عند الجميع , وبهذا يصبح عدد الأسفار المعتمدة عندهم ستة وأربعين سفرًا .
(THE HOLY BIBLE ,RSV ( Revised Standard Version),Catholic Edition (London,1966)p.vi,ix.)

لكن بعض النسخ القديمة للكتاب المقدس تضم بين دفتيها خمسين سفرًا بدلاً من 46 سفرًا , مثل مخطوط الكتاب السكندري .
(F.G Bratton: A Hstory Of The Bible (London,1961) ,p.99)

وتذكر دائرة المعارف الأمريكية أن عددًا كبيرًا من المسيحيين غير البروتستانت يعترفون بصحة أربعة عشر سفرًا أو أكثر , والتي يعدها البروتستانت من الأبوكريفا .
(Encyclopaedia americana, vol,3.p.612.)

ولا يقتصر خلاف الفرق المسيحية فيما بينها بالنسبة للأبوكريفا على عدد أسفارها وعلى النسخ القديمة فحسب , بل يتعداه إلى فقرات في بعض الأسفار , ومنشأ معظم هذه الإختلافات هو الترجمة السبعينية التي أشرنا إليها , والتي اشتملت على أسفار وكتب لم تكن موجودة في المخطوط العبري القديم , وهذه هى الكتب التي سميت"الأبوكريفا" .
(Encyclopaedia Of Cristianity ,p.309; Encyclopaedia americana, vol,3.p.612)

وقبل أن أدلي في المبحث أرى من المناسب أن أوجز القول في تاريخ تدوين هذه الترجمة السبعينية , الأمر الذي يساعد على إدراك المنهج العام الذي أختير لتدوين الكتاب المقدس معتمدًا على أدق وأصح المراجع التاريخية المعترف بها عند القوم , فالعهدة عليهم لا علينا .

في عهد ابن سليمان – عليه السلام – خرجت عشر قبائل يهودية على الحكم , وانفصلت من بين الإثنى عشرة قبيلة البارزة , فظهرت نتيجة لذلك مملكتان يهوديتان متحاربتان فيما بينهما , إحداهما يهوذا والأخرى إسرائيل . وفي سنة 722ق.م هجم الآشوريون على مملكة إسرائيل الشمالية والتي كانت تسمى السامرية , ودمروها وأسروا قبائل إسرائيل وأخذوهم معهم , فماتت بعض هذه القبائل واندمج بعضها الأخر في الأمم الأخرى .( الملوك الأول 12 : 19-20 , الملوك الثاني 17 : 13 وما بعدها وانظر أيضًا :
Roddy & Sellier : In Search Of Historic Jesus ,p.24; J.P .Boyd Bible Dictionary p56,82)

ودمرت القبيلتان اليهوديتان الأخريان على يد ملك بابل بختنصر مرتين , ولا سيما في سنة 586 ق.م وهدم هذا الملك المعبد المركزي لليهود ( الهيكل المقدس ) , وأحرق كتبهم المقدسة , وأسرهم وأخذهم معه إلى بابل , وبعد خمسين سنة من هذه الحوادث تدخل الملك الإيراني كيخسرو في الأمر, ونجاهم من السجن , وأطلق سراحهم إلى فلسطين .ولكن عددًا كبيرًا من اليهود فضل البقاء هناك , وبعضهم سافر إلى مصر , فضاعت كتبهم الدينية ووثائقهم المقدسة في زمن السجن والنفي من الوطن, وكانت الحاجة ماسة إلى تدوينها من جديد . فقام بهذا العمل عالم يهودي معروف اسمه عزرا ( 458ق.م) , فدون نسخة عبرانية لليهود الذين عادوا إلى فلسطين , وكان هذا بعد مائة عام تقريبًا من عودتهم . وجاء في روايات أخرى أنه لم يدون هذه النسخة , بل اقتصر عمله على التصحيح والتنقيح , وإثبات النصوص , وتقديم كل ذلك لأمته .( الملوك الثاني 24 : 10-17 , أخبار الأيام الثاني 36 : 13-20 , حزقيال 16 : 39-40 , 23 : 23-25 , إرميا 39 : 1-9 , نحميا 8 :1 وما بعدها . أنظر أيضًا :
Jesus In His Time ,by daial-rops,p73 ; Encyclo.Brit.(1962),vol.9p.14 ;Encyclo.Universalis(paris,1974),vol.3,pp426ff )

والباحثون المحققون يعتبرون رواية تدوين عزرا التوراة , أو العهد القديم , أو إعادة النظر فيه أسطورة خالصة , يقولون : " لا يوجد سجل تاريخي يمكن الإعتماد عليه في تدوين مخطوط موثوق به للعهد القديم " .
((American People's Encyclopaedia , vol.3,p.420

فالذي حدث هو أن اليهود عندما عادوا إلى فلسطين ما عادوا يفهمون العبرية , ولذك كانوا في حاجة ماسة إلى ترجمة مفسرة بالأرامية من ناحية , ومن ناحية أخرى كانوا بحاجة إلى الكتب المقدسة باللغة اليونانية , لأن الأجيال الجديدة كانت تتعامل مع هذه اللغة فهماً وتحدثًا .
(Jesus In His Time ,p.73)

وفي سنة 161 قبل الميلاد ضاع ذلك المخطوط للعهد القديم , الذي يقال عنه : أن عزرا دونه . وقصة ضياع هذا المخطوط تتلخص في أن أحد خلفاء الإسكندر اليوناني وهو أنطيوكس ( وكان مشهورًا بظلمه وقهره ) حمل على أورشليم , ونهب المعبد المركزي بها , ثم جمع الكتب الدينية المقدسة للناموس اليهودي , وأحرقها بعد تمزيقها , وقرر إعدام كل من يوجد عنده كتاب من هذه الكتب , أو صحيفة من الصحائف الدينية . ( سفر المكابيين الأول : الإصحاح الأول وبالأخص 1 : 56-57 ) .
وبعد سبعين سنة من الميلاد قضى ملك الروم طيطس على جميع نسخ العهد القديم اليونانية والعبرية , فدُمر الهيكل مرة أخرى واغتيل آلاف اليهود , وامتلأت الأسواق والأزقة بالقتلى والممتلكات المدمرة, وأدى هذا التخريب المتتالي إلى محو صحف الأنبياء وكتبهم محوًا كاملاً . ( اليهود في العالم القديم ص 239 ) .
ترجمت التوراة إلى اليونانية – كما تخبرنا الروايات اليهودية – في القرن الثالث قبل الميلاد بأمر الملك المصري , وقام بهده الترجمة سبعون ( أو اثنان وسبعون ) عالمًا يهوديًا , وبدأت الأسفار الدينية الأخرى تضم إليها بالإضافة إلى أسفار مترجمة عن التسخة العبرانية , وهذه الأسفار كان مشكوكًا في صحتها لدى اليهود الفلسطنيين , وهى التي سميت بـ"الأبوكريفا " .
(Encyclopaedia Of Cristianity ,p.309; Encyclopaedia americana, vol,3.p.612)

وفي القرن الأول قبل الميلاد كانت الترجمة السبعونية هذه شائعة في فلسطين أيضًا , وتبنت الكنائس المسيحية في هذا العصر هذه النسخة المتداولة . ومن هنا صارت " الأبوكريفا " جزءً للكتاب المقدس الموثوق به عند المسيحيين . وفي القرن الرابع اعتمد جيروم على النسخة السبعونية في ترجمته للكتاب المقدس إلى اللغة الللاتينية , وسماها " الترجمة الشعبية " .ورغم أنه ترجم أسفار الأبوكريفا أيضًا إلا أنه عبر عن شكوكه في صحتها , فقد ضم الأبوكريفا إلى ترجمته لأجل الإصلاح الأخلاقي .
(J.P .Boyd Bible Dictionary,p.85 ; The Catholic Bible (RSV) p.vii ;F.G. Bratton: History Of the Bible ,p.100f)

والجدير بالتنبيه هنا أن " الترجمة الشعبية " هذه هى التي تعتمد عليها الكنيسة الرومانية , والخلاصة أن أسفار الأبوكريفا المشكوك فيها وغير الموثوق بها تسربت إلى الترجمة الشعبية والنسخة السبعونية كلتيهما .
وأما اليهود الفلسطنيون فظلوا يعتمدون على المخطوط العبراني للعهد القديم , ولم يعترفوا بصحة الأسفار الأبوكريفية , وكذلك الحال بالنسبة للمسيحيين البروتستانت بعد حركة الإصلاح التي قام بها مارتن لوثر . حيث قام بترجمة العهد القديم العبراني والعهد الجديد اليوناني إلى اللغة الألمانية عام 1534م , ومنذ هذه اللحظة صار البروتستانت يقدسون العهد القديم العبراني وينبذون العهد القديم اليوناني ( الترجمة السبعونية أو السبعينية المشتملة على الأسفار الأبوكريفية ) الذي يقدسه الأرثوذكس والكاثوليك .
فبداية اعترفت المجامع الكنسية المنعقدة في هيبو وكارشيج سنة 393م وسنة 397م على التوالي بنصوص الأبوكريفا , ثم قررت مجامع الكنيسة الرومانية المنعقدة في ترنت 1546م وفاتيكان سنة 1870م أن الأبوكريفا نصوص دينية موثقة للمسيحيين الكاثوليك الرومان وتبعهم في ذلك الأرثوذكس على خلاف بينهما كما ذكرنا .
(Bratton's History Of the Bible ,p103 ; Colliers Encyclopaedia,vol .3, p. 395)

ورغم كل هذه الأحداث لم يفكر أحد في السؤال : هل من الممكن أن تبقى نسخة من العهد القديم بعد كل الخرابات التي جاءت على الهيكل وأرشليم ؟!


يتبع ......