المبحث الثالث*
مرحلة إعتقاد النصارى ألوهية الروح القدس

للدكتور . عبد الله بن عبد العزيز الشعيبي



تقررت عقيدة ألوهية الروح القدس عند النصارى في الاجتماع الذي عقد لهذا الغرض ، في القسطنطينية سنة 381م ، وأصبحت هذه الإضافة الجديدة التي لم تكن في قانون الإيمان الصادر عن مجمع نيقية سنة 325م ، من أصول الإيمان في عقيدتهم ، وبه اكتملت الأقانيم الثلاثة المكونة من الآب والابن والروح القدس ، وأصبحت عقيدة التثليث دين النصرانية حسب قانون إيمانهم المقدس ، واعتبره النصارى : (( هو القانون المعبر عن الإيمان المسيحي الحقيقي ، وبناء على ذلك فمن يخالف تعاليم هذا القانون يخالف الإيمان المسيحي ويجب حرمانه )) .
يقول زكي شنودة : (( وقد أجمع المسيحيون فيما عقدوه إبان القرن الرابع من مجامع عالمية ـ أو مسكونية كما اعتادوا أن يسموها ـ على وضع قانون للإيمان يتضمن المعتقد الصحيح لكل المسيحيين ، ويقطع السبيل على كل من يحاول تغيير أمر أو تفسير أمر على غير مقتضى هذا القانون ، وقد درج المسيحيون جميعاً منذ وضع هذا القانون في القرن الرابع الميلادي إلى اليوم على التمسك به وتلاوتة أثناء الصلاة في كل كنائس العالم دون استثناء)) .
ثم تحدث عن اعتقاد ألوهية الروح القدس فقال : (( هو الأقنوم الثالث من اللاهوت الأقدس ، وهو مساوٍ للآب والابن في الذات والجوهر والطبع وكل فضل اللاهوت ، وهو روح الله ، وحياة الكون ومصدر الحكمة والبركة ، ومنبع النظام والقوة ، ولذلك فهو يستـحق العبـادة الإلهية ، والمحبة والإكرام والثـقة مع الآب والابـن )) .
ويقول القس يسي منصور : (( إن الروح القدس هو الله الأزلي ، فهو الكائن منذ البدء قبل الخليقة ، وهو الخالق لكل شيء ، والقادر على كل شـيء ، والحاضر في كل مكان ، وهو السرمدي غير المحدود )) , ويقـول في موضع آخـر : (( إن الروح القدس هو الأقنوم الثالث في اللاهوت ، وهو ليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة ، بل هو ذات حقيقي ، وشخص حي ، وأقنوم متميز ولكنه غير منفصل ، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم الآب وغـير أقنوم الابن ، ومسـاوٍ لهما في السـلطان والمقـام ، ومشترك وإياهما في جوهر واحد ولاهوت واحد )) .
فالأقانيم الثلاثة ـ على زعمهم ـ هي : الذات والنطق والحياة ، فالذات هو الآب ، والنطق أو الكلمة هو الابن ، والحياة هي الله روح القدس ، ومعنى ذلك في عقيدتهم : أن الذات والد النطق أو الكلمة ، والكلمة مولودة من الذات ، والحياة منبعثة من الذات حسـب اعتقاد الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ، أو منبعثة من الذات والكلمة حسـب اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية والإنجيلية .
ويزعم النصارى أن دليلهم على اعتقاد ألوهية الروح القـدس مستمدة من كتابهم المقدس، وأن كل النصوص التي ورد فيها ذكر الروح القـدس دليـلاً على ألوهيتـه ، وقد سـبق ذكر بعض هذه النصوص ومناقشتها في شواهد سابقة ، وسيأتي ذكر بعضها ومناقشتها في شواهد لاحقة ، إن شاء الله
ولكن الناظر والمدقق في منطوق هذه النصوص ومفهومها يلاحظ أنه لا يوجد فيها ما يؤيد معتقدهم ، فقد ضلوا في الوصول إلى الحق المراد منها ، فكان ذلك سبب ضلالهم ، لأنهم اعتمدوا على الألفاظ المتشابهة المنقولة عن الأنبياء ، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها ، وهم كلما سمعوا لفظاً لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم ، وإن لم يكن دليلاً على ذلك ، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك ، إما أن يفوضوها ، وإما أن يتأولوها ـ كما يصنع أهل الضلال ـ يتبعون المتشابه مـن الأدلة العقـلية والسمعية ، ويعـدلون عن المحـكم الصريح من القسـمين .
وسنذكر بعض الأمثلة عن تأويلهم قضايا عقدية أخرى غير قضية الروح القدس ، تبين منهجهم في التأويل وصرف المعنى عن دلالته الصريحة الواضحة ، إلى تأويلات باطلة ، ولكنها حسب منهجهم صحيحة طالما أنها تؤدي إلى مطلوبهم كما يعتقدون ، ومن هذه الأمثلة على تأويلهم لنصوص كتابهم المقدس ، ما يأتي :

المطلب الأول : تأويل نصوص التوراة :
يزعم القس بوطر في رسالة صغيرة ، سماها الأصول والفروع ، ان الله عز وجل ـ بعد أن خلق الإنسان ـ لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بالوحدانية لله من خلال التوراة ، ويزعم أن المدقق فيها يرى إشارات وراء الوحدانية ، يعني ـ على زعمه ـ أنها تدل على عقيدتهم في التثليث ـ الأب والابن والروح القدس ـ وغير ذلك من المعتقدات التي تأولوا نصوص التوراة للتدليل عليها.
يقول القس بوطر: (( بعدما خلق الله العالم ، وتوج خليقته بالإنسان ، لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بوحدانيته ، كما يتبين ذلك من التوراة ، على أنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية ، لأنك إذا قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات : (( كلمة الله أو حكمة الله ، أو روح القدس )) ولم يعلم من نزلت إليهم التوراة ما تكنه هذه الكلمات من المعاني ، لأنه لم يكن قد أتى الوقت المعين الذي قصد الله فيه إيضاحها على وجه الكمال والتفصيل ، ومع ذلك فمن يقرأ التوراة في ضوء الإنجيل يقف على المعنى المراد ، إذ يجدها تشير إلى أقانيم في اللاهوت ، ثم لما جاء المسيح إلى العالم أرانا بتعاليمه وأعماله المدونة في الإنجيل أن له نسبة سرية أزلية إلى الله ، تفوق الإدراك ، ونراه مسمى في أسفار اليهود : (( كلمة الله )) وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة ، ثم لما صعد إلى السماء أرسل روحاً ، ليسكن بين المؤمنين ، وقد تبين أن لهذا الروح أيضاً نسبة أزلية إلى الله فائقة ، كما للابن ، ويسمى الروح القدس ، وهو ذات العبارة المعلنة في التوراة كما ذكرنا ، ومما تقدم نعلم بجلاء أن المسمى بكلمة الله ، والمسمى بروح الله في نصوص التوراة هما المسيح والروح القدس المذكوران في الإنجيل ، فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل كل التصريح ، وإن وحدة الجوهر لا يناقضها تعدد الأقانيم ، وكل من أنار الله ذهنه وفتح قلبه لفهم الكتاب المقدس لا يقدر أن يفسر الكلمة بمجرد أمر من الله أو قول مفرد ، ولا يفسر الروح بالقوة التأثيرية ، بل لابد له أن يعلم أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم متساوين في الكلمات الإلهية ، وممتازين في الاسم والعمل ، والكلمة والروح القدس إثنان منهم ، ويدعى الأقنوم الأول الآب ، ويظهر من هذه التسمية أنه مصدر كل الأشياء ومرجعها ، وأن نسبته للكلمة ليست صورية بل شخصية حقيقية ، ويمثل للأفهام محبته الفائقة ، وحكمته الرائعة ، ويدعى الأقنوم الثاني الكلمة ، لأنه يعلن مشيئته بعبارة وافية ، وأنه وسيط المخابرة بين الله والناس ، ويدعى أيضاً الابن ، لأنه يمثل العقل نسبة المحبة ، والوحدة بينه وبين أبيه ، وطاعته الكاملة لمشيئته ، والتمييز بين نسبته هو إلى أبيه ، ونسبة كل الأشياء إليه ، ويدعى الأقنوم الثالث الروح القدس ، الدلالة على النسبة بينه وبين الآب والابن ، وعلى عمله في تنوير أرواح البشر ، وحثهم على طاعته ... وبناء على ما تقدم يظهر جلياً أن عبارة الابن لا تشير كما فهم بعضهم خطأ إلى ولادة بشرية ، ولكنها تصف سرية فائقة بين أقنوم وآخر في اللاهوت الواحد ، وإذا أراد الله أن يفهمنا تلك النسبة لم تكن عبارة أنسب من الابن للدلالة على المحبة والوحدة في الذات )).
يقول الشيخ محمد أبو زهرة ـ رحمه الله ـ ونجد كاتب هذا الكلام يحاول ثلاث محاولات :
أولاها : إثبات أن التوراة وجد فيها أصل التثليث ، لوحت به ولم تصرح ، أشارت إليه ، ولم توضح.
وثانيها : أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم ، وهي في شعبها متغايرة وإن كانت في جوهرها غير متغايرة.
وثالثها : أن العلاقة بين الآب والابن ليست ولادة بشرية ، بل هي علاقة المحبة والاتحاد في الجوهر.
ومن الأمثلة على تحريف نصوص التوراة قول القس يسي منصور: (( إذا قالت التوراة : (( وقال الله نصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا )) ، كان ضمير الجمع (نا) الذي تحدث به الله عن نفسه ، فإن الله لم يتكلم بصيغة الجمع إلا باعتباره ثلاثة في واحد )) .
وإذا قالت التوراة : (( فقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا ، عارفاً الخير والشر )) ، كان المتكلم هو الله ممثلاً في أقانيمه الثلاثة وإذا قالت التوراة : (( منذ وجوده أنا هناك .. ولأن السيد الرب أرسلني وروحه )) ، فمفهوم هذا أن ضمير ( نا) يشير إلى الابن ، و (( السيد الرب )) يشير إلى الأب ، (( وروحه)) هو روح القدس.
وإذا قالت التوراة على لـسان موسى مخاطباً الأسباط الإثنى عشر ، معلناً فيهم وصايا الله لهم : (( وهكذا تباركون إسرائيل قائلين لهم : يباركك الرب ويحرسك ، يضئ الرب بوجهه عليك ويرحمك ، يرفع الرب بوجهه عليك ويمنحك سلاماً ، فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أباركهم ))، كان تأويل هذا هكذا : (( الله الأب يظهر محبته ويحرسهم ، وربنا يسوع المسيح يظهر نعمته ويرحمهم ، والروح القدس يظهر شركته ويمنحهم سلاماً )) ، وهذا التأويل ـ لا شك أنه ـ من الضلال عن الحق ، إذ ليس في تلك النصوص التي استشهد بها ما يشير إلى الأقانيم الثلاثة ـ حسب زعمهم ـ بل إن جميع أسفار العهد القديم لا يوجد فيها ما يؤيد معتقدهم في التثليث ، بدليل اعترافهم أنفسهم بذلك ، إذ يقول أحدهم : (( إن التعليم عن الروح القدس كأقنوم إلهي في الثالوث القدوس لم يرد في العهد القديم بشكل واضح ، شأنه شأن التعليم عن الثالوث الإلهي نفسه ، ولكن الروح القدس ذكر في العهد القديم في عدة مواضع )) ، وهذا يعني أن تأويلهم للنصوص بما يوافق معتقدهم من الظن والقول بغير علم ، والدليل إذا دخله الاحتمال بطل به الاستدلال .
ومن تأويلهم للنصوص زعمهم أن ما تحدثت به التوراة عن (( ملاك الرب )) المقصود به الرب ذاته ، يقول عوض سمعان : إن كلمة ملاك أو ملاك الرب وردت في الكتاب المقدس مراد بها اسم الرب أو الله ، فقد قال زكريا النبي :
(( مثل الله مثل ملاك الرب )) ، وقال الوحي عن يعقوب : (( جاهد مع الله، جاهد مع الملاك )) ، وقال يعقوب عندما رأى ولدي يوسف : (( الله الذي رعاني ، الملاك الذي خلصني ، يبارك الغلامين ))، ثم يعلق عوض سمعان على هذه النصوص بقوله : إن كلمة ( ملاك ) ليست في الأصل اسماً للمخلوق الذي يعرف بها ، بل إنها اسم للمهمة التي يقوم بها ، وهذه المهمة هي تبليغ الرسائل ، فالاصطلاح (ملاك الرب ) معناه حسب الأصل : (( المبلغ لرسائل الرب )) ولما كان الرب هو خير من يقوم بتبليغ رسائله ؛ لأن كل ما عداه محدود ، والمحدود لا يستطيع أن يعلن إعلاناً كاملاً ذات أو مقاصد غير المحدود ، لذلك يحق أن يسمى الرب من جهة ظهوره لتبليغ رسائله ( ملاك الرب ) بمعنى المعلن لمقاصده أو المعلن لذاته ، وبالحري بمعنى (( ذاته معلناً أو متجلياً )) لأنه لا يعلن ذات الله سوى الله .
هذا التأويل الباطل الذي جاء به النصارى لنصوص التوراة بعد أكثر من ألفي سنة من نزولها على موسى عليه السلام ، وعلى الأنبياء من بعده ، لم يكن هذا التأويل معروفاً عند من نزلت عليهم ، بل كانوا على علم أن الذي يأتيهم بالوحي ويتحدث إليهم هم ملائكة الله ، وليس الله ذاته ، وكذلك لم يكن هذا التأويل معروفاً عند اليهود وهم أهل التوراة الذين لم يفهموا منها سوى ما بلغهم به أنبياؤهم ، بدليل ماسبق ذكره عند الحـديث عن حقيـقة الروح القـدس عند اليهود في المطلب الأول من المبحـث الأول .
وكذلك أناجيل النصارى التي تحدثت عن وجود الملائكة ، وعددهم ووظائفهم ، ورسالتهم ، لم يأت فيها ذكر أنهم هم ذات الله ، يقول المسيح عليه السلام : (( لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء )) ، ويقول أيضاً : (( أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثنى عشر جيشاً من الملائكة ))، وجاء في الإنجيل : (( وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين ، المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة )) . ونصوص أخرى ذكرت أن ملاك الله بشر زكريا بميلاد يوحنا ( يحيى عليه السلام ) ، وبشر مريم بميلاد المسيح ـ عليه السلام ـ ، وعن السبعة من الملائكة ووظائفهم ، وغير ذلك من النصوص ، التي تدل على أن المـلائكة خلق من خلق الله ، وأنـهم رسـله إلى من يشاء مـن خـلقه .
وحسب تأويلهم للنصوص ، يمكن القول إن تأويل المراد من الملائكة في هذه النصوص الآنفة الذكر هم ذات الله أيضاً ، وإذا كان كذلك فهذا يدل على أنهم لا يفرقون بين الله وملائكتة ، ولا بين الخالق والمخلوق .

المطلب الثاني : تأويل نصوص الإنجيل :
ومن أمثلة تأويل نصوص الإنجيل ، ما جاء في خاتمة إنجيل متى : (( فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس )) ، فزعموا أن تأويل المراد من هذا النص أنه يشير إلى الأقانيم الثلاثة ، وأن كل أقنـوم منها إلهٌ بـذاته .
لكن تأويلهم هذا من التأويل الباطل الذي ضلوا فيه عن الحق ، إذ مراد المسيح ـ على فرض صحته عنه ـ خلاف المراد الذي يعتقده النصارى ، وللعلماء في تأويل المراد من هذا النص عدة احتمالات : فإما أن يكون مراد المسيح
ـ كما يقول الإمام ابن تيمية ـ أي : (( مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله ، وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به ، فيكون ذلك أمراً لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول ))
وإما أن يكون مراد المسيح ـ كما يقول المهتدي نصر بن يحيى المتطبب ـ : (( إن كان صحيحا ً، فيحتمل أن يكون قد ذهب فيه بجميع هذه الألفاظ : أن يجتمع له بركة الله ، وبركة نبيه المسيح ، وبركة روح القدس ، التي يؤيد بها الأنبياء والرسل ، وأنتم إذا دعا أحدكم للآخر قال له : صلاة فلان القدس تكون معك ، وإذا كان أحدكم عند أحد الآباء مثل جاثليق ومطران أو أسقف ، وأراد أن يدعو له ، يقول له : صلي علي ، ومعنى الصلاة : الدعاء ، واسم فلان النبي أو فلان الصالح الذي هو يعينك على أمورك ، ويجوز أن يكون المسيح ذهب فيه إلى ما هو أعلم به ، فكيف حكمتم بأنه ذهب إلى هذه الأسماء لما أضافها إلى الله تعالى ، صارت إلهية ، وجعلتم له أسماء ، وهي : الأقانيم الثلاثة ، وقد عبرتم في لغتكم أن الأقنوم : الشخص ، فكيف استخرجتم ما أشركتموه بالباري تعالى ذكره عما تصفون بالتأويل الذي لا يصح )) .
وإما أن يكون مراد المسيح ـ كما يقول الإمام القرطبي ـ أي :
(( عمدوهم على تركهم هذا القول ، كما يقول القائل : كل على اسم الله ، وامش على اسم الله ، أي على بركة اسم الله ، ولم يعين الآب والابن من هما ؟ ولا المعنى المراد بهـما ؟ فلعله أراد بالآب هنا : الملك الذي نفخ في مريم أمه الروح ، إذ نفخه سبب علوق أمه وحبلها به ، وأراد بالابن : نفسه ، إذ خلقه الله تعالى من نفخة الملك ، فالنفخة له بمثابة النطفة في حق غيره ، ثم لا يبعد أيضاً في التأويل ـ إن صح عن عيسى عليه السلام أنه كان يطلق على الله لفظ الأب ـ أن يكون مراده به : أنه ذو حفظ له ، وذو رحمة وحنان عليه ، وعلى عباده الصالحين ، فهو لهم بمنزلة الأب الشفيق الرحيم ، وهم له في القيام بحقوقه وعبادته بمنزلة الولد البار ، ويحتمل أن يكون تجوز بإطلاق هذا اللفظ على الله تعالى ، لأنه معـلمه وهـاديه ومرشده ، كما يقال : المعلم أبو المتعلم ، ومن هذا قوله تعالى في كتابنا : (( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل )) ، على أحد تأويلاته ، ومن هـذين التأويلين : يصح حل ما وقع في أناجيـلهم من هذا اللفـظ ، بل هـذان التأويلان ظاهران وسائغان فيـها )) .

ثم ذكر القرطبي شواهد من أناجيلهم ، تدل على أن التأويل الذي ذهب إليه ، هو الحق في بيان مراد المسيح من قوله لحوارييه عمدوا الناس باسم الآب والابن والروح القدس .
ومن الشواهد من أناجيلهم التي ترد تأويلهم الباطل وتبطله ، ما يأتي :
أولاً : إن ذكر الأب في الأناجيل معناه الله سبحانه وتعالى ، يقول المسيح ـ عليه السلام ـ في إحدى وصاياه لتلاميذه: (( أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم ، وأحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات ))، ويقول المسيح أيضاً : (( احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم ، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات )) ، وغير ذلك الكثير من النصوص التي تشير إلى أن الله عز وجل يطلق عليه لفظ الأبوة . وليس في هذا معنى الأبوة التناسلية أو المفهوم الذي يفهم منه أنه إذا أطلق على الله لفظ الأب أن يكون له ولد ، تعالى الله عن ذلك .
ثانياً : أن كلمة الابن وردت في عدة نصوص من الأناجيل مضافة إلى الله وبدون إضافة ، ومن هذه النصوص ، أن إبليس يقول للمسيح : (( إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً ))، وأنه قال له مرة أخرى : (( إن كنت ابن لله فاطرح نفسك إلى الأسفل )) ، وفي الإنجيل أن المسيح سأل تلاميذه مرة قـائلاً : (( من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان ؟ فقالوا : قوم يوحنا المعمدان وآخرون ، إيليا وآخرون ، أرميا أو أحد من الأنبياء ، قال لهم : وأنتم من تقولون إني أنا ؟ فأجاب سمعان بطرس : أنت هو المسيح ابن الله الحي )) ، وهناك الكثير من النصوص الإنجيلية التي تنسب المسيح أنه ابناً لله ، ولكن هناك نصوص أخرى تبين أن هذه النسبة ليست خاصة بالمسيح ، بل تلاميذ المسيح وكل المؤمنين هم أبناء الله ، وهذا يدل على أن لفظة الابن في الأناجيل المراد بها رعاية الله وعنايته ، وقربه من الناس ، وحفظه ورحمته لهم ، وليست صلة قرابة جسدية ، ومن هذه النصوص قول المسيح : (( وصلوا للذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات )) ، وأمرهم عليه السلام أن يقولوا في صلاتهم : (( أبانا الذي في السموات )) ، وغير ذلك من النصوص .
والمراد من هذه النصوص التي تطلق على المسيح ـ عليه السلام ـ وعلى تلاميذه وعلى المؤمنين أنهم أبناء الله ـ على فرض صحتها ـ المراد منها المجاز وليس الحقيقة .
ونظير هذا ما أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم ، أن اليهود والنصارى قالوا : (( نحن أبناء الله وأحباؤه ))، (( أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه ، وله بهم عناية ، وهو يحبنا ، ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري ، فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه ، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام ، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، يعني ربي وربكم ، ومعلوم أنهم لم يدعو لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى ـ عليه السلام ـ وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه ، وحضوتهم عنده ، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، قال الله تعالى رداً عليهم : (( قل فلم يعذبكم بذنوبكم )) ، أي لو كـنتم كما تدعون أبنـاء الله وأحـباؤه ، فلم أعـد لكم نار جـهنم على كـفركم وكذبكم وافترائكم ؟ )) .
ثالثاً : أما الروح القدس فإن النصارى يتأولون اعتقاد ألوهيته من عدة نصوص من العهـد الجديد ، ففي الإنجيـل عن الحمل بعيسى ـ عليه السلام ـ أن أم المسـيح : (( وجدت حبلى من الروح القدس ))، وفي الإنجيل أيضاً ، أن مريم : (( حبل به فيها من الروح القدس ))، وفي الإنجيل أيضاً أن السيح قال لتلاميذه : (( فمتى ساقوكم ليسلموكم فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا ، بل مهما أعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلموا ، لأن لسـتم أنتم المتكلمين بل الروح القـدس ))، وفي أعمل الرسل قول بطرس لحنانيا: (( يا حنانيا لماذا ملأ الشيطان قلبك لتـكذب على الروح القـدس ، أنـت لم تكذب على النـاس بل على الله )) .
كما يتأول النصارى اعتقاد ألوهية الروح القدس من أقوال من يسمونه بولس الرسول ، الذي نسب إلى الروح القدس مايمكن أن ينسب إلى ذات الله وصفاته وأعماله وعبادته ، كما ذكر ذلك قاموس الكتاب المقدس ، مستدلاً بأقوال بولس الرسول التي وردت في هذا المقام ، إذ يقول : (( أما تعلمون أن هيكل الله وروح الله يسكن فيكم )) ، وقوله : (( إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائته أيضاً بروحه الساكن فيكم )) ، وغير ذلك من النصوص التي يستشهدون فيها على أن الروح القدس هو الأقنوم الثالث من لاهوتهم المقدس ، وأنه ـ على زعمهم ـ مساوٍ للأب والابن في الذات والجوهر ، وغير ذلك من الصفات التي يزعمون أنها أدلة على إثبات ألوهيته واستحقاقه للعبادة الإلهية ، تعالى الله عن قولهم .
لكن اعتقادهم ألوهية الروح القدس باطل ومردود ، ودليل ذلك مايأتي :
1 ـ أن نصوص العهد القديم والعهد الجديد التي ورد فيها ذكر الروح مضافاً إلى الله وإلى القدس وبدون إضافة ، جاءت بمعنى الوحي بالإلهام ، وبمعنى الثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين ، وبمعنى ملاك الله جبريل ـ عليه السلام ـ وبمعنى المسيح ـ عليه السلام ـ كما سبق ذكر الشواهد على ذلك عند الحديث عن حقيقة الروح في المبحث الأول .
كذلك فإن حقيقة الروح حسب تعبير النصارى أنه : (( الناطق في الأنبياء ، الناطق في الناموس والمعلم بالأنبياء ، الذي نزل إلى الأردن ونطق بالرسل ، وأنه الروح القدس روح الله )) فكل هذه المعاني تدل على أن حقيقة الروح القدس لاتدل على مرادهم باعتقاد ألوهيته ، إذ لو كان إلهًا ، لكان كذلك منذ أن خلق الله تعالى الخلق حتى قيام الساعة ، لكن ذلك لم يكن .
2 ـ أن عقيدة ألوهية الروح القدس لم تكن معروفة في عصر المسيح ـ عليه السلام ـ ولا في عصر حوارييه ، ولا في القرون الثلاثة بعد رفع المسيح ، بدليل أنهم في قانون إيمانهم المقدس سنة 325م قالوا : (( ونؤمن بالروح القدس )) ، دون أن يذكروا اعتقادهم ألوهيته ، وبعد أكثر من نصف قرن حينما اجتمعوا في القسطنطينية سنة 381م ، صدر عنهم قانون آخر أضافوا فيه اعتقادهم ألوهية الروح القدس ، فقالوا : (( ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب ، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجد ، الناطق في الأنبياء )) أي أن اعتقادهم ألوهية الروح القدس جاء بعد أكثر من ثلاثة قرون من رفع المســيح ، إضافة إلى أن قولهم هذا متناقض وباطل عقلاً ونقلاً ، يقول الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : (( قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي أنه منبثق من الآب مسجود ممجد ، ناطق في الأنبياء ، فإن كان المنبثق رباً حياً ، فهذا إثبات إله ثالث ، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة ، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى ، ثم جعلتم هذا الثالث مسجود له ، والمسجود له هو الإله المعبود ، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض ، ثم جعلتموه ناطقاً بالأنبياء ، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء ، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبًا من لاهوت وناسوت ، وأنه إله تام وإنسان تام ، كما قلتم في المسيح ، إذ لا فرق بين حلول الكلمة ، وحلول روح القدس ، كلاهما أقنوم ، وأيضاً فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى ، وحلول الصفة دون الذات ، فيلزم الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالاً في كل نبي ، ويكون كل نبي هو رب العالمين ، ويقال مع ذلك هو ابنه ، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى ، وهذا لازم للنصارى لزوماً لا محيد عنه ، فإن ما ثبت لنظيره ، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين ، وليس لهم أن يقولوا : الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص ، ولا نص في غيره لوجوه : أحدها : أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك )) .
الثاني : أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه كلفظ الابن ، ولفظ حلول روح القدس فيه ، ونحو ذلك . الثالث : أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول ، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح ، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام ، وإذ ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين لمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر وجب التسوية بين المتماثلين ، كما إذ ثبت أن النبي يجب تصديقه ، لأنه نبي ، ويكفر من كذبه لأنه نبي ، فيلزم من ذلك تصديق كل نبي وتكفير من كذبه. الرابع : هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير ، فيلزم تجويز ذلك في الغير إذ لا دليل على إنتفائه ، كما يقولون : إن ذلك كان ثابتاً في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم ، وحينئذٍ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلهاً تاماً وإنساناً تاماً كالمسيح وإن لم يعلم ذلك . الخامس : لو لم يقع ذلك ، لكنه جائز عندهم ، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين ، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلهاً تاماً وإنساناً تامًا ، ويكون كل إنسان مركباً من لاهوت وناسوت ، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله ، وأنها لاهوت قديم أزلي فيجعلون نصف كل أدمي لاهوتاً ، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه ، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر من بعض الوجوه .
3 ـ ويدل على فساد عقيدتهم أن سبب عقد مجمع القسطنطينية ـ الآنف الذكر ـ أن هناك الكثير من النصارى الذين ما زالوا على عقيدة التوحيد ، ينكرون ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس ، كأسقف القسطنطينية البطريرك مكدونيوس الذي يعتقد أنه كسائر المخلوقات ، وخادم للابن كأحد الملائكة ، كما أن اختلاف النصارى حول طبيعة المسيح ، وحول انبثاق الروح القدس ، وغيرها من أصول العقيدة ، التي عقدوا من أجلها المجامع المتعددة لتقرير أصولها وما حدث بينهم من انقسامات وما نتج عنها من ظهور طوائف متعددة ، كل طائفة تنكر ما عليه الطائفة الأخرى ، كل ذلك وغيره يدل على أنهم ضلوا عن الوحي الإلهي الذي أنزله الله تعالى على المسيح ـ عليه السلام ـ وعلى النبيين من قبله ، إذ لو تمسكوا بالوحي لهدوا إلى الصراط المستقيم ، الذي من أجله أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب .
4 ـ كما أن نصوص الإنجيل وأقوال بولس الرسول التي تدل ـ بزعمهم ـ على ألوهية الروح القدس باطلة بنصوص الإنجيل نفسه ، وبأقوال بولس نفسه أيضاً ، ودليل ذلك مايأتي :