أبو بكر وحب النبي

لقد أحب (أبا بكر) رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. حبا خالصا ..
خالط لحمه ودماءه وعظامه وروحه ..
حتى أصبح جزءا لا يتجزأ من تكوينه..
والصحابة جميعا أحبوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حبا عظيما فريدا..
لكن ليس كحب (أبي بكر)..

هذا الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد... بل فاق حب الدنيا جميعها...

وحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مكملات الإيمان..

كما روى البخاري ..

"لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"

و(أبو بكر الصديق) ...أشد الناس إيمانا...
فهو إذن أشد الناس حبا للرسول (صلى الله عليه وسلم)..

ففي حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. في مسند الإمام أحمد عن ابن عمر ..

قال خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات غداة بعد طلوع الشمس..
فقال: رأيتُ قبل الفجر كأني اعطيتُ المقاليد والموازين ..
فأما المقاليد فهذه المفاتيح ..
وأما الموازين فهي التي تزنون بها ..
فوُضعتُ في كفة ووُضعت أمتي في كفة .. فوزِنتُ بهم .. فرجحتُ..
ثم جيء بأبي بكر .. فوُزن بهم .. فوزن .. "


هذا الحب المتناهي...
له دليل من كل موقف من مواقف السيرة تقريبا..
ولو تتبعت رحلة (أبو بكر) معه (صلى الله عليه وسلم) ..
لرأيت حبًا قلما تكرر في التاريخ....

ففي الهجرة ..
لما جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت (أبي بكر) في ساعة لم يكن يأتيهم فيها..

أول ما قاله (أبو بكر).. فداء له أبي وأمي.. والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر...

ولما أخبره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأمر الهجرة

قال (أبو بكر) بلهفة .. الصحبة يارسول الله ..

قال (صلى الله عليه وسلم).. "الصحبة"

فماذا كان رد فعل (أبي بكر) لما علم أنه سيصاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟

تقول (عائشة) .. فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح..
حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ...!


سبحان الله ..
يبكي من الفرح للصحبة مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
مع أن هذه الصحبة الخطيرة سيكون فيها ضياع النفس..
فمكة كلها تطارده (صلى الله عليه وسلم)..
وقد يكون فيها ضياع المال..
وضياع الأهل ..
وترك البلد ..
لكن ما دامت في صحبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
فهذا أمر يبكي من الفرح لأجله...

وعند الوصول إلى غار ثور ...

قال (أبو بكر) .. والله لا تدخله حتى أدخله قبلك.. فإن كان فيه شر أصابني دونك..

فدخل (أبو بكر) فكسحه..
ووجد في جانبه ثقبا.. فشق إزاره وسدها به..
وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه..

ثم قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).. ادخل...

فدخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..ووضع رأسه في حجر (أب بكر) ونام...

فلُدغ (أبو بكر) في رجله من الجُحر... ولم يتحرك مخافة أن ينتبه (صلى الله عليه وسلم)..

فسقطت دمعة على وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "ما لك يا أبا بكر؟"

قال .. لدغتُ فداك أبي وأمي ..

فتفل (صلى الله عليه وسلم) عليها .. فذهب ما يجده..

وفي لقطة أخرى من لقطات الهجرة..
يقول (أبو بكر) كما في البخاري ..

ارتحلنا من مكة فأحيينا...
أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا..
وقام قائم الظهيرة..
فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه ؟
فإذا صخرة أتيتها..
فنظرت بقية ظل... فسويته بيدي..
ثم فرشت للنبي (صلى الله عليه وسلم) فيه..
ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله..
فاضطجع النبي (صلى الله عليه وسلم)..
ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدا؟
فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة.. يريد منها الذي أردنا ..
فسألته: لمن أنت يا غلام؟
قال: لرجل من قريش سماه فعرفته..
فقلت هل في غنمك من لبن ؟
قال: نعم..
قلت: فهل أنت حالب لبنا؟
قال: نعم...
فأمرته فاعتقل شاه من غنمه..
ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار..
ثم أمرته أن ينفض كفيه..
فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب له كثبة من لبن..
ومعي دواة حملتها للنبي (صلى الله عليه وسلم) يرتوي منها يشرب ويتوضأ...
فأتيت النبي (صلى الله عليه وسلم)..
فكرهت أن أوقظه..
فوافقته حين استيقظ ..
فصببت الماء على اللبن حتى برد أسفله ..
فقلت: اشرب يا رسول الله..
فشرب حتى رضيت... !
ثم قال (صلى الله عليه وسلم)... "ألم يأن الرحيل؟"
قلت: بلى..
فارتحلنا.. والقوم يطلبوننا..
فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشة على فرس..
فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله..
فقال.. "لاتحزن.. إن الله معنا"


ولقطة أخرى من لقطات الهجرة ..
كما أخرج الحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب .. قال ..

خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الغار.. ومعه أبو بكر..
فجعل يمشي ساعة بين يديه.. وساعة خلفه..
حتى فطن له رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فسأله..
فقال له: أذكر الطلب فأمشي خلفك.. ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك...
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "يا أبا بكر .. لو شيء أحببتَ أن يكون بك دوني؟"
قال: نعم.. والذي بعثك بالحق...
هل كان هذا الحب من طرف واحد؟

كلا والله..

يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. كما عند مسلم ..

"الأرواح جنودٌ مجندة.. فما تعارف منها ائتلف .. وماتناكر منها اختلف"

فلأن (أبو بكر) قد أحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فلابد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد رفع مكانته في قلبه ...فوق مكانة غيره..

روى الشيخان عن عمرو بن العاص ..

أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعثه على جيش ذات السلاسل..
يقول: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟
قال(صلى الله عليه وسلم) .. "عائشة"
قلت: من الرجال؟
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "أبوها"
قلت: ثم من؟
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "عمر"..
فعد رجالا..


وهنا سؤال ..

هل كان يُرغم (أبو بكر) نفسه على هذا الحب؟

وهل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟

أبدا والله..

لقد انتقل (أبو بكر) من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات ..
إلى مرحلة التمتع.. والتلذذ بفعل الخيرات..

انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان ...يذوقها في قلبه وعقله وكل كيانه..

يقول (صلى الله عليه وسلم) في حديث رواه الشيخان عن أنس..

"ثلاث من كنّ فيه .. وجد حلاوة الإيمان..
أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ..
وأن يحب المرء لايحبه إلا لله..
وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار"


وهذا الحب الفريد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
قاد إلى أمرين عظيمين ..
يفسران كثيرا من أعمال (أبو بكر) الخالدة في التاريخ..

(1) اليقين بالكامل بصدق ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
(2) الاقتداء الكامل برسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى وإن لم يدرك الحكمة..


وسنتحدث عن كل منهما .. بشيء من التفصيل ..إن شاء الله ..