شبهة 23 : قال بعضهم : مسجد بني أمية (المسجد الأموي) منذ دخل إليه الصحابة وغيرهم لم ينكروا وجود قبر يحيى عليه السلام ،والجواب : لم ينقل عن أحد ممن صلى في المسجد الأموي من الصحابة – رضي الله عنهم - أنه رأى قبرا فيه و عليه فكيف ينكرون شيئا لم يروه ؟!!
قال الألباني – رحمه الله - : ( إن منطق هؤلاء عجيب غريب إنهم ليتوهمون أن كل ما يشاهدونه الآن في مسجد بني أمية كان موجودا في عهد منشئه الأول الوليد بن عبد الملك ن فهل يقول بهذا عاقل ؟ كلا لا يقول ذلك غير هؤلاء .

و نحن نقطع ببطلان قولهم وأن أحدا من الصحابة والتابعين لم ير قبرا ظاهرا في مسجد بني أمية أو غيره بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد أنهم في أثناء العمليات وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سفط (وعاء كامل) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب عليه: هذا رأي يحيى عليه السلام فأمر به الوليد فرد إلى المكان وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة فجعل عليه عمود مسبك بسفط الرأس. رواه أبو الحسن الربعي في فضائل الشام (33) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (ج 2 ق 9 / 10) .

وإسناده ضعيف جدا فيه إبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة وقال الذهبي " متروك ". ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر حتى أواخر القرن الثاني لما أخرجه الربعي وبن عساكر عن الوليد بن مسلم أنه سئل أين بلغك رأس يحى بن زكريا؟ قال: بلغني أنه ثم وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم وقد توفي سنة أربع وتسعين ومائة .


و أما كون ذلك الرأس هو رأس يحيى - عليه السلام - فلا يمكن إثباته ، ولذلك اختلف المؤرخون اختلافا كثيرا ، و جمهورهم على أن رأس يحيى - عليه السلام - مدفون في مسجد حلب ليس في مسجد دمشق ) [1].

شبهة 24 : قال بعضهم : قال تعالى : ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ البقرة : 125 ] و الصلاة عند قبور الأنبياء كالصلاة عند مقام إبراهيم غير أن جسد النبي إبراهيم- عليه السلام - لامس هذا المكان مرة أو مرات عديدة ، ولكن مقام الأنبياء احتضن أجسادهم التي لا تبلى أبدا ،و الجواب لا دليل في الآية على جواز اتخاذ قبور الأنبياء مساجد لوجوه منها :
الوجه الأول : الآية أمر من الله أن نتخذ من مقام إبراهيم- عليه السلام – مصلى لا أن نتخذ من قبر إبراهيم- عليه السلام – مصلى .
الوجه الثاني : هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة كما خص البيت بالطواف ومن يدعي التعميم فعليه بدليل صحيح صريح خال من معارض معتبر .
الوجه الثالث : لم تذكر الآية العلة من اتخاذ مقام إبراهيم - عليه السلام – مصلى ،والقياس من شروطه معرفة العلة .
الوجه الرابع: الأصل في العبادات التوقيف فنقف مع النص لا نتعداه ،و الله – سبحانه وتعالى - أمر أن نتخذ من مقام إبراهيم - عليه السلام – مصلى ،ولم يأمرنا أن نتخذ قبور الأنبياء مساجد أو نتخذ على قبور الأنبياء مساجد .
الوجه الخامس : السنة مستفيضة بتحريم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ،ولا قياس مع النص .





خلاصة البحث

- السنة مستفيضة بتحريم اتخاذ القبور مساجد .
- تحريم اتخاذ القبور مساجد يشمل تحريم الصلاة عليها أو إليها أو لها أو السجود إليها أو عليها أو لها أو بناء المسجد عليها .
- تحريم بناء المساجد على القبور يستلزم تحريم الصلاة فيها ؛ لأنها هي المقصودة بالبناء .
- لا نصلي في مسجد به قبر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – لعن من فعل ذلك ،وهو من عادات الكفار و المشركين ،ومن فعل شرار الخلق و فيه تشبه بالوثنين ،و ذريعة إلى عبادة صاحب القبر ، وفي الصلاة في مسجد به قبر تعظيم لصاحب القبر ،و مظنة الصلاة لصاحب القبر ، وشبهة التبرك بصاحب القبر ،و القبور ليست محلا للصلوات و العبادة ،ولما يحدث في هذه المساجد من شركيات فلا يجوز إقرارها بالصلاة في هذه المساجد .
- الصلاة في مسجد به قبر منهي عنها و لا تصح ؛ لأن النهي يعود لوصف ملازم للصلاة .
- إذا كان المصلي يصلي لله في المساجد التي بها قبور فهذا لا يصلح عمله الفاسد ،وهو الصلاة في مسجد به ضريح .
- لعن من يتخذ القبور مساجد ليس خاصا باليهود والنصارى ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
- التَّعْظِيمَ وَالِافْتِتَانَ لَا يَخْتَصَّانِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ فالقول بأن التحريم كان لقرب العهد بالشرك لا وجه له .
- الصلاة في مسجد به ضريح محرمة على كل حال ، سواء كان الضريح أمامه أم خلفه، يمينه أم يساره .
- اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ بِقُرْبِ رجل صالح وَقَصْدُ التَّبَرُّكِ بِهِ تَعْظِيمٌ لَهُ سواء كان في نية المتخذ ذلك أو لم يكن في نيته ذلك ،و أحاديث النهي مطلقة .
- كل مَا دَخَلَ فِي اسْمِ الْمَقْبَرَةِ مِمَّا حَوْلَ الْقُبُورِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فالنهي يشمل عين القبر وملحق القبر.
- اِتِّخَاذ الْقُبُورِ مَسَاجِد أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ إلَيْهَا أو عليها ، والأحاديث الشريفة منها ما جاء عاما في النهي عن كل صور اتخاذ القبور مساجد ومنها ما جاء خاصا في النهي عن بعض صور الاتخاذ .
- أن أدلة النهي عن الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبور و على القبر مخصصة بما سوى صلاة الجنازة
- لا يصح القول بأن النهى عن الصلاة في المقابر لأجل النجاسة فلم تذكر الأحاديث ذلك ،ولم تفرق الأحاديث بين المنبوشة وغيرها ،وقبور الأنبياء من أطهر بقاع الأرض و كما نهي عن الصلاة في المقابر نهي عن الصلاة إلى المقابر .
- قوله تعالى : ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا يدل أن بناء المساجد على القبور قد وقع في الأمم السابقة ومجرد حكاية ما قالوا ليس دليلا على جواز ما قالوا ولم يمدح القرآن قولهم ،ولم يقره بل السياق يشعر بذمه فإنَّ الله َ- عَزَّ وَجَلَّ - لمْ يَصِفْ أُوْلئِك َ المتغلبيْنَ، بوَصْفٍ يُمْدَحُوْنَ لأَجْلِهِ، وَإنمَا وَصَفهُمْ باِلغلبةِ .
- قصة بِنَاءُ أَبِي جَنْدَلٍ مَسْجِدًا عَلَى قَبْرِ أَبِي بَصِيْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - من رواية الزهري ،وهو من التابعين ،وليس صحابيا ،ولم يرو الزهري هذه القصة عن صحابي بل رواها دون إسناد إلى صحابي فالحديث مرسل ،ومراسيل الزهري من أوهى المراسيل ، وعلى فرض صحة الرواية و أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اطلع على فعل أبي جندل و أقره فلا يعارض ما نهى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – آخر حياته من اتخاذ القبور مساجد .
- رواية مالك باختلاف الصحابة – رضي الله عنهم – في مكان دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقول أحدهم ندفنه عند المنبر ،من بلاغات مالك و هذا اجتهاد من الصحابي مخالف للأحاديث المستفيضة في حرمة اتخاذ القبور مساجد ،ولعله لم يبلغه التحريم ، وسكوت باقي الصحابة عن تخطئته ليس دليلا على الإقرار فقد شغلوا بأشد مصيبة و ليس في الرواية أن الجميع قد سمع ،و في هذا الوقت قد لا يقبل النصح ،و العبرة بما آل إليه الاختلاف و ليست بالأقوال التي قيلت ،و لأنه من الخطأ البين فلا يحتاج رد ، وقد ردت عائشة - رضي الله عنها – بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : «قاتل الله أقواماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » ،واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة .
- دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في بيت عائشة – رضي الله عنها - لا دلالة فيه على أنها كانت تصلي عند القبر ،ولا في مكان القبر ؛ لأنه دفن في جزء من البيت لا كل البيت ففي بقية البيت متسع للصلاة ،و بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – كان مكونا من أكثر من جزء فمكان القبر ليس بلازم أن يكون مكان الصلاة ،و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دفن في الزاوية الغربية الجنوبية ،وبالتالي هناك ثلاثة أجزاء ليس فيها قبر و لا مكان قبر ،و الصلاة بجوار مكان القبر ليست كالصلاة في مكان القبر وهذا الجزء من البيت لم يعد في حكم البيت بل أصبح جزءا مفصولا مميزا عن بقية البيت .
- دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في بيت عائشة ،و البيت كان بجوار المسجد لا في المسجد و البيت له حكم البيوت لا حكم المساجد .
- هناك فرق شاسع بين الصلاة في مسجد به ضريح ، و الصلاة في المسجد النبوي منها : هذه صورتها ضريح في مسجد و المسجد النبوي صورته بيت في مسجد ،وفي هذه المساجد بني المسجد على الضريح أما المسجد النبوي أدخل البيت في المسجد ،والمساجد التي بها أضرحة قبر صاحب الضريح في المسجد أما المسجد النبوي فجدار البيت الذي فيه القبر منفصل عن المسجد النبوي بأكثر من جدار بحيث لو أردت أن تفصل المسجد النبوي عن البيت الذي فيه القبر لأمكن و المساجد التي بها أضرحة يصل الناس للضريح للتمسح و التبرك و دعاء صاحب الضريح إلى غير ذلك من الشركيات أما في المسجد النبوي فلا يستطيع الناس الوصول للبيت الذي فيه القبر .
- أدخلت حجرة عائشة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة ،وقد أنكر العلماء ذلك ومنهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير .
- بون شاسع بين حال المساجد التي بها أضرحة و حال المسجد النبوي فالنصوص صريحة في تحريم الصلاة في المساجد التي بها أضرحة أما الصلاة في المسجد النبوي فمستحبة ، و قد احتاط من أدخل حجرة عائشة في المسجد أشد الاحتياط في فصل البيت عن المسجد بوضع أكثر من جدار للفصل بين المسجد و البيت ،و لَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ جُعِلَتْ حجرة عائشة مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ مُحَدَّدَةً حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ مَعَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ .
- قد أنكر العلماء في عصر الوليد هذا الأمر حتى العوام لم يستحسنوا الأمر وحزنوا أشد الحزن على هذا الفعل لكن لم يكن لأحد سلطة لتغيير المنكر ،ومن أتى بعد الوليد ترك الحجرة في المسجد سدا للفتن التي قد تحدث من هذا الأمر ،وألا يظن أن هذا الأمر فيه تنقص أو امتهان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو تلاعب بالحجرة النبوية الشريفة و لئلا يتخذ ذريعة لنيل من الإسلام ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ،و إبقاء حجرة عائشة – رضي الله عنها - في المسجد من جنس إبقاء الكعبة على ما هي عليه خوفا من الفتنة بين المسلمين و على المسلمين و بذلك أصبح قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مأمن من الصلاة إليه أو عنده أو التمسح به فلا يمكن أن يتخذ قبره مسجدا.
- قول عمر لأنس القبر القبر مما يستدل به على أن المستقر عند الصحابة عدم الصلاة عند القبور فلو كانت جائزة لتركه و شأنه وهذا الحديث ليس فيه أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – تحرى الصلاة عند القبر ،و لا أكمل الصلاة وهو عند القبر .
- قول بعض العلماء المتقدمين بأن اتخاذ القبور مساجد مكروه فالمقصود به كراهة التحريم لا كراهة التنزيه .
- ورد عن عدد من العلماء حرمة اتخاذ القبور مساجد منهم الشافعي و أبو حنيفة و محمد بن الحسن وابن عبد البر و القرطبي و ابن تيمية و ابن القيم و ابن حجر الهيتمي و جلال الدين السيوطي و الشوكاني .
- موضع المسجد النبوي كان مقبرة للمشركين و لكن نبشت قبورهم وسواها واتخذها مسجداً .
- لم يصح حديث فيه أن الحجر دفن فيه إسماعيل - عليه السلام - ،و لو دفن في الحجر لكان شائعا بين الناس قبل البعثة وبعد البعثة و على التسليم الجدلي بوجود قبر إسماعيل – عليه السلام - في الحجر فلا يقاس عليه المساجد المبنية على القبور ؛ لأن هذه قبور بارزة ظاهرة محددة المكان يقصد الناس بناء المساجد عليها أما قبر إسماعيل – عليه السلام – فهو غير ظاهر و لا بارز و لا محدد المكان بالضبط وقد خفيت ودرست معالمه .
- حديث : « في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا » لا يصح و فيه قلب ، و المشهور : « صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا »و قد تَفَرَّدَ بِالحديث إِبْرَاهِيمُ عَنْ مَنْصُورٍ ،و إِبْرَاهِيم بن طهْمَان ممن يروي الغرائب فغير مستبعد أن يقول قبر بدلا من صلى ،و على التسليم الجدلي بصحة الحديث فليس في الحديث أن قبور السبعين نبيا ظاهرة بارزة ،ولا يوجد أثر لهذه القبور فهي قد خفيت و اندرست في الأرض و هذه الأحاديث على التسليم بصحتها لا يمكن أن تعارض السنن المستفيضة في حرمة بناء المساجد على القبور لم ينقل عن أحد ممن صلى في المسجد الأموي من الصحابة – رضي الله عنهم - أنه رأى قبرا فيه و عليه فكيف ينكرون شيئا لم يروه ؟!! .
- قوله تعالى : ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ليس فيه دليل على اتخاذ القبور مساجد فالآية أمر باتخاذ مقام إبراهيم- عليه السلام – مصلى لا أن نتخذ قبره مصلى ،و لم تبين الآية العلة من الأمر و العبادات توقيفية ،و السنة مستفيضة بتحريم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ،ولا قياس مع النص .
هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات








[1] - تحذير الساجد للألباني ص 63-64