شبهة 19 : قال بعضهم : مسألة الصلاة في مسجد به قبر مختلف فيها و مادام في المسألة اختلاف فيجوز الأخذ بالقول الأيسر أو بأي قول من أقوال العلماء ،ومن العلماء من قال بالكراهة كالشافعي فقد قال: ( وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ مَسْجِدٌ، وَأَنْ يُسَوَّى أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَوًّى – أي ظاهر - أَوْ يُصَلَّى إلَيْهِ وَإِنْ صَلَّى إلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ أَسَاءَ )[1] .


و الجواب العبرة بالدليل و ليست بأقوال العلماء ،و أقوال العلماء يستدل لها لا بها و نحن مأمورون بإتباع الكتاب و السنة ،ولا يجوز تقليد من يخالفهما قال تعالى : ﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [ الأعراف : 3 ] ،و إذا خالف عالم ما أنزل إلينا من كتاب أو سنة فنحن مأمورون بإتباع الوحيين و نبذ ما يخالفهما .

و العلماء مخبرون عن حكم الله ، و ليسوا مشرعين ،و ليسوا بمعصومين من الخطأ و الزلل ،و لذلك كلامهم يأخذ منه ويرد ،و أقوالهم تعرض على الكتاب والسنة فنأخذ بقول العالم الذي يوافق الكتاب والسنة ، ،ونتأدب في رد القول المخالف .

و في إتباع القول الموافق للقرآن و السنة طاعة الله و طاعة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،وفي إتباع القول المخالف للقرآن و السنة عدم طاعة الله و عدم طاعة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،و الله قد أمر عند الاختلاف بالرد للكتاب والسنة لا تخير قول من أقوال العلماء .

قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [ النساء : 59 ] فأقوال العلماء لابد أن تعرض على الكتاب والسنة فيؤخذ بالقول الذي يوافق الكتاب والسنة ،ولا يلتفت للقول الذي يخالف الكتاب والسنة .

و إذا حكم الله أو حكم رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسألة فلا يجوز مخالفة حكم الله أو حكم رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقول عالم من العلماء قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [ النور : 51 ]

و إذا تبين لأحد حكم عن رسول الله فلا يجوز مخالفته لقول عالم من العلماء قال تعالى : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ النور : 63 ] قال الشافعى - رحمه الله - : ( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد )[2].


و يجب تحكيم السنة و التسليم لحكم السنة فهذا من طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،وقد جعل الله – سبحانه و تعالى - طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من لوازم الإيمان قال تعالى : ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ [ النساء : 65 ]


و نحن مأمورون بإتباع الكتاب و السنة ،وليس في إتباعهما عسر على الناس و لا تضييق على الناس قال تعالى : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ﴾ [ البقرة : 185 ] فما أمر الله وألزم إلا بما هو سهل على النفوس ،ولا يأمر الله بما يثقل على النفس و يضيق عليها .

وليس في الشريعة حكم يخرج عن مقدرة الإنسان قال تعالى : ﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : 286 ] فسبحانه لا يكلفنا ما لا نطيق ،ولا يحملنا ما لا طاقة لنا به و إذا حكم الله - سبحانه وتعالى - أو حكم رسوله - صلى الله عليه وسلم فحكمهما يسر لا عسر أما الحكم المخالف لحكمهما فليس بيسر بل فيه الهلكة و الفساد لمخالفة حكم رب العباد .

وقول بعض العلماء المتقدمين بأن اتخاذ القبور مساجد مكروه فالمقصود به كراهة التحريم لا كراهة التنزيه قال ابن تيمية – رحمه الله - : ( والكراهية في كلام السلف كثيراً وغالباً يراد بها التحريم )[3] .

وقال ابن كثير – رحمه الله - : (وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهِيَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ كَثِيرًا ) [4] .

وقال الشاطبي – رحمه الله - : ( وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ. فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .

وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل: 116] )[5]

و قال الدكتور عبد الكريم النملة – رحمه الله - : ( فبعض العلماء يطلق لفظ " مكروه "، ويريد به الحرام والمحظور، وقد روي هذا الإطلاق عن الإمام مالك، والشافعي، وأحمد - رحمهم اللَّه جميعاً - وهو غالب في عبارة المتقدمين، وذلك تورعاً منهم وحذراً من الوقوع تحت طائلة النهي الوارد في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل: 116] ،فكرهوا - لذلك - إطلاق لفظ التحريم ) [6].

و هذه جملة من إطلاق المتقدمين للفظ الكراهة والمراد التحريم :
قال الترمذي – رحمه الله - في سننه: ( بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِتْيَانِ الحَائِضِ ) ، وذكر فيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ » . فهل يستدل الترمذي بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟
و قال أيضا : ( بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الحَلِفِ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلَامِ ) و ذكر عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ»[7] فهل يستدل الترمذي بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟

و قال ابن ماجة – رحمه الله – في سننه : ( بَابُ كَرَاهِيَةِ الْخُلْعِ لِلْمَرْأَةِ ) و ذكر عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : « أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ » [8] فهل يستدل بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟

وقال أيضا : (بَابُ كَرَاهِيَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ ) و ذكر عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ »[9] .
و قال الدارمي – رحمه الله – في سننه : (بَابُ كَرَاهِيَةِ الخُرُوجِ مَنَ المَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ ) وذكر عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ, رَأَى رَجُلاً خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَالَ: " أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ "[10] فهل يستدل الدارمي بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟

و قال أيضا في سننه : ( بَابُ كَرَاهِيَةِ رَفْعِ البَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ ) و ذكر عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلى الله عَليهِ وسَلم - الْمَسْجِدَ وَقَدْ رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلاَةِ ، فَقَالَ: « لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لاَ تَرْجَعُ إِلَيْكُمْ أَبْصَارُكُمْ »[11] فهل يستدل الدارمي بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟.

و قال أبو داود في سننه : (باب كراهية صوْمِ يومِ الشَّك ) و ذكر عن صِلَةَ، قال: كُنَّا عندَ عمارِ في اليومِ الذي يُشَكُّ فيه، فأُتي بشاةٍ، فتنحَّى بعضُ القَوْمِ، فقال عمار: مَنْ صامَ هذا اليومَ، فقد عَصَى أبا القَاسِمِ -صلَّى الله عليه وسلم- [12] فهل يستدل بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟


و قال أيضا : (باب في كراهية الحلف بالآباء ) و ذكر ابنُ عمر: إني سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - يقول: « مَن حلَفَ بغيرِ الله فقد أشركَ »[13] فهل يستدل بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟
و قال النسائي – رحمه الله - في سننه : ( كراهية الاستمطار بالكوكب ) ،وذكر عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: « أَلَمْ تَسْمَعُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ، يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا مَنْ آمَنَ بِي وَحَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ فَذَاكَ الَّذِي آمَنَ بِي وَكَفَرَ بِالْكَوْكَبِ، وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ الَّذِي كَفَرَ بِي وَآمَنَ بِالْكَوْكَبِ »[14] فهل يستدل بالحديث على الكراهة التنزيهية أم الكرهة التحريمية ؟

واستعمال الشافعي - رحمه الله - للفظ الكراهة في قوله : ( وَأَكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ مَسْجِدٌ، وَأَنْ يُسَوَّى أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَوًّى – أي ظاهر - أَوْ يُصَلَّى إلَيْهِ وَإِنْ صَلَّى إلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ أَسَاءَ )[15] إنما يقصد به التحريم كما هو مقتضى النصوص الشرعية، وليس المقصود بكلامه الكراهة باصطلاح الفقهاء المتأخرين بدليل قوله " فقد أساء ".

و قال الألباني - رحمه الله - : ( لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين فقد قال تعالى ﴿ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان [ الحجرات الآية 7 ] ،و هذه كلها محرمات فهذا المعنى والله اعلم هو الذي أراده الشافعي - رحمه الله - بقوله المتقدم " وأكره " ويؤيده انه قال عقب ذلك: " وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء " فإن قوله " أساء " معناه ارتكب سيئة أي حراما فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضا فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) بعد أن نهى عن قتل الأولاد وقربان الزنى وقتل النفس وغير ذلك: ﴿ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها [ الإسراء الآية 38 ] أي محرما )[16].

و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد أبو حنيفة – رحمه الله - قال بدر الدين العيني – رحمه الله - : (وكره أبو حنيفة أن يبنى على القبر أو يوطأ عليه، أو يجلس عليه، أو ينام عليه، أو يقضى عليه حاجة الإنسان من بول أو غائط، أو يعلم بعلامة، أو يصلى إليه، أو يصلى بين القبور )[17] ،و إذا أطلق أبو حنيفة الكراهة فالمراد بها كراهة التحريم .

و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله – الحنفي المذهب فقد قال: (لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر، ونكره أن يجصص، أو يطين، أو يجعل عنده مسجداً، أو علماً، أو يكتب عليه ) [18].

و محمد بن الحسن من أئمة الأحناف ،و الأحناف إذا أطلقوا لفظ المكروه انصرف هذا اللفظ غالباً إلى المكروه تحريماً[19].

قال التفتازاني - رحمه الله - : ( مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ إنْ تَسَاوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَمُبَاحٌ وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى فَمَعَ الْمَنْعِ عَنْ التَّرْكِ وَاجِبٌ وَبِدُونِهِ مَنْدُوبٌ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى فَمَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ حَرَامٌ وَبِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ وَبِدُونِ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ هَذَا عَلَى رَأْيِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - )[20] .

وقال أيضا : (وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ بَلْ هُوَ حَرَامٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَعِنْدَهُ مَا لَزِمَ تَرْكُهُ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى حَرَامًا وَإِلَّا يُسَمَّى مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ مَا لَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى فَرْضًا وَإِلَّا يُسَمَّى وَاجِبًا )[21] .

و في تعليق ابن همام على الهداية عند قول برهان الدين المرغيناني (فَصْلٌ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ) : لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ قِيَامِهَا فِي الظَّهِيرَةِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا قال : ( فصْلٌ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ) اسْتَعْمَلَ الْكَرَاهَةَ هُنَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَشْمَلُ عَدَمَ الْجَوَازِ وَغَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ الْعَدَمِ، أَوْ هُوَ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ وَالْمُرَادُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ الظَّنِّيَّ الثُّبُوتِ غَيْرَ الْمَصْرُوفِ عَنْ مُقْتَضَاهُ يُفِيدُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ .


وَإِنْ كَانَ قَطْعِيُّهُ أَفَادَ التَّحْرِيمَ فَالتَّحْرِيمُ فِي مُقَابَلَةِ الْفَرْضِ فِي الرُّتْبَةِ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَالتَّنْزِيهُ بِرُتْبَةِ الْمَنْدُوبِ وَالنَّهْيِ الْوَارِدِ مِنْ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ إنْ كَانَتْ لِنُقْصَانٍ فِي الْوَقْتِ مُنِعَتْ أَنْ يَصِحَّ فِيهِ مَا تَسَبَّبَ عَنْ وَقْتٍ لَا نَقْصَ فِيهِ لَا لِأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ بَلْ لِعَدَمِ تَأَدِّي مَا وَجَبَ كَامِلًا نَاقِصًا، فَلِذَا قَالَ عَقِيبَ تَرْجَمَتِهِ بِالْكَرَاهَةِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَخْ )[22]


وقال الشرنبلالي – رحمه الله - : ( المكروه ضد المحبوب وما كان النهي فيه ظنيا كراهته تحريمية إلا لصارف وإن لم يكن الدليل نهيا بل كان مفيدا للترك الغير جازم فهي تنزيهية والمكروه تنزيها إلى الحل أقرب والمكروه تحريما إلى الحرمة أقرب )[23] .


و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد جلال الدين السيوطي – رحمه الله – الشافعي المذهب فقد قال : ( فأما بناء المساجد عليها، وإشعال القناديل والشموع أو السُّرج عندها، فقد لعن فاعله ، كما جاء عن النبي قال : " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ". حديث حسن ، و قد تقدم .

وصرح عامة علماء الطوائف بالنهي عن ذلك متابعة للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك. ولا ريب في القطع بتحريمه لما بينت في صحيح مسلم عن جندب ابن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - ، قال : سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك " )[24].


وممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد بل عدها من الكبائر ابن حجر الهيتمي – رحمه الله – الشافعي المذهب فقد قال : ( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ: اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيْهَا، وَاِتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا، وَالطَّوَافُ بِهَا، وَاسْتِلَامُهَا، وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا )[25] .


وممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد الشوكاني – رحمه الله – الشافعي المذهب فقد قال : ( وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إليها أَوْ عَلَيْهَا » ،وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ، وَزَادَ فِيهِ «فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ )[26] .


وقال أيضا : ( وأما تحريم اتخاذ القبور مساجد فالأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما ولها ألفاظ منها "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي لفظ "قاتل الله اليهود الحديث" وفي لفظ "لا تتخذوا قبري مسجدا" وفي آخر "لا تتخذوا قبري وثنا" )[27].



و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد ابن عبد البر – رحمه الله – المالكي المذهب فقد قال : ( يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ )[28]


و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد القرطبي – رحمه الله – المالكي المذهب فقد قال : ( فَاتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَالصَّلَاةُ فِيهَا وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ السُّنَّةُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ مَمْنُوعٌ لَا يَجُوزُ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ )[29]. ثم قال بعد ذلك : ( قال علماؤنا: وهذا يحرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد )[30].

و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد ابن قدامة – رحمه الله – الحنبلي المذهب فقد قال : ( وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ )[31].

و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد ابن القيم – رحمه الله – فقد قال : (فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً؛لم يجز، ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه - صلى الله عليه وسلم -) [32].

و ممن قال بتحريم اتخاذ القبور مساجد ابن تيمية – رحمه الله – فقد قال : ( لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَيْهَا أَوْ بِقَصْدِ الصَّلَاةِ عِنْدَهَا بَلْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ قَصْدَ الصَّلَاةِ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ أَوْ عِنْدَ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: أَمْرٌ مَشْرُوعٌ بِحَيْثُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَا قَبْرَ فِيهِ: فَقَدْ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ. وَخَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ قَائِلُ هَذَا وَمُعْتَقِدُهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. بَلْ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا. فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ لَا اتِّفَاقًا وَلَا ابْتِغَاءً لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَالذَّرِيعَةِ إلَى الشِّرْكِ وَوُجُوبِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ. وَمِنْهُمْ مِنْ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْعَامَّةِ. فَإِنَّ تِلْكَ مِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُ النَّهْيَ عَنْهَا بِنَجَاسَةِ التُّرَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُهُ بِالتَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْقُبُورِ فَقَدْ نَهَوْا عَنْهُ. مُعَلِّلِينَ بِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِتَعْظِيمِ الْمَخْلُوقِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا وَعِنْدَ وُجُودِهَا فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَقَالَ إنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشَابَهَةِ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُصَلِّي السُّجُودَ إلَّا لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ. فَكَيْفَ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ لِتَعْظِيمِ الْقُبُورِ؟ ) [33].

شبهة 20 : مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم - بالمدينة كان مقبرة للمشركين ،وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم - المقبرة مسجدا يدل على جواز اتخاذ القبور مساجد ،والجواب لاشك أن موضع المسجد النبوي كان مقبرة للمشركين و لكن نبشت قبورهم وسواها واتخذها مسجداً .

والدليل عن أنس قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المَدِينَةَ فَنَزَلَ أَعْلَى المَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ .

وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا»، قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ .

فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ المُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»[34] .

الشاهد قوله " فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ " ففي هذا جواز نبش قبور المشركين واتخاذ مكانها مسجدا ،والمسلم لا يجوز نبش قبره إلا في حالات معينة والقبر إذا نبش خرج عن كونه قبرا .

و علة النهي عن اتخاذ القبور مساجد لا تتحقق في نبش قبر المشرك و بناء مسجد مكانه فأين التعظيم و في هذا الفعل انتهاك لحرمة المشرك بنبش قبره ؟ و أين الغلو وقد نبش قبره ؟ و أين قصد التبرك و المقبور كان مشركا ؟




[1] - الأم للشافعي 1/317

[2] - الإيقاظ للفلانى ص 68

[3] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 32/241

[4] - تفسير ابن كثير 3/326

[5] - الاعتصام للشاطبي 2/537

[6] - المهذب في علم أصول الفقه لعبد الكريم النملة 1/285

[7] - سنن الترمذي رقم 1543

[8] - سنن ابن ماجة رقم 2054

[9] - سنن ابن ماجة رقم 3588

[10] - سنن الدارمي رقم 1338

[11] - سنن الدارمي رقم 1433

[12] - سنن أبي داود حديث رقم 2334

[13] - سنن أبي داود حديث رقم 3251

[14] - سنن النسائي رقم 1525

[15] - الأم للشافعي 1/317

[16] - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للألباني ص 43

[17] - البناية شرح الهداية لبدر الدين العيني 3/259

[18] - الآثار لمحمد بن الحسن 2/190 رقم 256

[19] - المهذب في علم أصول الفقه لعبد الكريم النملة 1/287

[20] - شرح التلويح على التوضيح لتفتازاني 1/17

[21] - شرح التلويح على التوضيح لتفتازاني 2/253

[22] - فتح القدير لابن همام 1/231

[23] - مراقي الفلاح شرح متن نور الإيضاح لشرنبلالي ص 126

[24] - حقيقة السنة و البدعة للسيوطي ص 114

[25] - الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي 1/244

[26] - نيل الأوطار للشوكاني 4/110

[27] - الدراري المضية شرح الدرر البهية 1/147

[28] - التمهيد لابن عبد البر 1/168

[29] - تفسير القرطبي 10/379

[30] - تفسير القرطبي 10/380

[31] - المغني لابن قدامة 2/379

[32] - زاد المعاد لابن القيم 3/501

[33] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 27/488-489

[34] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 428 , ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 524