شبهة 13 : كانت عائشة – رضي الله عنها - تصلي في حجرتها والرسول - صلى الله عليه وسلم- مقبور فيها فهي كانت تصلي عند القبر ،ولو كانت الصلاة عند القبر غير جائزة ما فعلت ،والجواب دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في بيت عائشة – رضي الله عنها - لا دلالة فيه على أنها كانت تصلي عند القبر ،ولا في مكان القبر من وجوه :

الوجه الأول : من المعلوم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دفن في جزء من البيت لا كل البيت فقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي كَانَتْ تَخْتَصُّ بِهَا شَرْقِيَّ مَسْجِدِهِ فِي الزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْقِبْلِيَّةِ مِنَ الْحُجْرَةِ[1] ، وقد جُعل رأس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى المغرب، ورجلاه إلى المشرق، ووجه إلى القبلة ،و إذ كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد دفن في جزء من البيت لا كل البيت ففي بقية البيت متسع للصلاة ،وفرق بين الصلاة عند مكان القبر ،والصلاة في بيت به قبر .


الوجه الثاني : دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في بيت عائشة – رضي الله عنها – ليس نصا في أنها كانت تصلي عند مكان قبره إذ البيت من بيوت الناس معروف [2] ،و عادة يتكون البيت من أكثر من مكان كمكان للنوم ، و مكان للأمتعة من طعام وشراب وملبس ،و مكان لإعداد الطعام والشراب و مكان لاستقبال الضيوف ،و قد يكون مكان الطعام و الشراب هو مكان استقبال الضيوف ،و هناك مكان للصلاة وقد يكون بجانب مكان النوم أو في مكان الطعام والشراب .


و عن جابر – رضي الله عنه - قال: ركبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرساً بالمدينة، فصَرَعَه على جِذْمِ نخلةٍ، فانفكَّت قَدَمُه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مَشرُبةٍ لعائشةَ يُسبِّحُ جالساً، قال: فقُمنا خلفَه، فسكت عنَّا، ثمَّ أتيناه مرَّةً أُخرى نَعودُه، فصلّى المكتوبةَ جالساً، فقُمنا خلفَه، فأشار إلينا، فقَعَدنا، قال: فلمَّا قضى الصَّلاةَ قال: « إذا صلَّى الإمامُ جالساً فصلُّوا جُلوساً، وإذا صلَّى الإمامُ قائماً فصلوا قياماً ولا تفعلوا كما يفعلُ أهلُ فارسٍ بعُظمائها »[3] الشاهد من الحديث قول جابر – رضي الله عنه - : " مشربة لعائشة " و ليس مشربة عائشة مما يدل على وجود أكثر من مشربة في بيت عائشة و أن بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – كان مقسما .

وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ أَبِي سَرِيحَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: كُنَّا فِي ظِلِّ حَائِطٍ فِي مَشْرُبَةٍ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ السَّاعَةَ [4] الشاهد من الحديث : قول حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ : " مَشْرُبَةٍ لِعَائِشَةَ " و ليس مشربة عائشة مما يدل على وجود أكثر من مشربة في بيت عائشة و أن بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – كان مقسما .

وعَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَلَسَ رَجُلٌ بِفِنَاءِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ، قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ أُسَبِّحُ لَقُلْتُ لَهُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ، إِنَّمَا كَانَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصْلًا، تَفْهَمُهُ الْقُلُوبُ »[5] . الشاهد من الحديث : قول عُرْوَة بْنُ الزُّبَيْرِ : " بِفِنَاءِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ " مما يدل أن بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – كان فيه فناء مما يدل أن بيتها كان مقسما إلى أجزاء .

و المقصود أن بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – كان مكونا من أكثر من جزء فمكان القبر ليس بلازم أن يكون مكان الصلاة .


الوجه الثالث : وعلى التسليم الجدلي بأن البيت لم يكن مقسما فإن البيت أربعة أجزاء وهي : شمال شرق و شمال غرب و جنوب شرق وجنوب غرب ،و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دفن في الزاوية الغربية الجنوبية ،وبالتالي هناك ثلاثة أجزاء ليس فيها قبر و لا مكان قبر لكن بجوار مكان القبر ،و المحرم الصلاة عند القبر أو علي القبر أو في القبر أو إلى القبر وليس في مكان بجوار مكان القبر باعتبار أنه سكن فعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تسكن في بيتها و في مكان غير مكان القبر .

قال ابن تيمية – رحمه الله - : ( مَعَ أَنَّ قَبْرَهُ مِنْ حِينِ دُفِنَ لَمْ يُمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ لَا لِزِيَارَةِ وَلَا لِصَلَاةِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَكِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ بَيْتُهَا. وَكَانَتْ نَاحِيَةً عَنْ الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ فِي مُقَدِّمِ الْحُجْرَةِ وَكَانَتْ هِيَ فِي مُؤَخِّرِ الْحُجْرَةِ. وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَدْخُلُونَ إلَى هُنَاكَ )[6].

و الصلاة بجوار مكان القبر ليست كالصلاة في مكان القبر ومثله الصلاة في مسجد بجانبه قبر ليست كالصلاة في مسجد بني على قبر ،ومثله الصلاة بجوار مكان الحمام ليست كالصلاة في الحمام ،والصلاة في معاطن الإبل ليست كالصلاة في مكان بجوار معاطن الإبل .

الوجه الرابع : عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلاَمَ، ثُمَّ سَلْهَا، أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ، قَالَتْ: " كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلَأُوثِرَنَّهُ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي "[7] الشاهد قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : " كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلَأُوثِرَنَّهُ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي " يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد[8] ، و بالجمع بين هذا وبين دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الزاوية الغربية الجنوبية أي باقي ثلاث زوايا ليس فيها قبر يتبين أن مكان الدفن كان مميزا محددا عن باقي البيت فخرج قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – و قبر أبي بكر – رضي الله عنه – عن البيت ،وصار ذلك الجزء من البيت مدفنا ،وهذا المدفن لم يبق منه إلا موضع قبر - في ظنها - ،و إلا لأمكن من دفنها و دفن غيرها إن أرادت في باقي البيت .

الوجه الخامس : يستحيل أن يكون مكان القبر مكان معيشة عائشة – رضي الله عنها – لأن في جعل المدفن مكان المعيشة امتهان لحرمة الموتى بأن يقع على مكان القبر شيء أو يصل إليه ماء أو يجلس عليه أحد فتعين أن يكون هناك ما يفصل ما بين مكان المعيشة ومكان الدفن ،ويستأنس لهذا قول مالك – رحمه الله - قُسِمَ بَيْتُ عَائِشَةَ بِاثْنَيْنِ: قِسْمٌ كَانَ فِيهِ الْقَبْرُ. وَقِسْمٌ كَانَ تَكُونُ فِيهِ عَائِشَةُ. وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ. فَكَانَتْ عَائِشَةُ رُبَّمَا دَخَلَتْ حَيْثُ الْقَبْرُ فُضُلا. فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ لَمْ تَدْخُلْهُ إلا وهي جامعة عليها ثيابها[9] .

الوجه السادس : عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ : «كُنْتُ أَدْخُلُ الْبَيْتَ الَّذِي دُفِنَ مَعَهُمَا عُمَرُ، وَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - »[10] الشاهد من الحديث : قول عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – " كُنْتُ أَدْخُلُ " ،وقولها:" مَا دَخَلْتُ " يستلزم أنها لم تكن مقيمة في مكان القبر ،و أن القبر في مكان مميز مفصول عن مكان معيشتها تدخل إليه من وقت لآخر ،وليست مقيمة فيه ،ويستأنس لهذا قول مالك – رحمه الله - قُسِمَ بَيْتُ عَائِشَةَ بِاثْنَيْنِ: قِسْمٌ كَانَ فِيهِ الْقَبْرُ. وَقِسْمٌ كَانَ تَكُونُ فِيهِ عَائِشَةُ. وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ. فَكَانَتْ عَائِشَةُ رُبَّمَا دَخَلَتْ حَيْثُ الْقَبْرُ فُضُلا. فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ لَمْ تَدْخُلْهُ إلا وهي جامعة عليها ثيابها[11].


وقولها " البيت الَّذِي دُفِنَ مَعَهُمَا عُمَرُ " و لم تقل : بيتي يستلزم أن هذا الجزء من البيت لم يعد في حكم بيتها بل أصبح جزءا مفصولا مميزا عن بقية البيت ،وقولها : " مَشْدُودٌ عَلَيَّ ثِيَابِي " يستلزم أنها ليست في بيتها المخصص للمعيشة ؛لأن في البيت المخصص للمعيشة تضع النساء الحجاب .

و عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّهِ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - :«فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ»[12] الشاهد قول القاسم - رحمه الله - : " اكشفي لي " يدل أن القبر في مكان غير مكان المعيشة و أن مكان القبر مفصول عن مكان المعيشة بساتر .

و ليس معنى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دفن في حجرة عائشة أن الحجرة لم تكن مكونة من أكثر من جزء فمن المعلوم أن الحجرة في اللغة أعم من الحجرة بمفهومنا اليوم فالحجرة لغة كل منزل محوط عَلَيْهِ[13] أو الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها[14] ، و أَصل الحُجْرِ فِي اللُّغَةِ مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ أَي مَنَعْتَهُ مِنْ أَن يُوصَلَ إِليه. وَكُلُّ مَا مَنَعْتَ مِنْهُ، فَقَدْ حَجَرْتَ عَلَيْهِ؛ وَكَذَلِكَ حَجْرُ الحُكَّامِ عَلَى الأَيتام: مَنْعُهم؛ وَكَذَلِكَ الحُجْرَةُ الَّتِي يَنْزِلُهَا النَّاسُ، وَهُوَ مَا حَوَّطُوا عَلَيْهِ[15].

الوجه السابع : أن عائشة - رضي الله عنها - ممن روى الأحاديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد‏ منها: « لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » ، قَالَتْ عَائِشَةُ : « لَوْلاَ ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا »[16] ،والصحابي في الغالب لا يخالف مرويه و لو كانت تصلي في الحجرة التي فيها القبور لخالفت الأحاديث التي روتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وهذا لا يليق بها .
الوجه الثامن : لو سلمنا جدلا أن عائشة كانت تصلي في الحجرة التي فيها القبر لكان الحجة في مرويها لا في فعلها ، ورأي الصحابي إذا خالف الكتاب والسنة لا يعتد به .
فائدة : قال ابن قدامة – رحمه الله - : ( وَالدَّفْنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَعْجَبُ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَأَشْبَهُ بِمَسَاكِنِ الْآخِرَةِ، وَأَكْثَرُ لِلدُّعَاءِ لَهُ، وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَزَلْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُقْبَرُونَ فِي الصَّحَارِي. فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبِرَ فِي بَيْتِهِ، وَقُبِرَ صَاحِبَاهُ مَعَهُ؟ قُلْنَا: قَالَتْ عَائِشَةُ إنَّمَا فُعِلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْفِنُ أَصْحَابَهُ فِي الْبَقِيعِ، وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ رَأَوْا تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ رُوِيَ: " يُدْفَنُ الْأَنْبِيَاءُ حَيْثُ يَمُوتُونَ " وَصِيَانَةً لَهُمْ عَنْ كَثْرَةِ الطُّرَّاقِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ )[17].


شبهة 14 : قال بعضهم : بتأملنا في دفنه - صلى الله عليه وسلم- نجد أنه قُبض في حجرة السيدة عائشة -رضي الله عنها -، وهذه الحجرة كانت متصلة بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمون، فوضع الحجرة بالنسبة للمسجد كان تقريبا هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرة فيها ضريح لأحد الأولياء في زماننا ،وعليه فيجوز الصلاة في مسجد به قبر إذا كان القبر في حجرة منفصلة عن مكان الصلاة ، والجواب فرق بين مسجد بجانب قبر ،ومسجد بني على قبر فمادام القبر خارج حدود المسجد والقبر ليس داخلا في حدود المسجد بل لكل منهما بناء مستقل أو جدار مستقل فهذا جائز ، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دفن في بيت عائشة ،وبيت عائشة كان بجوار المسجد لا في المسجد و إذا كان بيت عائشة بيتا فله حكم البيوت لا حكم المساجد فقد كان بناءا مستقلا عن المسجد و كان يعيش فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- وزوجه و كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يأتي فيه أهله .

و النبي - صلى الله عليه وسلم- هو الذي بنى بيته و بنى مسجده و ليس المسجد مبني على القبر و لا القبر دخل في المسجد بل كل منهما بناء مستقل وحال وجود حجرة عائشة في المسجد النبوي من جنس المقبرة التي أمام المسجد مفصولة عنه فلا تضره ، والصحابة – رضي الله عنهم – دفنوه في بيته بجانب مسجده ،و ظل مكان قبره خارج المسجد النبوى في عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وفي عهد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه - ،وفي فترة من خلافة بني أمية ،وحتى بعد إدخال الحجرة في المسجد لم يتغير الحكم لأن صورة المسألة بيت مستقل في مسجد لا قبر في مسجد .

شبهة 15 : قال بعضهم : لا يمكن أبدًا القول ببطلان الصلاة أو حرمتها في المساجد التي تضم الأضرحة والقبور وإلا لوجب القول ببطلان صلاة المسلمين وحرمتها في المسجد النبوي الشريف ، لأنه يضم قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقبر أبي بكر وقبر عمر - رضي الله عنهما - .

و الجواب هناك فرق شاسع بين الصلاة في مسجد به ضريح ، و الصلاة في المسجد النبوي و هناك فرق شاسع بين حال المساجد التي بها أضرحة و حال المسجد النبوي ومن هذه الفروق :
الفرق الأول : المساجد التي بها أضرحة صورتها ضريح في مسجد و المسجد النبوي صورته بيت في مسجد .
الفرق الثاني : المساجد التي بها أضرحة بني المسجد على الضريح أو أدخل الضريح في المسجد أما المسجد النبوي أدخل البيت في المسجد .
الفرق الثالث : المساجد التي بها أضرحة بنيت من أجل قصد التبرك أما المسجد النبوي فبناه النبي - صلى الله عليه وسلم – ،و في خلافة الوليد أدخل البيت فيه من أجل التوسعة لا التبرك ،و لم يكن على بال الوليد أمر التبرك بإدخال حجرة عائشة في المسجد ،و كل روايات إدخال حجرة عائشة في المسجد تشهد بذلك .
الفرق الرابع : المساجد التي بها أضرحة قبر صاحب الضريح في المسجد أو مكان القبر في المسجد أما المسجد النبوي فالقبر في أحد بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم – و هو حجرة عائشة - رضي الله عنها - ،و لا يقال : هذا البيت النبوي أطلق عليه حجرة عائشة و أيضا الضريح يكون في حجرة فلما تفرق بين حجرة و حجرة ،والجواب الحجرة في اللغة أعم من الحجرة بمفهومنا اليوم فالحجرة لغة : كل منزل محوط عَلَيْهِ[18] أو الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها[19] أي الحجرة في عصرهم تطلق على البيت أما الحجرة في عصرنا فمعناها معروف ،وشتان بين الحجرة بمفهومنا والحجرة بمفهومهم.
الفرق الخامس : المساجد التي بها أضرحة قبر صاحب الضريح في المسجد أو في حجرة منفصلة عن المسجد - بمفهومنا المعاصر لكلمة حجرة – يعني على أقل تقدير جدار الحجرة التي بها قبر يكون متصلا بالمسجد و ليس جدار الحجرة التي بها القبر منفصلا عن جدار المسجد أما المسجد النبوي فجدار البيت الذي فيه القبر منفصل عن المسجد النبوي بأكثر من جدار بحيث لو أردت أن تفصل المسجد النبوي عن البيت الذي فيه القبر لأمكن دون التعرض للجدار الأول للبيت النبوي .
الفرق السادس : النصوص صريحة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد أما إدخال بيت فيه قبر في مسجد من أجل مصلحة التوسعة ،و هناك العديد من الجدران تفصل بين البيت و المسجد فلا يوجد نص صريح في تحريمه و إن كان يمنع سدا للذريعة ،وما منع سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة إذا كانت المصلحة لا تتحقق إلا به و لكن يمكن أن تتحقق مصلحة التوسعة دون إدخال البيت النبوي في المسجد .
الفرق السابع : المساجد التي بها أضرحة يصل الناس للضريح للتمسح و التبرك و دعاء صاحب الضريح إلى غير ذلك من الشركيات أما في المسجد النبوي فلا يستطيع الناس الوصول للبيت الذي فيه القبر فضلا عن القبر لوجود ثلاثة جدران محاطة به :
الجدار الأول : جدار حجرة عائشة
الجدار الثاني : عمله عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد بن عبد الملك
الجدار الثالث : بني بعد ذلك ثم بعد ذلك وضع السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث
الفرق الثامن : لو سلمنا جدلا بحرمة الصلاة في المسجد النبوي من أجل سد ذريعة الشرك على فرض أن القبر في المسجد لا في حجرة عائشة فالصلاة في المسجد النبوي تجوز من أجل تحصيل مصلحة أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ،و ما حرم سدا للذريعة يباح للمصلحة إذ لم يمكن تحقيق المصلحة إلا به ،وهذه المصلحة لا توجد في المساجد التي بها أضرحة .



[1] - السيرة النبوية لابن كثير 4/541

[2] - جمهرة اللغة للأزدي 1/257 ،و الصحاح للجوهري 1/244 ، و مجمل اللغة لابن فارس 1/139

[3] - رواه أبو داود في سننه رقم 602 ، و أخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم 1615 ، ورواه البخاري في الأدب المفرد رقم 960 ، وأخرجه بن حبان في صحيحه رقم 2112

[4] - شرح مشكل الآثار لأبي جعفر الطحاوي رقم 961

[5] - مسند أبي يعلى رقم 4393

[6] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 27/399

[7] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 1392

[8] - فتح الباري لابن حجر 3/258

[9] - الطبقات الكبرى لابن سعد 2/224

[10] - رواه الحاكم في المستدرك حديث رقم 6721

[11] - الطبقات الكبرى لابن سعد 2/224

[12] - رواه أبو داود في سننه رقم 3220 وسكت عنه وضعفه الألباني ،ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده رقم 4571 ،ورواه البيهقي في السنن الكبرى رقم 6758 وقال البيهقي : وَحَدِيثُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ، وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا 4/5 ، وأخرجه الحاكم في المستدرك رقم 1368 قال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ،ولم يتعقبه الذهبي ،وقال النووي : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيره بأسانيد صَحِيحَة ( خلاصة الأحكام للنووي 2/1024 ) ،وقال ابن الملقن : هذا الحديث صحيح ( البدر المنير لابن الملقن 5/319 )

[13] - إكمال الأعلام بتثليث الكلام لابن مالك الجياني 1/136 ، المطلع على ألفاظ المقنع لابن أبي الفضل البعلي ص 476

[14] - تفسير الزمخشري 4/357 ،وتفسير القرطبي 16/310 ،وتفسير النسفي 3/349 ،و بصائر ذوي التمييز لمجد الدين الفيروزآبادي 2/ 436 ،وفتح القدير للشوكاني 5/70

[15] - لسان العرب لابن منظور 4/167

[16] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 4441 , ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 529

[17] - المغني لابن قدامة 2/380

[18] - إكمال الأعلام بتثليث الكلام لابن مالك الجياني 1/136 ، المطلع على ألفاظ المقنع لابن أبي الفضل البعلي ص 476

[19] - تفسير الزمخشري 4/357 ،وتفسير القرطبي 16/310 ،وتفسير النسفي 3/349 ،و بصائر ذوي التمييز لمجد الدين الفيروزآبادي 2/ 436 ،وفتح القدير للشوكاني 5/70