شق الصدر:

وفي ذات يوم ، وكان محمد e قد قارب الرابعة من عمره، وبينما هو يلهو مع أخيه من الرضاع - ابن حليمة - بعيدا عن الخيام جاء ابن حليمة وهو يجري وعلى وجهه سمات الجزع، وطلب منها أن تدرك أخاه القرشي، فسألته عن الأمر؛ فقال: لقد رأيت رجلين في ثياب بيضاء، يأخذانه من بيننا، ويضجعانه ثم يشقان صدره، وقبل أن يكمل روايته، كانت حليمة تركض نحو محمد e فرأته واقفا مكانه لا يتحرك، وقد علت الصفرة وجهه، وامتقع لونه، فسألته في لهفة عما أصابه، فأخبرها أنه بخير، وحكى لها أن رجلين في ثياب بيضاء أخذاه فشقا صدره ثم أخرجا قلبه فاستخلصا منه علقة سوداء طرحاها، ثم غسلا القلب بماء بارد، ثم أعاداه إلى الجوف، ثم مسحا فوق الصدر، وغادرا المكان ثم اختفيا. وحاولت حليمة أن تتحسس موضع الشق، فلم تر أثرا، ثم عادت بمحمد إلى الخباء. ومع إطلالة فجر اليوم التالي، كانت حليمة تحمل محمدا إلى أمه في مكة. واستغربت آمنة عودة حليمة في غير أوانها، رغم حرصها على الطفل، وسألتها عن السبب، فحدثتها حليمة بعد إلحاح عن حادثة شق الصدر.

وخرجت آمنة بطفلها اليتيم إلى يثرب لزيارة أخواله من بني النجار، فمكثت أياما، ثم وافاها الأجل وهي في طريق العودة، في مكان يسمى الأبواء، وهناك دفنت، وهاهو محمد يودع أمه وهو في السادسة من عمره، وكان على جده عبدالمطلب أن يعوضه الكثير، فرعاه وكفله، وعطف عليه. ومع تمام الثامنة من عمره e توفي جده عبدالمطلب، فكفله عمه أبو طالب رغم كثرة عياله وقلة ماله، وعامله عمه وكذلك زوجته كواحد من أبنائهما، ولقد تعلق الطفل اليتيم بعمه إلى حد كبير، وفي هذا الجو بدأ تكونه الأولي، ونشأ على الصدق والأمانة حتى كانتا لقبا يعرف به، فإذا قيل حضر الأمين، عرف أنه محمد e.

وبعد أن شب وكبر قليلا بدأ في محاولة الاعتماد على نفسه في شؤون حياته وكسب معاشه، فبدأ عليه الصلاة والسلام، رحلة العمل والكسب، فعمل راعيا لبعض القرشيين على أغنامهم مقابل مبلغ من المال.

وانخرط في رحلة إلى الشام كانت قد ساهمت فيها، خديجة بنت خويلد بمال كثير، وكانت سيدة ثرية، وكان وكيلها على مالها في تلك الرحلة ميسرة غلامها ومدبر أعمالها؛ وببركة رسول الله e وأمانته، ربحت تجارة خديجة ربحا لم تعهده من قبل، فسألت غلامها ميسرة عن سبب هذا الربح العظيم، فأنبأها بأن محمد بن عبدالله تولى عملية العرض والبيع، ولقد أقبل الناس عليه إقبالا كبيرا، فكان الربح الكثير من غير ظلم. وأصغت خديجة إلى غلامها ميسرة وكانت تعرف عن محمد بن عبدالله بعض الأمور، فاشتد إعجابها به، وكانت قد تزوجت من قبل وتوفي عنها زوجها، فأرادت أن تدخل في تجربة جديدة، في كنف زوج هو محمد بن عبدالله، فأرسلت إحدى قريباتها تستطلع لها تجاوب محمد بن عبدالله e في ذلك الأمر، وكان عليه الصلاة والسلام قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره الشريف. فأتته المرأة تعرض عليه الزواج من خديجة فرضي ذلك. فتم الزواج وسعد كل واحد منهما بالآخر. وأخذ محمد في إدارة شؤون ثروة خديجة وأثبت كفاءته وقدرته. وتتابع حمل خديجة وولادتها، فكان لها من البنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. ولها من البنين القاسم و عبدالله وقد ماتا في صغرهما.


النبوة

ومع اقتراب سنه الشريف من الأربعين، كان عليه الصلاة والسلام يكثر من الوحدة والخلوة في غار حراء في جبل يقع قريبا من مكة يقضي هناك أياما وليالي. وفي ليلة الحادي والعشرين من رمضان وبينما هو في غار حراء وقد بلغ الأربعين أتاه جبريل عليه السلام فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء. فعاوده جبريل للمرة الثانية والثالثة، وفي الثالثة قال له: } اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم{ ثم انصرف عنه، ولم يطق رسول الله e البقاء في غار حراء، فعاد إلى بيته ودخل على خديجة يرجف فؤاده، فقال: زملوني، زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة بما حصل له، ثم قال لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا، والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وبعد أيام رجع e إلى غار حراء ليواصل تعبده فيه، ويكمل ما تبقى من شهر رمضان، فلما انتهى شهر رمضان نزل من حراء ليعود إلى مكة، فلما صار في بطن الوادي جاءه جبريل جالسا على كرسي بين السماء والأرض ثم نزلت: } يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر{ ثم استمر الوحي وتتابع.

فلما بدأ النبي e دعوته لبت الزوجة الفاضلة نداء الإيمان، فشهدت لله بالوحدانية، ولزوجها الكريم بالنبوة، فكانت أول من أسلم. ولقد كان رسول الله e وفاء منه لعمه أبي طالب الذي كفله ورعاه بعد أمه وجده، قد استخلص من أبناء عمه عليا يربيه عنده وينفق عليه، وفي هذا الجو فتح عليٌ قلبه فآمن. ثم بعد ذلك تبعهم زيد بن حارثة مولى خديجة. وحدث رسول الله e صديقه الحميم أبا بكر فآمن وصدق بلا تردد.

استمر e في سرية الدعوة، والمقصود بالسرية، سرية المكان الذي يجتمع فيه أصحابه وأتباعه، والأشخاص الذين يدعوهم ثم يسلمون، ولقد آمن به الكثيرون، ولكنهم كانوا يخفون إسلامهم، فإذا ما اكتشف أمر واحد منهم تعرض لأقسى صنوف العذاب من كفار قريش ليرتد عن الإسلام.

الدعوة الجهرية

وبعد أن قضى رسول الله e ثلاث سنوات في الدعوة الفردية أنزل الله: }فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين{ فقام e ذات يوم على الصفا ينادي قريشا، فاجتمع له نفركثير، ومن بينهم عمه أبو لهب، الذي كان من أكثر القرشيين عداوة لله ولرسوله. فلما اجتمع إليه الناس قال: أرأيتم إن أنبأتكم أن وراء هذا الجبل عدوا يتربص بكم، أمصدقي أنتم؟ فقالوا: ما عهدنا فيك إلا الصدق والأمانة. فقال: إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد. ثم راح رسول الله e يدعوهم إلى الله ونبذ ما هم فيه من عبادة الأصنام، وانتفض أبو لهب من بين القوم فقال: تبا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله بعد ذلك: } تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد{ (المسد) ، واستمر النبي e في دعوته وبدأ يجهر بها في أماكن تجمعاتهم ويدعوهم إلى الإسلام. وكان يصلي عند الكعبة. وزاد الأذى للمسلمين من الكفار. كما حدث لياسر وسمية وولدهما عمار، إذ مات الأبوان شهيدين وكانت سمية أول شهيدة في الإسلام وذلك بسبب التعذيب، وأيضا ما تعرض له بلال بن رباح الحبشي على يد أمية بن خلف و أبي جهل. فلقد دخل بلال الإسلام عن طريق أبي بكر فلما علم به سيده أمية بن خلف استعمل معه جميع وسائل التعذيب من أجل أن يترك الإسلام، إلا أنه أبى وتمسك بدينه. فكان أمية يأخذه إلى خارج مكة مقيدا بالسلاسل ويضع على صدره الصخرة العظيمة، بعد أن يمدده على الرمال اللاهبة، ثم ينهال عليه ضربا بالسياط هو وأتباعه وبلال يردد أحد أحد. حتى مر عليه أبو بكر وهو على تلك الحال، فاشتراه من أمية وأعتقه حرا في سبيل الله، ولقد كان من الحكمة مع وجود هذه الاضطهادات أن يمنع رسول الله e المسلمين من إعلان إسلامهم، كما كان يجتمع بهم سرا، لأنه لو اجتمع بهم علنا فلا شك أن المشركين سيحولون بينه وبين ما يريد من تعليمهم وإرشادهم. وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين، ومعلوم أن المصادمة قد تؤدي إلى تدمير المسلمين وإبادتهم لقلة عددهم وعدتهم، فكان من الحكمة الاختفاء، أما رسول الله e فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين رغم ما يناله e من الأذى من كفار قريش.

الهجرة إلـى الحبشة:

وإزاء استمرار المشركين في تعذيب من يكتشف إسلامه، خصوصا الضعاف منهم طلب الرسول e من أصحابه أن يهاجروا بدينهم إلى الحبشة عند النجاشي الذي سيجدون عنده الأمن خصوصا وأن كثيرا من المسلمين قد خشوا على أنفسهم وأهليهم من قريش، وكان ذلك في السنة الخامسة من النبوة. فهاجر من المسلمين قرابة السبعين، بأهليهم، وكان من بينهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت الرسول e ولقد حاول القرشيون إفساد مقامهم في الحبشة فأرسلوا الهدايا إلى الملك وطلبوا منه أن يسلمهم أولئك الهاربين، وقالوا له إن المسلمين يسبون عيسى عليه السلام وأمه، فلما سألهم النجاشي عن ذلك أوضحوا له ما يقوله الإسلام عن عيسى عليه السلام وبينوا له الحق، فأمنهم ورفض تسليمهم إلى قريش. وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي e إلى الحرم، وكان هناك جمع كبير من قريش، فقام فيهم، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة، ولم يكن هؤلاء الكفار قد سمعوا كلام الله من قبل، بسبب أسلوبهم المتواصل بالتواصي بأن لا يسمعوا من الرسول e شيئا. فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة وقرع آذانهم ذلك الكلام الإلهي الخلاب بقي كل واحد منهم مصغيا إليه، لا يخطر بباله شيء سواه، حتى إذا قرأ } فاسجدوا لله واعبدوا{ سجد، ولم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدا، وتوالى عليهم اللوم من كل جانب من المشركين الذين لم يشهدوا ذلك المشهد، وعند ذلك كذبوا على رسول الله e وقالوا بأنه امتدح أصنامهم وقال: إن شفاعتهن لترتجى. جاؤا بهذا الإفك العظيم ليعتذروا عن سجودهم.

إسلام عمر:

كان إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصرا للمسلمين، ولقد سماه رسول الله e الفاروق، لأن الله فرق به بين الحق والباطل. فبعد أيام من إسلامه قال عمر لرسول الله e: يا رسول الله، أولسنا على الحق؟ قال: بلى. فقال: وعلام التخفي والتستر إذا؟ وخرج رسول الله e بالمسلمين الذين كانوا معه في دار الأرقم في مسيرة مكونة من صفين على رأس أحدهما حمزة بن عبدالمطلب وعلى رأس الآخر عمر بن الخطاب إلى طرقات مكة في حركة تنبىء عن القوة في مسيرة الدعوة وابتداء علانيتها.

ولقد اتبعت قريش في سبيل محاربة الدعوة أساليب عديدة، عذبت، واضطهدت، وهددت، وأغرت، لكن كل ذلك لم يؤد إلا إلى مزيد من التمسك بدين الإسلام ومزيد من المؤمنين. وهاهو ذهنها يتفتق عن أسلوب جديد وهو أن يكتبوا صحيفة، يوقعون عليها جميعا ويعلقونها داخل الكعبة بمقاطعة المسلمين وبني هاشم، مقاطعة كلية، فلا يكون معهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا تعاون ولا تعامل. واضطر المسلمون إلى الخروج من مكة إلى شعب من شعابها يسمى ( شعب أبي طالب) وهناك عانى المسلمون معاناة شديدة، وقاسوا من الجوع والشدة ألوانا، وبذل القادرون منهم جل أموالهم، حتى أنفقت خديجة رضي الله عنها كل مالها. وتفشت فيهم الأمراض، وأشرف معظمهم على الهلاك. لكنهم صمدوا، وصبروا، وما تراجع منهم أحد، ودام الحصار ثلاثة أعوام. ثم قام نفر من رجالات قريش البارزين، ممن تربطهم ببعض بني هاشم قرابة قاموا بنقض ما في الصحيفة وأعلنوا ذلك على الملأ، فلما استخرجوا الصحيفة وجدوها قد أكلتها الأرضة، ولم يبق منها إلا طرف بسيط عليه عبارة: باسمك اللهم. وانفرجت الأزمة وعاد المسلمون وبنو هاشم إلى مكة لكن قريشا ظلت على موقفها الصارم في محاربة المسلمين.

عام الحزن:

بدأ المرض الشديد يدب في جسم أبو طالب ، فبقي طريح الفراش ، ثم هاهو يعاني سكرات الموت ورسول الله e عند رأسه يرجوه أن يقول لا إله إلا الله قبل أن يموت لكن أصدقاء السوء الذين كانوا عنده وعلى رأسهم أبو جهل يمنعونه ويقولون له لا تترك دين آبائك وأجدادك. فيموت على الشرك، فيكون حزن الرسول e عليه مضاعفا لفقده إياه من غير أن يسلم.وبعد قرابة شهرين من وفاة أبي طالب توفيت خديجة رضي الله عنها. فحزن عليها الرسول الكريم حزنا شديدا. واشتد البلاء على رسول الله e من قومه بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها.

ذهابه إلى الطائف:

وتمادت قريش في طغيانها وتسلطها وإيذائها للمسلمين، ويئس رسول الله e من صلاح أمر قريش ففكر في الطائف لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام. والرحلة إلى الطائف ليست بالأمر الهين لصعوبة الطريق بسبب الجبال العالية المحيطة بها. ولكن يهون كل صعب في سبيل الله. إلا أن أهل الطائف ردوه عليه الصلاة والسلام أقبح رد، ثم أغروا به صبيانهم فقذفوه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فعاد أدراجه قاصدا مكة وهو كئيب حزين، فجاءه جبريل ومعه ملك الجبال، فناداه جبريل، وقال: إن الله بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت. فقال ملك الجبال: يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (وهما جبلان محيطان بمكة) فقال e: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا.

وكان من جملة جدال المشركين لرسول الله أنهم كانوا يطلبون منه الآيات تعجيزا له وقد تكرر ذلك منهم مرارا. فقد سألوه مرة أن يشق لهم القمر نصفين، فسأل ربه ذلك، فأراهم القمر قد انشق فرقتين، ورأت قريش هذه الآية ولوقت طويل، لكنهم لم يؤمنوا، بل قالوا: لقد سحرنا محمد، فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فانتظروا به السفار، فجاء السفار فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأيناه ولكن قريشا مع ذلك قد أصروا على كفرهم. وكان انشقاق القمر كان تمهيدا لما هو أكبر منه وهو الإسراء والمعراج.

الإسراء والمعراج:

بعد عودته e من الطائف وما حصل له فيها وبعد أن توفي أبو طالب ولحقت به خديجة رضي الله عنها وبعد أن اشتد الأذى من قريش اجتمعت الهموم على قلب رسول الله e فجاءت المواساة لهذا النبي الكريم من ربه، ففي ليلة السابع والعشرين من شهر رجب من السنة العاشرة من البعثة وبينما كان رسول الله e نائما جاءه جبريل بالبراق وهو دابة تشبه الفرس، لها جناحان سريعة العدو كالبرق، فأركبه عليه، ثم مضى به إلى بيت المقدس في فلسطين ثم من هناك عرج به إلى السماء ورأى من آيات ربه الكبرى. وفي السماء فرضت عليه الصلوات الخمس، وعاد e في نفس الليلة إلى مكة المكرمة منشرح البال راسخ اليقين، فلما أصبح ذهب إلى الكعبة وأخذ يحدث الناس بما حصل، فاشتد تكذيب الكفار له واستهزاؤهم به، ثم سأله بعض الحاضرين أن يصف لهم بيت المقدس، وذلك من باب التعجيز فأخذ يصفه لهم جزءا جزءا، ولم يكتف المشركون بهذه التساؤلات بل قالوا نريد دليلا آخر فقال e لقد لقيت في الطريق قافلة آتية صوب مكة ووصفها لهم وأخبرهم بعدد جمالها ووقت قدومها، وصدق رسول الله e، لكن الكافرين ضلوا على كفرهم وعنادهم وعدم التصديق.وصبيحة يوم الإسراء جاء جبريل وعلم الرسول e كيفية الصلوات الخمس وأوقاتها وكانت الصلاة قبل ذلك ركعتين في الصباح وركعتين في المساء.


في تلك الآونة ركز e في دعوته على القادمين إلى مكة بعد أن لجت قريش في نفورها عن الحق، فكان e يلقى الناس في رحالهم ومواقع نزولهم يعرض عليهم الإسلام، ويشرحه لهم، وكان عمه أبو لهب يتبعه يحذر الناس منه ومن دعوته. وفي مرة من المرات أتى إلى جماعة من أهل يثرب فدعاهم، فاستمعوا إليه ثم أجمعوا على اتباعه والإيمان به، وكان أهل يثرب يسمعون من اليهود أن نبيا سيبعث قد قرب زمانه، فلما دعاهم عرفوا أنه النبي الذي تذكره اليهود فأسرعوا إلى الإسلام وقالوا لا تسبقكم اليهود إلى ذلك. وكانوا ستة أشخاص، وفي العام التالي قدم اثنا عشر رجلا فاجتمعوا برسول الله فعلمهم الإسلام فلما رجعوا إلى يثرب أرسل معهم مصعب بن عمير ليعلمهم القرآن ويبين لهم أحكام الدين. وقد استطاع مصعب بن عمير أن يؤثر في مجتمع المدينة فلما عاد إلى مكة بعد سنة كان معه من أهل المدينة اثنان وسبعون رجلا وامرأتان، فاجتمع بهم النبي e فعاهدوه على نصرة دينه والقيام بأمره ثم عادوا إلى المدينة.


مقر الدعوة الجديد:


أصبحت المدينة ملاذا آمنا للحق وأهله فبدأت هجرة المسلمين إليها، غير أن قريشا عزمت على منع المسلمين من الهجرة، فلقي بعض المهاجرين صنوفا من الأذى والعذاب. وكان المسلمين يهاجرون سرا خشية قريش، ولقد كانت هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه آية في الشجاعة والتحدي، إذ توشح سيفه وحمل قوسه وخرج إلى الكعبة فطاف فيها ثم أقبل على المشركين وقال لهم: ( من أراد أن يرمل زوجه، أو ييتم ولده فليلحقني فإني مهاجر) ثم مضى، فما جرأ أحد على التعرض له. أما أبو بكر الصديق فقد كان يستأذن رسول الله e في الهجرة فيقول له: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا ) حتى هاجر أكثر المسلمين، وجن جنون قريش لما رأوا ذلك وخافوا من علو شأن محمد ودعوته، فتشاوروا في الأمر ثم اتفقوا على قتل الرسول e، وقال أبو جهل أرى أن نعطي شابا جلدا من كل قبيلة منا سيفا فيحيطوا بمحمد ويضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، ولا يقوى بنو هاشم بعد هذا على معاداة كل الناس. ولقد أطلع الله نبيه الكريم على تلك المؤامرة فاتفق مع أبي بكر على الهجرة، وفي الليل طلب النبي e من علي بن أبي طالب أن ينام مكانه ليوهم الناس أنه لا يزال في البيت، وأخبره أنه لن يصيبه مكروه. وجاء المتآمرون وطوقوا البيت ورأو عليا في الفراش فظنوه محمدا e فأخذوا ينتظرون خروجه لينقضوا عليه ويقتلوه. وخرج رسول الله e وهم مطوقون للبيت فذر التراب على رؤوسهم فأخذ الله أبصارهم، فلم يشعروا به e ومضى إلى أبي بكر ثم سارا قرابة خمسة أميال واختفيا في غار ثور. أما قريش فبقي فتيانها منتظرين حتى أصبحوا، فلما أصبحوا قام علي من فراش رسول الله e فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله e فلم يخبرهم بشيء فضربوه وسحبوه لكن دون جدوى. ثم أرسلت قريشا الطلب في كل جهة وجعلوا لمن يأتي به حيا أو ميتا مائة ناقة. وواصلوا في الطلب إلى باب الغار حتى لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآهما. فاشتد حزن أبي بكر رضي الله عنه على رسول الله e فقال له: ( ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. لا تحزن إن الله معنا) لكن القوم لم يروهما. ومكثا في الغار ثلاثة أيام ثم انطلقا إلى المدينة، وكان الطريق طويلا ، والشمس حارقة وفي مساء اليوم الثاني مرا بخيمة وجدا فيها امرأة يقال لها أم معبد فطلبا منها الطعام و الشراب فلما يجدا عندها شيئا، إلا شاة هزيلة أقعدها الضعف عن الذهاب إلى المرعى، ولم يكن بها قطرة لبن. فقام إليها رسول الله e فمسح ضرعها ثم حلبها وملأ إناء كبيرا فوقفت أم معبد مذهولة مما رأت ثم شرب الجميع حتى ارتووا ثم حلب ثانية وملأ الإناء وتركه عند أم معبد وواصل سيره. وكان أهل المدينة يترقبون وصوله وينتظرونه كل يوم خارج المدينة، فلما كان يوم وصوله أقبلوا إليه فرحين مرحبين. ونزل في قباء على مشارف المدينة ومكث فيها أربعة أيام أسس فيها مسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام، وفي اليوم الخامس سار إلى المدينة وحاول كثير من الأنصار أن يفوزوا برسول الله e ويشرفوا بضيافته عندهم، فيمسكوا بزمام ناقته، فكان يشكرهم ويقول : دعوها فإنها مأمورة. فلما وصلت الناقة إلى حيث أمرها الله بركت، فلم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت، فبركت في موضعها الأول فنزل عنها وكان ذلك موضع المسجد النبوي. ونزل e عند أبي أيوب الأنصاري. أما علي بن أبي طالب فقد مكث في مكة ثلاثة أيام بعد النبي e ثم خرج إلى المدينة ولحق به في قباء.


النبي e في المدينة:

بنى الرسول e مسجده في المكان الذي بركت فيه الناقة بعد أن اشتراه من أصحابه وآخى بين المهاجرين (وهم أصحابه الذين قدموا معه من مكة) والأنصار ( وهم من نصروهم من أهل المدينة) بأن جعل لكل واحد من الأنصار أخا من المهاجرين يشترك معه في ماله، وبدأ المهاجرون والأنصار يعملون معا وازدادت روابط الأخوة بينهم. وكان لقريش صلة بيهود يثرب فكانوا يحاولون إثارة الاضطراب والفرقة بين المسلمين، وكانت قريش أيضا تهدد المسلمين وتتوعدهم بالقضاء عليهم، وهكذا أحاط الخطر بالمسلمين من الداخل ومن الخارج ووصل الأمر أن الصحابة لم يكونوا يبيتون إلا ومعهم السلاح. وفي هذه الظروف الخطيرة أنزل الله الإذن بالقتال فأخذ الرسول e يرتب البعوث العسكرية لاستكشاف تحركات العدو، وكذلك التعرض لقوافلهم التجارية من أجل الضغط عليهم بإشعارهم بقوة المسلمين حتى يسالموا ويتركوا لهم الحرية في نشر الإسلام والعمل به. كما تم عقد المواثيق والتحالف مع بعض القبائل.

معركة بدر الكبرى:

وعقد e العزم مرة على اعتراض إحدى قوافل قريش التجارية فخرج بثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ولم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيرا فقط. وكانت قافلة قريش مكونة من ألف بعير وكان يقودها أبو سفيان ومعه أربعون رجلا، إلا أن أبا سفيان علم بخروج المسلمين فأرسل إلى مكة يخبرهم بالأمر ويطلب منهم المساعدة، وغير طريقه وذهب من طريق آخر فلم يظفر بهم المسلمون، أما قريش فقد خرجوا بجيش قوامه ألف مقاتل، إلا أنه أتاهم رسول من أبي سفيان يخبرهم بنجاة القافلة ويطلب منهم الرجوع إلى مكة، فرفض أبو جهل العودة وواصل الجيش سيره إلى بدر. ولما علم الرسول e بخروج قريش استشار أصحابه فاتفق الجميع على لقاء ومقاتلة الكفار، وفي صباح يوم الجمعة 17 من رمضان للسنة الثانية من الهجرة تقابل الفريقان وتقاتلوا قتالا شديدا وانتهت المعركة بانتصار المسلمين وقتل منهم أربعة عشرا شهيدا. وأما المشركون فقد قتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون آخرون. وأثناء تلك المعركة توفيت رقية بنت الرسول وزوجة عثمان بن عفان حيث بقي زوجها معها في المدينة لم يخرج إلى تلك الغزوة بناء على طلب الرسولe منه البقاء مع زوجته المريضة. وبعد المعركة زوج الرسول e عثمان ابنته الثانية أم كلثوم، ولهذا فهو يلقب بذي النورين، لأنه تزوج اثنتين من بنات الرسول e.
بعد معركة بدر عاد المسلمون إلى المدينة فرحين بنصر الله، ومعهم الأسرى والغنائم. أما الأسرى فمنهم من فدى نفسه، ومنهم من أطلق سراحه بدون فداء، ومنهم من كانت فديته تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.

معركة أحد:

لقد وقع بعد معركة بدر معارك أخرى بين المسلمين وبين كفار مكة، وقد كانت المعركة الثانية معركة أحد والتي انتصر فيها المشركون على المسلمين الذين خالفوا أمر الرسول وأخلوا بالخطة التي وضعها لهم، حيث خرج أهل مكة بثلاثة آلاف مقاتل والمسلمون بحوالي سبعمائة مقاتل. وبعد هذه الغزوة ذهب نفر من اليهود إلى أهل مكة وحرضوهم على غزو المسلمين في المدينة ووعدوهم بالنصر والتأييد، فاستجابوا لهم، ثم حرض اليهود قبائل أخرى على غزو المسلمين فاستجابوا لهم كذلك. فأخذ المشركون يتجهون نحو المدينة من كل مكان، حتى اجتمع حولها حوالي عشرة آلاف مقاتل. وكان النبي e قد علم بتحركات الأعداء فاستشار أصحابه فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة في الجهة التي ليس فيها جبال، وشارك المسلمون في حفر الخندق حتى تم بسرعة. وبقي المشركون قرابة شهر لا يستطيعون اقتحام الخندق، ثم أرسل الله سبحانه و تعالى ريحا شديدة على الكفار اقتلعت خيامهم فأصابهم الخوف وارتحلوا بسرعة عائدين إلى بلادهم.

فتح مكة:

وفي السنة الثامنة من الهجرة قرر الرسول e غزو مكة وفتحها، فخرج في العاشر من رمضان بعشرة آلاف مقاتل ودخل مكة بلا قتال يذكر حيث استسلمت قريش ونصر الله المسلمين، وتوجه النبي e إلى المسجد الحرام فطاف بالكعبة ثم صلى ركعتين داخلها وبعد ذلك كسر جميع الأصنام التي كانت بداخلها وفوقها، ثم وقف على باب الكعبة وقريش صفوف في المسجد الحرام ينظرون ماذا يصنع بهم، فقال النبي e: يا معشر قريش، ماذا ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا. أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فضرب الرسول e أعظم مثال في العفو عن أعدائه الذين عذبوا وقتلوا أصحابه وآذوه وأخرجوه من بلده. وبعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا. ففي السنة العاشرة من الهجرة حج الرسول e وكانت الحجة الوحيدة له e وقد حج معه أكثر من مائة ألف شخص، وبعد أن أكمل النبي e الحج عاد إلى المدينة.


وفاة النبي e:

بعد حوالي شهرين ونصف من عودته e من الحج بدأ المرض برسول الله e وأخذ يشتد عليه يوما بعد يوم، ولما عجز عن إمامة الناس في الصلاة طلب من أبي بكر الصديق أن يؤم الناس وفي يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة انتقل الرسول e إلى الرفيق الأعلى وقد تم له ثلاث وستون سنة، ووصل الخبر إلى الصحابة فكادوا يفقدون وعيهم ولم يصدقوا الخبر حتى قام فيهم أبو بكر الصديق خطيبا يهدئهم ويبين لهم أن الرسول بشر وأنه يموت كما يموت البشر فهدأ الناس، وتم تغسيل الرسول e وتكفينه ودفنه، وبعد وفاة الرسول e اختار المسلمون أبا بكر الصديق خليفة للمسلمين فكان أول الخلفاء الراشدين. وقد عاش e في مكة أربعين سنة قبل النبوة. وثلاث عشرة سنة بعد النبوة، وعاش عشر سنوات في المدينة.


من أخلاقه e:

كان رسول الله أشجع الناس. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( كنا إذا اشتد البأس، ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله، e ) وكان أسخى الناس، ما سئل شيئا قط فقال لا. وكان أحلم الناس. وكان لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم. والقريب والبعيد والقوي والضعيف عنده في الحق سواء. وقد أكد أنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وأن الناس سواسية، وأنه إنما أهلك الأمم السابقة أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وقال: والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.

وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه. وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار، وكان قوتهم التمر والماء. وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع. وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويساعد أهله في عمل البيت، ويعود المرضى. وكان أشد الناس تواضعا، يجيب من دعاه من غني أو فقير أو دنيء أو شريف. وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، لا يحقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه. وكان يركب الفرس والبعير والحمار والبغل.

وكان أكثر الناس تبسما، وأحسنهم بشرا، مع كثرة ما يصيبه من الأحزان والمصائب. كان يحب الطيب، ويكره الرائحة الكريهة. وقد جمع الله له كمال الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وآتاه الله تعالى من العلم مالم يؤت أحدا من الأولين والآخرين. وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلم له من البشر. جاء بهذا القرآن من عند الله، الذي قال الله تعالى فيه: } قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا { (الإسراء 88) وفي نشأته e أميا قطع للطريق على المكذبين بأنه كتبه أو تعلمه أو قرأه من مصادر الآخرين.