

-
تشتعل الحروب بين البشر، فينتج عنها القتلى والأسرى فتختلف معاملة الأسرى من عصر إلى آخر، اشتركت الحضارات السابقة على قتل الأسرى، وجعلوهم عرضة للتعذيب والإيذاء والاضطهاد، وكانوا يعدلون عن فكرة القتل إلى استرقاقهم، واستهانوهم في الأعمال الشاقَّة الصعبة.
أما اليهود فقاموا بتسخير الأسرى إن هم سَلَّموا بلادَهم بدون حرب، وإذا قاوموهم كان مصيرهم القتل، ولم تعرف الأمم قانونًا لمعاملة الأسرى قبل الإسلام؛ الذي وضع شروطًا لمن يُؤسر؛ فلا يقع في الأسر إلا المحارب، وقد وضع فقهاء الإسلام أوصافًا لمن يجوز أسره، وشروطًا لوقوع الأَسْرِ.
وللإسلام نظم وقوانين تحمي الأسير، وقد شرع الله عز وجل الأَسْرَ فقال في كتابه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] ووصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بحُسن معاملتهم فقال: "اسْتَوْصُوا بِالأَسْرَى خَيْرًا"[1].
فقد رأى أسرى يهود بني قُرَيْظة موقوفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، فقال مخاطِبًا المسلمين المكلَّفين بحراستهم: "لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السّلاَحِ، وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا"، كما نهى عن تعذيبهم وامتهانهم، وحرص الإسلام على الإحسان إليهم، فقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، ولهم كذلك حق في الكساء والحرية الدينية.
أما مصير الأسرى فهو المنّ، أو الفداء، وقد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم منَّ على بعض الأسرى بإطلاقهم وفادى بعض أسرى بدر بالأموال وغيرها. أو الاسترقاق ولا يكون ذلك إلا بأمر ولي الأمر.
أما الأسير المسلم: فقد اتَّفق الفقهاء على حرمة قَتْلِ مُدْبِرِهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال، ولا تُسْبَى لهم ذرِّيَّة ومَنْ قُتِلَ منهم غُسِّل وكُفِّن وصُلِّيَ عليه.
لماذا لا تنتقم من أعدائك؟! فقد قال صلاح الدين الأيوبي عن ذلك: إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمَّن أذنب.
أما معاملة الصليبيون للأسرى، ومجازر نصارى الأندلس ضدَّ الأسرى المسلمين، والصهاينة والمعاملة الوحشية للأسرى، وإنـزال أشـدِّ أنواع التعذيـب بالأسـرى العـراقيين كلها أمثلة على جرائم ضدّ الإنسانيَّة تنتظر المحاكمة.
معاملة الأسرى في الحضارات السابقة
منذ القدم وعلى مر التاريخ والأزمان تشتعل الحروب بين البشر، لم تهدأ ولم تفتر بل إن سنوات السلام التي عاشها العالم أقلُّ كثيرًا من سنوات الحرب، ومن الطبيعي أن يكون نتاج هذه الحروب قتلى وأسرى...
ومعاملة الأسرى تختلف من عصر إلى آخر، ومن شريعة إلى أخرى، فبعض الأمم كانت تفتك بالأسرى لإرهاب عدوها، ولم تعرف الأمم قانونًا لمعاملة الأسرى قبل الإسلام؛ الذي وضع شروطًا لمن يُؤسر؛ فلا يقع في الأسر إلا المحارب، وقد وضع فقهاء الإسلام أوصافًا لمن يجوز أسره، وشروطًا لوقوع الأَسْرِ، حتى أصبح له نظام وحدود معروفة مدوَّنة في الشريعة الإسلاميَّة قبل أن يعرفها فقه القانون الدُّوَلي الحديث بقرون، بل لما ظهرت تشريعات الأسرى في القانون الدُّوَلي كان للفقه الإسلامي نظرياته الخاصَّة به، والتي يلتقي بها القانون الدُّوَلي أحيانًا ويختلف عنها أحيانًا أخرى.
وقد شرع الله عز وجل الأَسْرَ فقال في كتابه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}[محمد: 4]، والحرب ضروريَّة للضرب على أيد المعتدين على الدولة الإسلاميَّة، والمتربِّصين بها، والأَسْرُ جزء من الحرب، ولم يترك الإسلام قضيَّة الأَسْرِ بدون نظام؛ بل وضع لها نظمًا وقوانين تنظِّم حقوق الأسير وكيفيَّة معاملته، وهذا ما نتعرَّض له في حديثنا عن حقوق الأسرى.
وقبل أن نخوض في غمار كيفيَّة معاملة الأسرى وحقوقهم؛ نُلقي نظرة على المعنى اللُّغوي للكلمة، الأَسير في اللغة: هو المسجون، والجمع أُسَراء وأُسارى وأَسارى وأَسرى[2]، وسُمِّيَ بذلك لأنه عادة ما يُقَيَّد بشيء من الجلد ونحوه من كل ما يُرْبَط به، ثم صار يُطلق على الشخص الذي يقع في يَدِ الأعداء سواء كان مقيَّدًا أو غير مقيَّد.
أصبحت قضيَّة الأسرى من القضايا المؤرِّقة لشعوب العالم الآن؛ وذلك لما يُلاقيه الأسير من البطش والعدوان ممن أَسَرُوه، ولا يخفى على أحد اليوم ما تفعله أمريكا في سجن أبو غريب وجونتناموا وغيرها من السجون، وهذا التعامل ناتج من قوانينهم التي وضعوها بأيدهم، والتي لا تحفظ لأحد حقَّه أو تؤمِّنه من العدوان على حرِّيَّاته، وبنظرة إلى الحضارات التي سبقت الإسلام نجد أنها سنَّت قوانين لمعاملة الأسرى، ولم تكن هناك حضارة من تلك الحضارات القديمة والحديثة أحسنت تعامل الأسرى كالإسلام، فقد وصل بهم الحدُّ إلى قتل الأسير، وتشويه جسده، وتعذيبه بالنار، وكل ذلك انتقامًا من الدولة المحاربة.
حضارة الرومان
انقسم العالم قبل الإسلام إلى قوَّتين عظميين الفرس والروم، وكانت بينهما دائمًا حروب ومناورات، وكان طبيعيًّا أن يكون بينهما أسرى، ولكلٍّ من الدولتين قوانينُ في كيفيَّة معاملة الأسير، فكانت دولة الرومان تقتل الأسير حتى أواخر عهدها، ثم رأت بعد ذلك تشريع قوانينَ الهدف منها إبقاء الأسير حيًّا للاستفادة منه مع نزع كل حقوقه الإنسانيَّة، وربما يُسَخَّر للعمل في الأعمال الشاقَّة، والمهن الدنيَّة كما فعل الإسكندر في مصر إبَّان حروبه فيها.
ومن ذلك ما حدث - على سبيل المثال - في عهد الإمبراطور (فسبسيان)، حيث حاصر الرومانُ اليهودَ في القدس - وكان اليهود يُسَمُّونها أورشليم - لمدَّة خمسة أشهر، انتهت في سبتمبر سنة 70 ميلادية، ثم سقطت المدينة في أشدِّ هزيمة مَهِينة عرفها التاريخ؛ حيث أمر الرومان اليهودَ أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم بأيديهم، وقد استجاب اليهود لهم من شدَّة الرعب، وطمعًا في النجاة!! ثم بدأ الرومان يُجْرُون القُرْعَة بين كل يهوديَّيْن، ومن يفوز بالقُرْعَة يقوم بقتل صاحبه، حتى أُبِيد اليهود في القدس عن آخرهم، وسقطت دولتهم، ولم ينجُ منهم سوى الشريد، وأولئك الذين كانوا يسكنون في أماكن بعيدة!!
حضارة الهند
وفي الهند كان الأسير يقع ضمن الطبقة الرابعة والأخيرة في تقسيم طبقات المجتمع عندهم، وهي طبقة شودر، وهم المنبوذون، ويعتبرونهم أَحَطَّ من البهائم، وأذلَّ من الكلاب، ويُصَرِّح القانون بأنه من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة - طبقة الكهنة والحكام - دون أجر!! وكفَّارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والبومة مثل كفارة قتل الشودر سواء بسواءٍ!!.
حضارة الفرس
ولم يختلف الوضع في الفرس كثيرًا عن الرومان والهند، فقد نكَّل الفرس بأسراهم، وجعلوهم عرضة للتعذيب والإيذاء والاضطهاد والقتل، ولكن رأوا بعد ذلك أنه من الممكن استخدامهم، فعدلوا عن فكرة القتل واسترقُّوهم، وباعوهم رقيقًا بعد أن كانوا أحرارًا، واستخدموهم في الأعمال الشاقَّة الصعبة.
اليهود ومعاملة الأسرى
أما الشريعة اليهوديَّة المحرَّفة فتُقَرِّر بتسخير الأسرى إن هم سَلَّموا بلادَهم بدون حرب، وإذا حدث وكانت الثانية، وقاوموا اليهود كان مصير الأسرى القتل، ومن ذلك ما ورد في سفر التثنية: حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفُتِحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ، وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا، وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا، بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا[3].
معاملة الأسرى في الإسلام
جاء الإسلام وغرضه إنصاف المظلوم، وهداية الضالِّ، وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ونشر الرحمة والعدالة، فقد استطاع الإسلام نقل البشريَّة من التعامل الهمجي الذي كان يُلاقيه الأسير إلى وضع كله رحمة ورأفة به وبحاله، وكان للإسلام فضل السبق في ذلك؛ فقد حرص الإسلام على الإحسان إلى الأسرى فقال تعالى في كتابه العزيز: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]" وقال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يُحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك[4].
ووضع الإسلام تشريعات للأسرى، وفي الوقت الذي كان يُنَكَّل بالأسير في الأمم السابقة فقد وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تحثُّ على معاملة الأسرى معاملة حسنة تليق به كإنسان، يقول الله تعالى في سورة الأنفال: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأنفال: 70]"، فإذا كان المولى سبحانه يَعِدُ الأسرى الذين في قلوبهم خيرٌ بالعفو والمغفرة، فإنَّ المسلمين لا يملكون بعد هذا إلا معاملتهم بأقصى درجة ممكنة من الرحمة والإنسانيَّة.
لقد قرَّر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكَمِّيَّة لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكنًا، استجابة لأمر الله تعالى في قوله في سورة الإنسان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[الإنسان: 8]"، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بحُسن معاملة الأسرى فقال صلى الله عليه وسلم: "اسْتَوْصُوا بِالأَسْرَى خَيْرًا[5]، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب وامتهان الأسرى، فقد رأى صلى الله عليه وسلم أسرى يهود بني قُرَيْظة موقوفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، فقال مخاطِبًا المسلمين المكلَّفين بحراستهم: "لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السّلاَحِ، وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا"[6]."
وامتثل الصحابة رضوان الله عليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يحسنون إلى أسراهم، والفضل ما شهد به الأسرى أنفسهم، فيقول أبو عزيز بن عمير وكان في أسرى بدر: "كُنْتُ مَعَ رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ قَفَلُوا، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا طَعَامًا خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ؛ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا يَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ إلاَّ نَفَحَنِي بِهَا؛ قَالَ: فَأَسْتَحِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا"[7]. والأمثلة في ذلك كثيرة ومتعدِّدة.
حقوق الأسرى في الإسلام
رغم أنَّ هؤلاء الأسرى ما هم إلا محاربون للإسلام ؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإحسان إليهم، وتلك صورة الإسلام الحقيقية أمامهم، ويُدرِكون عندها أنه ما جاء إلا رحمة للعالمين، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولم يأمر الإسلام بالإحسان إلى الأسرى فقط، بل وضع أسسًا في كيفيَّة معاملة الأسرى، وقرَّر لهم واجبات وحقوقًا على المسلمين؛ منها الحقُّ في الطعام، والكسوة، والمعاملة الحسنة، وكلُّ ذلك له شواهد في سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وحضارة المسلمين.
المعاملة الحسنة
أمر الإسلام بحُسن معاملة الأسرى والرفق بهم وعدم إيذائهم، أو التعرُّض لما يجرح كرامتهم، تعدت صور المعاملة الحسنة للأسرى فشملت العفو، أو المعالجة من الأمراض، أو غير ذلك من صور المعاملة الحسنة، مما دفع بعضهم إلى أن يعتنق الإسلام كثُمَامَةَ بن أُثَالٍ رضى الله عنه، فقد رُوي أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ سَيِّدِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ، قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْطَلِقُوا بِثُمَامَةَ". فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَوَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الأَدْيَانِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَإِنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى. فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ"[8]لقد دفعت هذه المعاملة الحسنة ثُمَامة إلى الإسلام دفعًا قويًّا، ولو أنه رأى جفاء في المعاملة أو تعذيبًا ما فكَّر لحظة في أن يدخل في هذا الدين.
وأسلم كذلك الوليد بن أبي الوليد القرشي المخزومي الذي أُسِرَ في بدر، ورأى المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ مع أنه قد قَدِمَ من مكة محارِبًا للمسلمين، فدفعته هذه المعاملة الحسنة إلى الإسلام، ولِصِدْقِ نيَّته أسلم بعد أن افتداه أهلُه من الأَسْرِ، حتى لا يُقال: إنه أسلم جزعًا من الأسر.
وقد بلغ أمر معاملة الأسرى إلى حد العفو عنهم، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أسيرًا لأبي الهيثم بن التيهان وأوصاه به خيرًا فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني بك خيرًا، فأنت حُرٌّ لوجه الله[9]. وفي رواية أخرى أنه قال له: أنت حرٌّ لوجه الله، ولك سهم من مالي[10].
وظلَّ الصحابة على هذه المعاملة الحسنة للأسرى حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُؤْثَر عنهم أنهم اضطهدوا أسيرًا أو آذَوْه أو عذَّبوه، حتى الهرمزان الذي نقض العهد مع المسلمين أكثر من مرَّة، كما قتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك، لما وقع في أيدي المسلمين أسيرًا لم يُعَذِّبوه ولم يضطهدوه ولم يُؤْذُوه جرَّاء ما فعله من جرائم في حقِّ المسلمين. وكذلك كان الحال مع كل الأسرى فلم يكن للأسرى غير المعاملة الحسنة، ولم يكن يعاملهم المسلمون بمثل معاملاتهم.
وكما أمر الإسلام بالمعاملة الحسنة للأسرى - ونهى عن تعذيبهم والإضرار بهم، ولقد وصل الأمر إلى أبعد من ذلك فعندما رأى النبي r أسرى بني قريظة في الشمس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال لأصحابه: "لا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السِّلاحِ، قَيِّلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا"[11].
بل إن شريعة الإسلام تَذْهَب إلى ما هو أبعدَ من ذلك، حيث تمنعُ تعذيب الأسير للإدلاء بمعلومات عن العدوِّ، وقد قيل للإمام مالك: أَيُعذَّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلَّ على عورة العدوِّ؟ قال: ما سمعت بذلك، وهذا ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة عندما ضربوا غلامين من قريش وقعا أسيرين في أحداث بدر، فقال لهم: "إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْشِ...". مع أن هذين الغلامين اللذين ضُرِبَا كانا يمدَّان الجيش المعادي بالماء[12].
أمَّا التعذيب المعروف في هذا العصر، ومنه ما جرى في جوانتنامو وفي سجن أبو غريب في العراق وتناقلته وسائل الإعلام، فهو أمر مرفوض ويتناقض مع جميع المبادئ الأخلاقيَّة والقيم الدينيَّة والمواثيق الدُّوَلِيَّة، وتنصُّ اتفاقية جنيف بشأن معاملة الأسرى على ما يلي: (يجب معاملة الأسرى معاملة إنسانيَّة في جميع الأوقات... وعلى الأخصِّ ضدَّ جميع أعمال العنف أو التهديد، ولهم الحقُّ في احترام أشخاصهم وشرفهم في جميع الأحوال، ويحتفظون بكامل أهليَّتهم المدنيَّة التي كانت لهم عند وقوع الأسر، ويجب أن تعامل النساء الأسيرات بكلِّ الاعتبار الواجب لجنسهنَّ)[13]. وهذا ما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان.
تقديم الأسير على النفس في الطعام
من الحقوق التي كفلها الإسلام للأسير حقُّ الطعام فلا يجوز تركه بدون طعام وشراب حتى يهلك، فهذا مخالف لشرع الله عز وجل، وفي السيرة النبويَّة والتاريخ الإسلامي أمثلة ونماذج تدلُّ على ذلك، ولقد أمر الله عز وجل بذلك فقال في كتابه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، فإطعام الأسير المشرِك قُرْبَة إلى الله عز وجل [14]. وذكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه يوم بدر أن يُكرِموا الأسرى، فكانوا يُقَدِّمونهم على أنفسهم عند الغداء[15].
ويقول الشيخ سلمان العودة[16]: معنى هذا أنه لم يُطْعِمْه مما فضل من قُوتِهِ، وإنما يُطْعِمه من طَيِّب طعامه مع حاجته إليه ومحبَّته له؛ ولذلك كان منع الطعام عن الأسير من الكبائر كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ"[17].
فلما كان الحبسُ مانعًا للمحبوس من التصرف في أمر معاشه وكسبه، وَجَبَ على حابسه أن يَقُومَ بِحَقِّه، ولو كان ذلك في حقِّ الحيوان، فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء: 70]، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قرن حقَّ الأسير بالمسكين واليتيم، {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]"، حثًّا على القيام على إطعامه والإحسان إليه، وقد يكون هذا الإحسان سببًا في هدايته، كما كان الأمر في شأن ثُمَامة رضى الله عنه.
ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالأسرى فقال لهم: "اسْتَوْصُوا بِهِمْ – أَيْ بِالأَسْرَى - خَيْرًا"[18]، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يُؤْثِرُونَ على أنفسهم ويُطْعِمُون الأسرى تنفيذًا لوصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان يفعل الصحابة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما أراد الهرمزان أن يشرب وجيء له بقدح غليظ عافه ولم يشرب منه، فأمر سيدنا عمر بتغيير القدح[19]، فلم يُؤْثَرْ عن مسلم أنه ترك أسيرًا بدون طعام وشراب؛ بل إن صلاح الدين الأيوبي ناول أسيرًا من أسرى الصليبيين القدح الذي شرب منه ليشرب الأسير".
وبالرغم من أن إطعام أسرى الحرب أمر إنساني خالص، إلا أن الإسلام جعله عبادة يُؤْجَر عليه المرء، عندما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان: 6].
حق الأسير في الكسوة
ومن الواجبات التي قرَّرها الإسلام للأسرى الكسوة، ولقد حثَّ الإسلام على كسوة الأسير وتكون كسوة لائقة به تقيه حرَّ الصيف وبردَ الشتاء، والكساء عمومًا أمر واجب لستر العَوْرات، وعدم إشاعة الفاحشة في المجتمع، وأوجب الشرع كسوة الأسير وستر عورته، وقد عنون الإمام البخاري بابًا كاملاً أسماه (باب الكسوة للأسارى)، وهذا يدل على أهمِّيَّة هذا الأمر، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضى الله عنه أنه لما كان يوم بدر أُتِيَ بالأسارى، وأُتِي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه إياه، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كسا بعض الأسرى من ملابسه[20].
الحرية الدينيَّة للأسير
من الحقوق التي قرَّرها الإسلام للأسير حقُّه في ممارسة شعائر دينه خلال مدَّة أسره، ولا يُجْبَرُ الأسير على اعتناق الإسلام، ولم يُعْرَف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجبر أسيرًا على اعتناق الإسلام؛ بل إن بعض الأسرى لما رأَوْا تلك المعاملة من رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعهم ذلك إلى اعتناق الإسلام، وكان ذلك بعد إطلاق سراحهم، كما فعل ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فبعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق سراح ثُمَامة، ذهب ليغتسل ويُسْلِمَ، وكذلك فعل الوليد بن أبي الوليد بعد أن افتداه أهله من رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم، فقيل له: لماذا أسلمت بعد الفداء؟ فقال: حتى لا يظنَّ أحد أنما أسلمتُ من عَجْزِ الأسر.
ومن ذلك أيضًا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع غَوْرَثِ بْنِ الحارث الذي استلَّ سيف النبي من الشجرة، وقال له: من يمنعك مني؟ وعندما وقع السيف من الرجل وأصبح في يد رسول الله لم يجبره النبي صلى الله عليه وسلم على الدخول في الإسلام، بل تركه حرًّا طليقًا بعد أن أصفح عنه[21]، أمَّا إذا نظرنا إلى ما حدث من الأسبان عند دخولهم الأندلس، نجد أنهم فعلوا عكس ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عَمِدوا إلى المسلمين فعذَّبوهم واضطهدوهم؛ لتغيير دينهم وعقيدتهم.
مصـير الأســرى
الحكم الأصلي في مصير الأسرى يُقرِّره القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] حول هذه الآية الكريمة نذكر المسائل التالية:
المسألة الأولى
يقول بعض العلماء أنَّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، ويقول آخرون أنها ناسخة. وقد ذكر الطبري هذه الأقوال ثمَّ ردَّها جميعًا بقوله: والصواب من القول عندنا في ذلك أنَّ الآية محكمة غير منسوخة. واستدلَّ على ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمن صار أسيرًا بيده من أهل الحرب فيقتل بعضًا ويفادي بعضًا ويمنُّ على بعض[22].
كما ذكر القرطبي الأقوال المختلفة، واختار أنَّ الآية محكمة واستدلَّ على ذلك كما فعل الطبري، بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح، وأنَّ النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للنسخ[23].
المسألة الثانية
هذه الآية الكريمة تُحَدِّد الحكم الأصلي في مصير الأسرى وهو أحد أمرين:
المنُّ عليهم: أي إطلاقهم بغير مقابل، وجواز المنِّ على الأسرى هو مذهب الجمهور من المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة وغيرهم، واستدلُّوا بما ثبت في سيرته أنه منَّ على أبي العاص بن الربيع والمطلَّب بن حنطب، وصَيْفِيِّ بن أبي رفاعة، وأبي عزَّة الجهمي الشاعر، وهم من أسرى بدر، كما منَّ على ثُمَامَة بن أُثَال سيِّد أهل اليمامة، ومنَّ على ثمانين أسيرًا من المشركين.
الفداء أي إطلاقهم في مقابل فدية يُقدِّمونها للمسلمين، والفدية قد تكون مالاً، والفداء بالمال هو مذهب جمهور الفقهاء من الشافعيَّة والحنابلة والمالكيَّة ومحمد بن الحسن من الحنفية، واستدلُّوا على ذلك بفداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسرى بدر بالمال وكانوا سبعين رجلاً، وقد تكون الفدية إطلاق سراح أسرى المسلمين عندهم، وهذا هو المعروف بتبادل الأسرى، فقد فادى رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عُقَيْلٍ، ورُوِيَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع ناسًا من المسلمين كانوا قد أُسِرُوا بمكَّة[24].
وقد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فادى بعض أسرى بدر على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة[25].
المسألة الثالثة
أضاف الفقهاء إلى الخيارَيْن المذكورَيْن في الآية الكريمة - المنِّ والفداء - ثلاثة خيارات أخرى وهي:
1- القتـل
فقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بعض الأسرى، منهم عقبة بن أبي مُعَيْط، وطُعَيْمَة بن عدي، والنضر بن الحارث، وهم من أسرى بدر، وجواز قتل الأسير هو مذهب جمهور الفقهاء من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، لكنَّهم يجعلونه خيارًا مرتبطًا بالمصلحة وجوبًا[26]، فإذا كانت المصلحة تقضي بعدم قتلهم، فلا يجوز في هذه الحال أن يُحْكَمَ عليهم بالقتل، كما إنه إذا ارتبط المسلمون بمعاهدات دُوَلِيَّة تمنع قتل الأسرى فيجب عليهم الوفاء بها، ولا يجوز في هذه الحالة قتل الأسير.
لكن ذكر ابن رشد في (بداية المجتهد): (وقال قوم لا يجوز قتل الأسير، وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة)[27].
والذي نراه هنا أنَّ قتل الأسير لمجرَّد أنه أسير غير جائز أصلاً؛ استنادًا إلى الآية الكريمة التي حصرت مصير الأسير بالمنِّ أو الفداء، لكنَّه يصير جائزًا إذا وُجِد في أسير مُعَيَّن أسباب أخرى تُبيح قتله، فهو عند ذلك يُقتل لهذه الأسباب وليس للأسر، وهذا ما يُفَسِّر كلَّ الحوادث التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل بعض الأسرى، فأبو عزَّة الجمحي استحقَّ القتل في أسرى أُحُدٍ؛ لأنَّه عاهد ونقض العهد.
وأسرى بنو قُرَيْظَة استحقُّوا القتل؛ لأنهم عاهدوا المسلمين على القتال معهم ضدَّ كلِّ عدوٍّ خارجيٍّ، فلمَّا جاء المشركون وحاصروا المدينة في غزوة الأحزاب نقضوا عهدهم وانضمُّوا إليهم، وقد كان هذا الغدر كفيلاً بالقضاء على الإسلام وإبادة المسلمين لولا أنَّ رعاية الله حفظتهم. وأسرى بدر الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهم عقبة بن أبي مُعَيْطٍ، والنضر بن الحارث، وطُعَيْمَةُ بن عدي - كانوا قد قاموا بإيذاء المسلمين وتعذيبهم وتعريضهم للموت.
ولذلك نقول: إنَّ بعض الأسرى الذين يُعتبَرون في المعاهدات الدُّوَلِيَّة الحديثة مجرمي حرب، لتسبُّبهم بقتل الأبرياء يجب أن يُقَدَّموا للمحاكمة، ويمكن أن يُحكم عليهم بالقتل أو بأي عقوبة أخرى، لكن لا يجوز لكلِّ مَنْ أَمْسَكَ بأسير أن يَقتله، فذلك مخالف لصريح النصِّ القرآني، وللمعاهدات الدُّوَلِيَّة المعاصرة.
2- عقد الذمَّة
إذا طلب الأسير أن يكون من رعايا الدولة الإسلاميَّة، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويخضع لنظام هذه الدولة مع الاحتفاظ بحقوقه الشخصيَّة في العقيدة والعبادة، وهذا ما يُسَمَّى عقد الذِّمَّة، فقد اتَّفق الفقهاء من جميع المذاهب على حقِّ السلطة في منحه عقد الذمَّة، لكن بعض الشافعيَّة لم يَتْرُكُوا للإمامِ الحقَّ في ذلك، بَلْ أوجَبُوا عليه قَبول عقد الذمَّة إذا طلبه الأسير، وحرَّموا قتله في هذه الحالة.
إنَّ المعاهدات الدُّوَلِيَّة المتعلِّقة بهذا الموضوع - وخاصة اتِّفاقيَّة جنيف - لم تُشِر إلى مثل هذه الحالة، كما أنَّ جميع قوانين الدول لا تشير إليها، وهذا يؤكِّد بما لا يدع مجالاً للشكِّ أنَّ الدولة الإسلاميَّة، دولة مفتوحة لجميع بني البشر، وأنها تَستقبِل أي إنسان يرغب في أن يكتسب جنسيتها ويلتزم بقوانينها، مع حقِّه في البقاء على دينه، ودون أن تُلْزِمَه باعتناق الإسلام، كما يُؤَكِّد أنَّ هذه الدولة سبقت بهذا الموقف جميع دول العالم على الإطلاق، وهي التي لم تصل إليه حتى الآن.
3- الاسترقاق
وهو الخيار الأخير الذي أشار إليه الفقهاء من ضمن خيارات الإمام في تحديد مصير الأسرى مسألة نظريَّة خالصة، وذلك بعد اتِّفاق دول العالم قاطبة على إلغاء الرقِّ وتجارة الرقيق خاصَّة في اتِّفاقيَّة جنيف في 7سبتمبر 1965م، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإسلام يُرَحِّب بمثل هذه الاتِّفاقات الدُّوَلِيَّة باعتبارها تُعَبِّر عن مبادئه الأساسيَّة التي تجعل البشر جميعًا عبادًا لله، وتدعو إلى المساواة بينهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ لآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ"[28].
تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة الشيخ بوعمامة في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 4
آخر مشاركة: 01-08-2014, 12:18 AM
-
بواسطة 3abd Arahman في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 23
آخر مشاركة: 20-12-2010, 02:57 PM
-
بواسطة جرجس2 في المنتدى البشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 27-12-2008, 10:37 PM
-
بواسطة النحال في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 29
آخر مشاركة: 20-02-2007, 10:21 AM
-
بواسطة Habeebabdelmalek في المنتدى منتدى المناظرات
مشاركات: 15
آخر مشاركة: 04-09-2006, 04:09 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات