مواقف فقهاء من المذهب الحنبلي من اتفاق الفقهاء المتقدمين

الموقف الثالث :
خطأ فقهي يصدر من فقهاء حنابلة يناقض اتفاق الفقهاء المتقدمين:

ونعني بهذا الخطأ القول بأن عورة الصلاة غير عورة النظر.وقد وقع هذا الخطأ من بعض الفقهاء الحنابلة نتيجة أخذهم برواية عن الإمام أحمد تقر وجوب ستر جميع بدن المرأة حتي ظفرها , وبعد تغليبهم هذه الرواية , وبدا وكأنه ليس في المذهب غير قول واحد ورأي واحد , قالوا بأن كلام الفقهاء المتقدمين بجواز كشف المرأة وجهها يختص بتحديد العورة في الصلاة فحسب , وأن جواز الكشف أمر خاص بالصلاة وحدها , وبذلك وقعوا في خطأ كبير وهو وجود عورتين لا عورة واحدة , وجعلوا لكل من الرجل والمرأة عورتين : عورة حال الصلاة خاصة , وعورة حال الظهور أمام الناس.

وإذا استعرضنا بعض ما ورد في كتب الحنابلة - بعد الإفصاح لابن هبيرة والمغني لابن قدامة والمحرر لمجد الدين ابن تيمية - نجد الفقهاء الحنابلة المتأخرين يحرصون علي النص علي أن وجه المرأة ليس بعورة في الصلاة ولكنه عورة خارج الصلاة.وكثيرا ما يرد في كتبهم (عورة الصلاة) و(عورة النظر) وهذه بعض الأمثلة:

من فتاوي ابن تيمية (ت سنة 728هـ) : ( ليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لاطرداً ولا عكساً).
من كتاب التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع للمرداوي (ت سنة 885هـ) : ( والحرة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها فقط).
من كتاب الإقناع في فقه الإمام أحمد الحجاوي (ت سنة 968 هـ): ( والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتي ظفرها وشعرها إلا وجهها. قال جمع : وكفيها, وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها)
من كتاب منتهي الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات للفتوحي(ت سنة972هـ) : ( والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها )
ومن كتاب شرح منتهي الإرادات للبهوتي(ت سنة1051هـ) : ( وأما عورتها خارج الصلاة فيأتي بيانها في أول كتاب النكاح )
من كتاب أخصر المختصرات للبلباني (ت سنة1083هـ) : ( وكل الحرة عورة إلا وجهها في الصلاة )
من كتاب كشف المخدرات شرح أخصر المختصرات للبعلي (ت سنة1192هـ): ( وكل الحرة البالغة عورة حتي ظفرها وشعرها مطلقا إلا وجهها في الصلاة...والوجه والكفان عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها )

وهكذا مضي الفقهاء الحنابلة قرونا طويلة وكأنهم متفقون علي القول : أن عورة الصلاة غير عورة النظر , وإن الحرة البالغة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها.

ولكن لا ندري أين يقع هذا الاتفاق من رواية عن الإمام أحمد تنص صراحة علي ستر جميع بدنها حتي ظفرها في الصلاة. هذا الرواية وردت في كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني الحافظ صاحب السنن(ت سنة 275هـ) ونصها:

( أخبرنا أبو بكر, قال أبو داود قلت لأحمد: المرأة إذا صلت ما يري منها؟ قال : لايري منها ولا ظفرها ، تغطي كل شئ منها).

ومن الفقهاء الذين فرقوا بين عورة الصلاة وعورة النظر ويلاحظ أيضا أنهم من المتأخرين:

تقي الدين السبكي ت756هـ
تقي الدين الحصني ت829هـ
محمد بن قاسم الغَزِّي ت918هـ
الخطيب الشربيني ت977هـ
الإمام الصنعاني ت1182هـ
محمد بن عبد الله الجرداني ت1331هـ

الموقف الرابع:
اتهام صارخ يطلقه فقهاء حنابلة لمواصلة نقض اتفاق الفقهاء المتقدمين:


ويتلخص هذا الإتهام في رمي فقهاء حنابلة بعض الفقهاء المتقدمين بالخلط بين عورة النظر وعورة الصلاة , وذلك دفعا للاحتجاج بهم من قبل القائلين بمشروعية سفور الوجه.إذ يحتج هؤلاء بأن كثيرا من الفقهاء المتقدمين قالوا بجواز كشف المرأة وجهها في الصلاة ولو كان الوجه عورة ما أجازوا كشفه في عبادة , والعبادة تؤدي علي أستر الوجوه وأكملها.

قال ابن تيمية : ( إن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين وهو العورة)
قال ابن القيم: ( إن بعض الفقهاء سمع قولهم: إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها.. وهذا إنما في الصلاة لا في النظر , فإن العورة عورتان عورة في النظر وعورة في الصلاة).

وفي هذا الاتهام خطآن :

الخطأ الأول: هو تقرير أن العورة عورتان , عورة للصلاة وعورة للنظر , هذا التقرير مخالف لأصل لغوي ولأصل فقهي.

أما الأصل اللغوي فهو أنه عند إطلاق لفظ "العورة" بأل التعريف التي تستخدم للعهد الذهني, يكون المراد العورة المعروفة المعهودة , سواء للرجل أو للمرأة , وهي ما يستقبح ظهورة للناس أي عورة النظر.

وأما الأصل الفقهي فقد جرت عادة الفقهاء علي أن يخصصوا بابا أو مبحثا لشروط صحة الصلاة أو واجباتها مثل : دخول الوقت,استقبال القبلة,طهارة المكان,ستر العورة.وهكذا تذكر "العورة" في هذا المبحث الفقهي مُعَرَّفة بأل العهدية أي أنها العورة المعروفة المعهودة وهي عور النظر, إذن هي عورة واحدة.

وقد وردت نصوص تقرر حدود تلك العورة , وعورة الرجل المعروفة المعهودة ما بين السرة والركبة , وعورة الحرة المعروفة المعهودة جميع بدنها عدا الوجه والكفين , ثم جاء الفقهاء ليبينوا أنه من شروط الصلاة ستر تلك العورة.

الخطأ الثاني: هو اتهام الفقهاء المتقدمين بالخلط بين عورة الصلاة وعورة النظر.والصحيح أن الفقهاء المتقدمين لم يخطئوا ولم يخلطوا بين عورتين بل علموا تمام العلم وأيقنوا أن العورة واحدة وهي عورة النظر. فأولئك العلماء الذين ظنوا كما قال ابن تيمية وابن القيم أن عورة الصلاة هي عورة النظر هم من الأعلام إما في التفسير أو الحديث أو الفقه.