اليهود يقبضون على السيد المسيح‏:‏
وفي البداية أقول‏:‏ يمكن قبول مثل هذا القول، وكذا سائر الرواياتالإنجيلية في هذا الصدد، علــى أن الذي قبض عليه هو المسيح والذي صلب هو المسيح،باعتبار أن الله تعالى ألقي شبه المسيح على غيره، الذي هو ‏"‏يهوذا الأسخريوطىالخائن‏"‏- كما صرح به إنجيل برنابا- فهم إذ قبضوا على الشبيه ظنوه المسيح،فالروايات باعتبار اعتقادهم أنه المسيح ولذلك ساروا على هذا المنوال فيما أوردوهمما وقع بعد ذلك من حوارات كلها تؤكد أن الذي يحدثهم ليس هو المسيح، ولكنه الشبيه،كما سنذكره بعد- إن شاء الله‏.‏
فعلى أية حال‏"‏ نحن نورد الكلام، حسب معتقد القوم فنقول‏:‏ ‏"‏مماتوضحه الأناجيل عن نوع العلاقة التي كانت بين مجموعات الوشاة والخدم والعبيد الذينيعملون في خدمة سلطات الوالي الروماني في عصر السيد المسيح، فإن من بين أولئك الذينكانوا فى نفس الوقت الذي يعملون فيه خدما ووشاة وعبيدا للرومان كان الكثير منهمالقائم بأمر الأخلاق والدين بين جماهير الشعب اليهودي له سطوة وسيطرة وسيادة ، ولماكان هؤلاء الوشاة أصحاب السيادة والسيطرة والامتياز على جمهور الشعب اليهودي فقدقويت العلاقة فيما بينهم جميعا متكاتفين متعاونين من أجل السيطرة على كل حال الشعباليهودي ودوام استمرارها، ومن أجل التخلص من خطر الدعوة الجديدة التي لم تتعرضللدولة الرومانية بهدم أوبناء، ولكنها كانت تبنى مجتمعا جديدا على أساس من علاقاتالأمن والحب والدعوة إلى شريعة الضمير‏.‏
وكان هذا المنهج الأخلاقي العف المسالم يشكل الخطر المحقق على دولةالرياء والنفاق المسيطرة على جماعات اليهود المرائين المنافقين الذين يحبونالمتكئات الأولى والمجالس الأولى والمحـافل الأولــى‏.‏
وكانت هذه العلاقة، قبيل القبض على السيد المسيح قد بلغت ذروةالتلاقي والتعاون إلى الحال الذي أصبح أنه لم يكن يرفض من طلب أو رجاء للجماعاتاليهودية التي تعمل في خدمة الوجود الروماني والممثلة للسيادة والاستغلال والسيطرةعلى جماهير الشعب اليهودي، ويعبر عن نوع هذه العلاقة مثلا ‏"‏الحوار‏"‏ الذي تم بينالوالي الروماني‏"‏بيلاطس‏"‏ وبين القوة الثائرة الساخطة حين كانت العادة أن يطلقلهم الوالي بمناسبة عيدهم كل عام مذنبا أو مخطئا، ولما كان السيد المسيح قد قبضعليه استجابة لإلحاح وثورة القوة الممثلة للسيطرة اليهودية، ولما كان هذا القبض قدتم بمساعدة جند الرومان وسيادة الدولة، فقد كان الوالى يعلم تماما أن عملية القبضعلى السيد المسيح كانت لغير ما اتهام أوجريمة ، فإنه- على حد رواية الأناجيل- بعدأن أرسلت إليه امرأته قائلة‏"‏ إياك وذلك البار‏"‏ كان يؤثر أن يطلق سراحه عقبالقبض عليه ، وخاصة في مناسبة العيد استجابة للمطلب التقليدي في أن يطلق لهم كل عاممذنبا، ولكن تصور‏"‏ بيلاطس‏"‏- على حد رواية‏"‏متى‏"‏- أن الجماهير اليهودية لمتكن قد استجابت لثورة كهانها والمسيطرين عليها، فكان يرغب في أن يكون مطلب الجماهيرإطلاق سراح‏"‏السيد المسيح‏"‏ ولكنه أمام المطلب اليهودي في أن لا يطلق سراح السيدالمسيح لم يكن عليه إلا أن يستجيب‏.‏‏!‏‏!‏
وكانت عملية القبض على ‏"‏السيد المسيح‏"‏‏!‏‏!‏ قد تمت بطريقةتتنافى وقداسة السيد المعلم- مما يكشف عن نهاية هذه المقدمة التي بها تم القبضعليه، وهي أنهم لم يكن مطلبهم إطلاق سراحه،بل المطالبة بإعدامه- فقد سيق في عنفوقسوة كأنه مخرب أو مخطئ أو مسيئ، ولقد استاء - عليه السلام- من أسلوب القبض عليهإلى الحد الذي يقول فيه‏"‏متى‏"‏ فيما يرويه عن السيد المسيح أنه قال‏:‏‏"‏‏.‏‏.‏فيتلك الساعة قال يسوع للجموع كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصى لتأخذوني‏.‏‏"‏ ‏[‏التاريخ اليهودي العام، صـ 344-346، بتصرف‏.‏‏]‏
‏"‏وعقب عملية القبض التي تصورها الأناجيل، يقول‏"‏متى‏"‏إنه‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏فيما هو يتكلم إذا يهوذا واحد من الاثنى عشر قد جاء ومعه جمعكثير، بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاالذي أقبّله هو هو ، أمسكوه، فللوقت تقدم إلى يسوع وقال‏:‏ السلام يا سيدي وقبّله،فقال له يسوع‏:‏ يا صاحب لماذا جئت، تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه‏.‏‏"‏‏[‏ إنجيل متى، إصحاح 26‏(‏47-51‏)‏‏]‏
وهنا - على حد هذه الرواية الإنجيلية - يتعرض السيد المسيح لموقف فيغاية الخطورة ومنتهى الدقة في كل تصرف أو بادرة منه، ذلك أن الذين أمسكوه قد مضوابه إلى بيت رئيس الكهنة المدعو‏"‏قيافا‏"‏ حيث كان القوم جميعا من الكتبة والشيوخوغيرهم من رؤساء الشعب اليهودي وقواده الذين كانوا قد ألبوا عقب القبض عليه كلجمهور الشعب اليهودي بمختلف فئاته وطوائفه إلى الحد الذي أمكن فيه الحصول بيسر علىمن يتقدم بشهادة زور للمحاكمة الغاشمة التي عقدت للسيد المسيح في حوار عنيد، وقائمعلى التحدي والسخرية‏.‏
ولقد جاء -على حد رواية الأناجيل- شاهدا زور، وقالا‏:‏ هذا قال‏:‏إني أقدر على أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام أبنيه‏"‏‏.‏‏[‏ إنجيل متى، إصحاح 26‏(‏61‏)‏‏]‏
وأمام هذا السخف في جو موبوء ومسموم بالحقد والوشاية والدسائس، كانرئيس الكهنة يقول للسيد المسيح في سخرية شامت‏:‏‏"‏ هل أنت المسيح ابنالله‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولا يجيبه السيد المسيح بغير قوله‏"‏أنت قلت‏"‏‏.‏وحين قال السيدالمسيح للجمع المنافق المتآمر في لقاء محاكمة غير ذات موضوع، عقب القبض عليهمباشرة، ‏"‏أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا علىسحاب السماء‏"‏ مزق رئيس الكهنة الحاقد ‏"‏قيافا‏"‏ ثياب السيد المسيح قائلا‏:‏قدجدّف ، ما حاجتنا بعد إلى شهادة شهود، ها قد سمعتم تجديفه،‏[‏ جدف أو التجديف فيالعهد القديم كانت عقوبته الإعدام رجما بالحجارة، لذلك كان التجديف بحسب قانوناليهود سببا كافيا للحكم بالإعدام، وتقليد تمزيق الثياب يدل على مدى خطورة هذاالاتهام نظرا لأن هذا العمل كان مفروضا أنه محرم على رئيس الكهنة حتى في حالة اظهارالحزن الشديد على ميت، التفسير الحديث للكتاب المقدس، صـ 465،بتصرف، ط/ دارالثقافة‏.‏‏]‏ وقاموا كما يقص إنجيل متى- في بهيمية الغوغاء والسوقة كى يبصقوا فيوجهه ويلكموه ويلطموه قائلين‏:‏‏"‏تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك‏.‏‏؟‏‏"‏ ‏[‏ إنجيلمتى ، إصحاح 26‏(‏64‏)‏‏]‏ ‏!‏‏!‏ ا‏.‏هـ‏[‏ التاريخ اليهودي العام، صـ 346-347‏.‏‏]‏
أقول‏:‏ وما كان هذا أحد سوى الخائن، الذي ألقي عليه شبه المسيح،يلقى بعض جزاء خيانته في الدنيا،من بصق ولكم ولطم، وعنف وقسوة وسخرية، ولأن من حفرلأخيه حفرة وقع فيها، فكيف لو كان معلمه ونبيه ‏؟‏‏!‏ فها هو الخائن يتلقى كل ماكان ينتظر المسيح لو قبض عليه، وكان هو سببا فبه‏.‏وكأني بقوله- إن صح هذا -‏:‏أقوللكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا على سحاب السماء‏"‏إنما هو من باب الندم، والاعتراف بفضل سيده المسيح الذي نجا، ورفع إلى السماء،ومصداق هذا ما جاء في إنجيل برنابا بالإصحاح 15‏(‏112، 113‏)‏‏"‏‏.‏‏.‏‏.‏
ولكن حدث مالم يكن في الحسبان، فإنه عند تقبيل الخائن للمسيح ألقىالله على الخائن شبه عيسى وملامحه تماما، فأصبح الدليل هو المدلول عليه، وأصبح الذيقَبَّل يحمل جميع ملامح الذي قبِّل، وتقدم جند الرومان فقبضوا على الخائن وارتجعليه ، أو أسكته الله فلم يتكلم حتى نفذ فيه حكم الصلب‏"‏‏.‏‏[‏ انظر تفسيرالبيضاوي، ج1، صـ 64، 104، بتصرف‏.‏‏]‏ وبهذا نجا الله السيد المسيح، الذي انسل منبين المجتمعين ، فلم يحس به أحد، وكان الامر كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ بل رفعه الله إليه وكانالله عزيزا حكيما‏}‏‏[‏ سورة النساء‏:‏ 158‏]‏ أما‏.‏‏.‏ أين ذهب عيسىبعد النجاة من المؤامرة، فذلك مبحث يطول شرحه حول ما إذا كان عيسى رفع إلى السماءحيا بجسمه وروحه‏؟‏ أو هل استوفى أجله على الأرض وهو مختف ثم مات ودفن جسمه ورفعتروحه إلى بارئها‏؟‏ وهذا ليس من صلب بحثنا، والله الموفق‏.‏