شبهة : لاَ يَصِحُّ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْقَضَاءَ لاِنْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْوِلاَيَةِ

" ربما يطل عليها متحاذفي النسخ واللصق بهذه الشبهة الطريفة لماذا لا يجوز لاهل الذمة اخذ منصب في القضاء او الولاية . كاننا نطلب من مسيحي او يهودي تطبيق احكام الشريعة الاسلامية التى هي دستور لتلك البلاد "


ولأهل الذمة الحق في تولى وظائف الدولة كالمسلمين . إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات ونحو ذلك.
فالإمامة أو الخلافة رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز أن يخلف النبي في ذلك إلا مسلم، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم.
وقيادة الجيش ليست عملاً مدنيًا صرفًا، بل هي عمل من أعمال العبادة في الإسلام إذ الجهاد في قمة العبادات الإسلامية.
والقضاء إنما هو حكم بالشريعة الإسلامية، ولا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به.
ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية.
وماعدا ذلك من وظائف الدولة يجوز إسناده إلى أهل الذمة إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها من الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة . بخلاف الحاقدين الذين تدل الدلائل على بغض مستحكم منهم للمسلمين، كالذين قال الله فيهم: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) (آل عمران: 118).
وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرح فقهاء كبار -مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية"- بجواز تقليد الذمي "وزارة التنفيذ". ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وهذا بخلاف "وزارة التفويض" التي يكل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسية والإدارية والاقتصادية بما يراه.
وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، منهم نصر بن هارون سنة 369 هـ، وعيسى بن نسطورس سنة 380هـ . وقبل ذلك كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني اسمه سرجون.
وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين، مما جعل المسلمين في بعض العصور، يشكون من تسلط اليهود والنصارى عليهم بغير حق.
وقد قال المؤرخ الغربي آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" (الجزء الأول ص105): "من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال (الولاة وكبار الموظفين) والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام والشكوى من تحكيم أهل الذمة في أبشار المسلمين شكوى قديمة".
يقول أحد الشعراء المصريين (هو الحسن بن خاقان، كما في "حسن المحاضرة"
للسيوطي 2 ص117 وانظر الحضارة الإسلامية لآدم ميتز ج1 ص118) في يهود عصره وسيطرتهم على حكامه:

يهود هذا الزمان قد بلغــوا

غاية آمالهم وقد ملكـوا

المجد فيهم والمال عندهمــو

ومنهم المستشار و الملك.

يا أهل مصر، إني نصحتُ لكم

تهودوا، قد تهود الفلك.


وقال آخر بيتين تمثَّل بهما الفقيه الحنفي الشهير "ابن عابدين" لما رأى من استئثار غير المسلمين في زمنه على المسلمين، حتى إنهم يتحكمون في الفقهاء والعلماء وغيرهم. قال (حاشية ابن عابدين ج3 ص379):

أحبابنـا، نوب الزمان كثيرة

وأمرّ منها رفعة السفهـاء.

فمتى يفيق الدهر من سكراته

وأرى اليهود بذلة الفقهاء.


وهذا من أثر الجهل والانحراف، والاضطراب الذي أصاب المجتمع الإسلامي في عصور الانحطاط، حتى انتهى الأمر إلى عزة اليهود وذلة الفقهاء.
وآخر ما سجَّله التاريخ من ذلك ما سارت عليه الدولة العثمانية في عهدها الأخير بحيث أسندت كثيرًا من وظائفها الهامة والحساسة إلى رعاياها من غير المسلمين، ممن لا يألونها خبالاً، وجعلت أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى.