لله الحمد حمدًا طيبًا مباركًا فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما شاء من شىء بعد ، ثم أما بعد .

جزى الله خيرًا أخانا alrayes50 على نصيحته وإرادته للخير .

فرّق أخونا الحبيب بين أمرين : بين رد الشبهات على الإسلام ، وبين كشف بطلان النصرانية . ثم اشترط فى المتصدى لرد الشبهات الإلمامَ بالقدر الكافى من العلوم الشرعية . ورأى أن المتصدى لكشف بطلان النصرانية لا يحتاج إلى هذا الإلمام بالعلوم الشرعية ، وإنما يكفيه " معرفة زيف وتحريف القوم لما جاء فى كتابهم " .

هذا رأى أخينا الحبيب حسب فهمى . وأما أدلته فهى كالتالى :

الأول : تبيين تحريف النصارى لا يعتمد على القرآن والسنة لأن النصارى لا يعترفون بهما .

الثانى : " ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع احد من الدعوة تحت عنوان انه يجب ان يتفقه فى دينه اولا بل قال وبلغوا عنى ولو اية فلم يقل لكى تبلغ الاية تفقه فى دينك ثم بلغ " .

فأقول وبالله التوفيق :

مناقشة الدليل الأول : رأى أخونا الحبيب أن تبيين تحريف النصارى لا يحتاج إلى معرفة بالعلوم الشرعية . وهذا رأى غير صائب لعدة أمور :

أولاً : الجزم بأن هذا الموضع من الكتاب المقدس متناقض مع موضع آخر .. الجزم بذلك يحتاج إلى معرفة بالعلوم الشرعية ، وبخاصة علم أصول الفقه . وقد رأينا كثيرًا من المسلمين يحكم بتناقض نصين فى الكتاب المقدس وهو مخطئ فى حكمه ، لأن النصين اللذين حكم بتناقضهما ليسا متعارضين ، وإنما أحدهما مجمل والآخر مفصل مثلاً ، أو أحدهما مطلق والآخر مقيد ، وهكذا . فالحكم الذى صدر من هذا المسلم غير الفاهم هو حكم ظالم ، خالف فيه نهى الله عن الظلم بجميع أنواعه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " (المائدة 8) .

ثانيـًا : الكتاب والسنة هما المعيار ، وما وافقهما من الكتاب المقدس لم نكذبه ، وما خالفهما من الكتاب المقدس حكمنا ببطلانه . وما جاء فى الكتاب المقدس وسكت عنه الكتاب والسنة لم نصدقه ولم نكذبه . إذا اتفقنا على هذا فالسؤال هو : كيف سيكذِّب المسلم بشىء من الكتاب المقدس وهو جاهل بمبادئ المعيار الذى سيقيس عليه ؟ فالمسلم يحتاج أولاً إلى الإلمام بمبادئ العلوم الشرعية ، حتى إذا جاءه موضع من الكتاب المقدس ، استطاع البحث فى الكتاب والسنة ليعرف موقفهما من هذا الموضع . ونحن لا نقول إن عليه العلم بجميع ما فى الكتاب والسنة ، ولكن إذا تمكن من مبادئ العلوم الشرعية استطاع بعدها أن يطرق مظان مسألته .

ثالثـًا : فى الجدال ، لن يقف النصرانى مكتوف اليدين أمام المسلم الذى يتهم كتابه بالبطلان والتحريف ، وإنما سيحتج هذا النصرانى بنصوصٍ من القرآن والسنة مشابهةٍ فى الظاهر لنصوص الكتاب المقدس التى أبطلها المسلم . وبعبارة أخرى : لن يقتصر النصرانى على الحوار فى " النصرانيات " فقط وإنما سينقل الحوار إلى " الإسلاميات " أيضـًا . بل أكثر النصارى وأغلبهم يرفضون الكلام فى " النصرانيات " ولا يجيبون مهما اضطرهم الخصم ، ويصرون على الكلام فى " الإسلاميات " إصرارًا . الشاهد مما نقرره هو أن الأمر عاد مرة أخرى إلى مجال الرد على الشبهات ، الذى يحتاج قطعـًا إلى الإلمام بمبادئ العلوم الشرعية كما اتفق أخونا الحبيب معنا فى ذلك .

وأذكر أن مسلمًا حاور نصرانيـًا ، وعاب على الألفاظ الجنسية فى الكتاب المقدس ، فأخبره النصرانى بأن لفظًا أشد من ذلك صدر عن النبى عليه الصلاة والسلام ، فتحداه المسلم بأنه لو ثبت ذلك لترك الإسلام فورًا ! فواجهه النصرانى باللفظة المثبتة فى صحيح البخارى التى سأل بها النبى عليه الصلاة والسلام مَن جاءه معترفـًا بالزنا ليتأكد قبل إقامة الحد . ولك أن تتصور مدى الخزى الذى حصل لذلك المسلم بين النصارى ، ولك أن تتصور شماتة النصارى فى هذا المسلم الجاهل . ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل جاء المسلم إلى المنتديات الإسلامية يثور ويفور ، ينقم على صحيح البخارى ، ويطالب بتنقية " هذه الكتب " مما فيها ، ويلوم على علماء الإسلام : كيف تركوا " هذه الأمور " دون تصحيح طوال قرون مديدة !!

وهذا الموقف مجرد مثل . والذى يتابع المنتديات الكتابية يرى ذلك كثيرًا ، والذى يتابع " البال توك " يرى أكثر وأكثر . يرى مسلمين جهلة لم يستضيئوا بنور العلم ، وقعوا على بعض المعائب فى الكتاب المقدس ، فظن كل واحد منهم أنه ديدات زمانه ، فدخل يلقم النصارى حجرًا ، فألقموه أحجارًا تلو أحجار . وهذا عدل من الله ، والجزاء من جنس العمل .

رابعـًا : كثير من المسلمين يعيبون على الكتاب المقدس مواضع ليست معيبة فى الحقيقة . ويكثر ذلك فى الأمور الخارقة للعادة ، فيسارع المسلم إلى تكذيبها ، مع أنها قد تكون صحيحة . وهذا من المسلمين كثير بثير ، وقد أُتى هؤلاء من جهلهم بالفرق بين محارات العقول ومحالات العقول . فليس كل ما يحار العقل فيه نكذبه ، بل قد يصح . ولكن المسلم المبتعد عن العلوم الشرعية يجهل ذلك ، فيقع فى نفس ما وقع فيه النصارى .

خامسـًا : كثير من المسلمين يعيبون على أكثر تشريعات التوراة ، وهم مخطئون فى كثير مما عابوا ، وما عابوه إلا لمجرد مخالفته لتشريع محمدى ، أو لخلو شريعتنا من ذلك التشريع . فلو كان هؤلاء على علم بالعلوم الشرعية لما وقعوا فى ذلك . ويدخل تحت هذا النوع إنكارهم للتعقيد الموجود والتشدد الحاصل فى التشريعات التوراتية ، فيشنعون على هذه التشريعات بأنها تظلم المرأة مثلاً . ولم يعلم هؤلاء أن شرعة الإسلام أيسر من باقى الشرائع ، فإذا وقع التشديد فى شرعة قبلنا لم يكن ذلك مستغربـًا ، ولا نستطيع تكذيب التشريع أو عيبه لمجرد تشدده . ويدخل تحت هذا النوع أيضـًا إنكارهم من جهة العقل على كثير من العبادات التوراتية . ولم يعلم هؤلاء أنه لا يُشترط فهم الحكمة من وراء كل عبادة ، إذ مناط هذا الباب على التعبد لا على العقل . فهؤلاء يظلمون فى كل صنف مما ذكرنا فى مواضع كثيرة .

سادسـًا : لماذا نقصر الأمر على نقد الكتاب المقدس ؟ بل " النصرانيات " يدخل فيها أيضـًا نقد عقائد النصارى . ونقد التثليث مثلاً يحتاج إلى علم متين بالعقيدة الإسلامية . وأنبه هنا إلى أنى لا أتكلم عن إدراك بطلان التثليث ، فهذا يدركه كل عاقل من نفسه بداهة ، ولكنى أتكلم عن " جدال " أى حوار ومناقشة وأخذ ورد وكر وفر . فالنصرانى لن يسلم للمسلم بهدوء بهذا الذى يدركه كل عاقل ، لكنه سيحاور ويجادل ويستغيث بالمغالطات والأقيسة الباطلة . والمسلم الذى لم ينل حظـًا من العلوم الشرعية يصعب عليه - إن لم يستحيل - تفنيد حجج النصرانى العقلية وكشف مغالطاته الباطلة . ومن ذلك دعوى النصارى بأن الأقانيم صفات ، وأنك إن لم تسلم لهم فقد عددت القدماء ، إلى آخر هذه المغالطات . والمسلم فى تفنيدها يحتاج إلى علم متين بالعقيدة الإسلامية ، حتى يرد الرد السليم الذى يهدى ولا يضل .

فالمقصود مما سبق : أن نقد عقائد النصارى أو كتبهم يحتاج إلى الإلمام بالعلوم الشرعية ، مثله فى ذلك مثل رد الشبهات ولا فرق .

وأما تعلل أخينا الحبيب بأن النصارى ينكرون الكتاب والسنة فلا نستطيع إلزامهم بهما ، وبنى على ذلك عدم اشتراط الإلمام بالعلوم الشرعية فى نقد النصرانية ، فأقول : ومَن ادعى أننا نتعلم العلوم الشرعية لنحتج على النصارى بحقائق الكتاب والسنة ؟ ولكن العلوم الشرعية تعطينا " المنهج " السليم فى التعامل مع النصوص والأفكار ، وهذا المنهج هو الذى سنستخدمه فى نقد النصرانية .

مناقشة الدليل الثانى : رأى أخونا الحبيب " ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع احد من الدعوة تحت عنوان انه يجب ان يتفقه فى دينه اولا بل قال وبلغوا عنى ولو اية فلم يقل لكى تبلغ الاية تفقه فى دينك ثم بلغ " .

هناك فرق بين " الدعوة " وبين " الجدال " . فالدعوة أعم من الجدال . والجدال وسيلة من وسائل الدعوة ، وقد تدعو بغير حاجة إلى الجدل .

إذا عُلم هذا ، فكلامنا فى هذا الموضوع عن الجدل وليس عن الدعوة . فلا يُشترط فى الدعوة - الخالية من الجدل - الإلمام بالعلوم الشرعية ، بل يكفى المرء أن يبلغ آية ولو لم يفقهها تمام الفقه . فهذه دعوة وتبليغ . وأما الجدال ففيه حوار متبادل وأخذ ورد ، وهو الذى اشترطنا فيه الإلمام بالعلوم الشرعية .
فيمكن للمسلم العامى الذى لم ينل حظـًا من العلوم الشرعية أن يدعو نصرانيـًا إلى الإسلام ، وذلك بتبليغ ما استطاع من الإسلام إليه ، كأن يقرأ عليه بضع آيات من القرآن ، ويسمعه بعض الأحاديث النبوية ، ويعرفه ما عرفه هو من حقائق الإسلام وعلى رأسها التوحيد . يستطيع المسلم أن يفعل ذلك كله ، دون الخوض فى بطلان التثليث وحقيقة الأقانيم وتناقضات الكتاب المقدس . وبعبارة أخرى يستطيع المسلم أن يبلغ دينه دون الخوض فى تفصيلات نقد دين المدعو .

والأغلب أن المسلم إذا تطرق إلى نقد دين المدعو ، أن يتحول الأمر إلى " جدال " ، هنا يحتاج المسلم ولا بد إلى العلم الكافى لهذا الجدال ، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة القدر الكافى من العلوم الشرعية .

ويدخل تحت الدعوة العامة هنا ما استشهد به أخونا الحبيب من حال أبى بكر الصديق رضى الله عنه وكم أسلم على يديه بعد أيام من إسلامه . علمًا بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أو أغلبهم على دراية بحقائق العلوم الشرعية ، مع تفاوتهم فى العلم والإتقان . ولا يلزم من ذلك أن يتفوهوا بمصطلحات تلك العلوم عند المتأخرين . فلا يقولن قائل الصحابة لم تعرف أصول الفقه لأنها لم تتفوه بمصطلحاته . بل الصحابة أدركوا حقائق هذا العلم ، ولما جاء المتأخرون حللوا الحقائق التى أدركتها الصحابة والتزمت بها ، ثم أطلقوا عليها المصطلحات المعروفة . فالمصطلحات متأخرة عن حقائق العلوم كما هو معلوم .

رزقنا الله وإياكم حبه ، وحب من يحبه ، وحب كل قول وعمل يقربنا إلى حبه .