شهدت تلك المرحلة التى سبقت نهاية الحضارة الفرعونية حجم هائل من الصراعات والولائات والمتناقضات .. مرحلة من التخبط والهلع والفزع اصابت الفراعنة من مجرد تصور انتصار رب موسى رب العالمين .. مرحلة من العبر والمواعظ جعلت من نهايتهم عبرة لمن يخاف العذاب الاليم لكل الامم التى عاصرتهم والتى اتت من بعدهم الى يوم الدين .. بلغ بهم الكبر والتعالى مداه فاعلنوا حربا حقيقية على الله ورسوله واوليائه .. حربا استندوا فيها على قوة حضارتهم والتى ارجعوا اسبابها لطريقتهم المثلى فى الحياة .. فانطلق الملأ من قوم فرعون بكل مكان يصيحون فى المصريين (( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى )) .. كل تلك الايات التى اتى بها موسى بقوة الله وعاينوها لم تحرك لهم ساكنا .. اخذتهم العزة بالاثم فاستكبروا عنها .. ارجعوا اسبابها لاحوال طارئة عابرة .. شأن كل المستكبرين بكل زمان لا تحركهم اسراب الجراد ولا تردعهم انفلونزا الطيور .. دائما لهم مصادرهم التى يشتقون منها الاسباب والتفسيرات الا مصدر واحد استبعدوه ظلما وعدوانا واستكبارا من انفسهم ان يقال انها ايات من الله لعلهم ينتهون
((وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ))
((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ))
(( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ))
شأن كل الغافلين لا تؤثر فيهم النوازل ولا العبر لاهية قلوبهم .. بمجرد زوال الكوارث يعودوا لما هم عليه من الفسق والتعالى ويطمئنون لزوالها .. عادوا للسخرية من موسى (( فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ )) .. وتندروا على دعوته ورسالته ومكانته واخيه هارون (( فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ )) .. وبتعالى شديد واستهزاء بايات الله ونذره قال فرعون (( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا )) .. وبكل ثقة وولاء لله اجابه موسى بقوة (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا )) .. واشتد التحدى والصراع .. وكل فرد يلزم مع من يحب ان يكون بصحبته .. مرحلة الفصل بين المؤمنين وبين الكفرة الملحدين والمشركين .. واذا بامرأة فرعون تصبح مثلا اعلى مشرفا الى ان تقوم الساعة .. لما يجب ان يكون عليه المؤمن بولائه لله واوليائه وقت الشدائد .. اختارت جانب المؤمنين .. ان تتولى رسول الله موسى .. اطاحت بقصورها ومكانتها ومنزلتها وخدمها وعبيدها وفرعونها واختارت مرافقة عباد الله حتى لو كانوا فقراء معدومين لا يملكون من اسباب الحضارة شيئا ولا حيلة لهم الا الدعاء .. يكفيهم رفعة ومنزله انهم اولياء الله ..
(( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )) ..
اشد فترات الغليان والصراعات والنزاعات فى تاريخ مصر .. ليست حرب عادية مألوفة فى اسبابها تقودها الجيوش .. ولكن حربا جديدة فى شدتها جندت كل العامة والطبقات والكهنة وحتى حاكم البلاد وحاشيته واسرته ووزيره وملئة .. حربا قسمت الجميع الى قسمين اولياء الله واولياء فرعون .. الى عباد الله .. وعباد الفراعنة المستكبرين .. الى الخاضعين والمسلمين لاوامر الله .. والمتمردين على رسله ورسالاته الذين استحبوا الحياة الدنيا واسباب حضاراتهم وقوتهم ورفاهياته عن الولاء لله .. حرب بين من هم على بصيرة من ربهم .. وبين من هم استحبوا العمى على الايمان فاضلهم الله على علم .. وكل منهم يمسك على ولائاته وقناعاته بكل ما أوتى من اسباب القوة .. الامر الذى ادى بفرعون الى هياج وثورة لا يحتمل معها ان يرى اوامره تهان وسلطانه يهوى .. وارادة الله تسرى فوق عنقه .. وشأن كل الجبابرة لم يزده كبره واسرافه الا كفرا واجراما ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ))
وهنا دعا موسى ربه .. نعم المولى ونعم النصير (( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ))
فاخرج الله من ال فرعون رجل صالح جند من جنود الله يكتم ايمانه وايده بالحجة القوية الرادعة .. رجل مصرى عاقل حكيم من الفراعنة صفع قومه بمنطقهم الباطل ورد عليهم سخريتهم وبدأ معهم باللين مخاطبا عقولهم وقت كانوا يدعون مثل اتباعهم الحاليين ان لهم عقول يفقهون بها او آذان يسمعون بها .. وحقا انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ..