بدأ فرعون يلجأ الى محور آخر فى الحوار . . سياسة قديمة للوى الاذرع والاعناق .. اسلوب المن والتفاضل والانتقاص من قدر العباد وارهابهم بماضيهم
(( قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ))
لم يدرك فرعون ان المؤمن لا يخشى الا الله وان اسلوب المنن والتغنى بفضائل اهل الكفر لا يأخذ به مؤمن ولا يؤثر فيه .. موسى مثل حال يوسف حين راودته التى هو فى بيتها عن نفسه .. لم يعيرها اهتماما ولم يهتم بفضلها عليه وايوائها له واختار السجن عن الامتثال لاوامرها .. وكما من قوم شعيب عليه بعدم ايذائهم له لمكانة اهله
(( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وانا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما انت علينا بعزيز ))
فاجابهم بقوة (( قال يا قوم ارهطي اعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ان ربي بما تعملون محيط ))
حال كل مؤمن لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق مهما تعددت اسباب المنن والفضائل .. مرجعيتنا وقياسنا للامور مردها الى الله وليس مسايرة اصحاب النعم والمنن والفضل بالباطل خجلا وحياءا منهم .. بكل عزة المؤمن وايمانه بان اسباب الهداية من الله اجاب موسى هذا الفرعون هل من اجل ان رباه رضيعا يحق له ان يتخذ قوم بنى اسرائيل باكملهم عبيدا له .. من اجل طفل رضيع يستعبد امة قوامها اكثر من مائة الف انسان
( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ .. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ )
امام قوة الايمان والثقة بالله يعجز الجهلة عن النيل من المؤمنين ولوى اعناقهم .. ليس لمؤمن نقاط ضعف او مذلة تستوجب خضوعه لاهل الشرك والغافلين .. لا يخجل المؤمن ولا يتوارى من افعال ارتكبها او ماضى مهما تعاظمت فيه الذنوب بل يفتخر بهداية الله له واختياره اياه ..هو منهج مازال قائم الى الان ملاحقة التائبين واحراجهم ومعايرتهم بافعال مضت الى غير رجعة باذن الله .. بل والتربص باخطاء المؤمنين لاذلالهم .. خير الخطائين التوابين .. لن نتعاظم ولن نكون اكرم من كليم الله موسى حين قالها باعلى صوته فى مواجهة فرعون ( فعلتها اذن وانا من الضالين ) .. ولا اقل جرأة وايمانا من امرأة العزيز حين قالتها بكل ثقة فى حضرة الملك وردت اسباب الهداية لله ( ان النفس لامارة بالسوء الا من رحم ربى ) .. فشل فرعون من النيل من موسى فلجأ الى التهكم المغلف بالهدوء والتصنع بالحكمة وكأنه احب ان يستزيد
(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ )
اجابه موسى باستزادة فى التعريف بخالقه لعلهم يكونوا من المصدقين
( قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ )
بدأ فرعون يعلن عن سخريته فنظر الى قومه وكأن موسى ألقى بدعابة او نكته قائلا بابتسامة صفراء مستفزة .. دائما تميز اهل الباطل فى كل حواراتهم الى يومنا هذا حتى على المرئيات
(قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ )
فاخذ مستوى الحوار فى الارتفاع تدريجيا واجابه موسى برد قوى اخضع فيه فرعون وقومه وابائهم واجدادهم لعبوديه الله الواحد
(قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ )
انتفض فرعون وازاح عن وجه قناع الحكمة والهدوء الذى يتخفى به الجهلة والسفهاء من المشركين وظهر بحقيقته ومرارة قلبه وغيظه وحقده وكراهيته للخضوع لله الواحد القهار
( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ )
دائما والى يومنا هذا هو منهج المسرفين المستكبرين على الله .. القاء المؤمنين بتهمة الجنون والاختلال العقلى .. تشابهت قلوبهم فى كل العصور
قوم نوح ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر )
مضغة كريهة فى فم كل المستكبرين على الخضوع لله واوامره نالت كل الرسل والمؤمنين بالقول السفيه والاتهام الباطل بالجنون (( كذلك ما اتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر او مجنون ))
وقول قوم هود عنه هود (آية:54): ( ان نقول الا اعتراك بعض الهتنا بسوء قال اني اشهد الله واشهدوا اني بريء مما تشركون )
وقولهم عن محمد صلى الله عليه وسلم الصافات (آية:36): (ويقولون ائنا لتاركوا الهتنا لشاعر مجنون )
هى سياسة لها جذور اتبعها اهل الباطل فى كل ازمنة الشرك و التعالى على الله ونهجه وشريعته الى يومنا هذا.. كلما جاءهم الحق بما لا تهوى انفسهم ويخالف اهواءهم ومناهجهم اتهموا صاحبه بالجنون .. هم فقط بمناهجهم المنحرفة العلمانية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها من رؤيتهم اصحاب فكر وعقل وحكمة
زاده موسى غيظا ونزع عن فرعون قناعه الزائف ورد عليه وعلى قومه جنونهم واخضع الكون كله بمشرقه ومغربه لله الواحد القهار
( قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ )
فزع فرعون من قوة رسالة موسى التى قد تنزع عنه سلطانه بل وتبيد عروش ونظم الفراعنة بكل اشكالهم وازمانهم الى الابد
( قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ )
ارتفع صوت موسى يرج المكان دون ان يعيراهتمام له ولا لتهديداته واعاده عليه بقوة وثبات
( وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )
لم يكن فرعون بحاجة الى آية فهو على عناده وكفره وتمرده على الولاء لله واستكباره على الخضوع والعبودية له وحده لا شريك له .. ولكنها وسيلة مكر ودهاء يتبعها حكام الباطل لمعرفة امكانيات اعدائهم ثم تحديد الوسائل المناسبة للتصدى لهم
( قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِيين )
( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ )
( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ )
وتباينت ردود الفعل وامسك فرعون بزمام الامور
( قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ .. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ .. قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ .. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ )
وكأى طاغية مستكبر جبان مجادل بالباطل تملك فرعون الهلع والخوف من موسى ورساله ربه التى سوف تنزع عنه سلطانه وعن كل من هم على شاكلته الى يوم الدين
( قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى )
وبكل هدوء وثبات وثقة فى نصر الله اجابه موسى واختار يوما مشهود عيد للفراعنة يشهد اكبر حشد وجمع من الناس
( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى )