

-
و بطبيعة الحال فإن الرسول عليه السلام لا يشجع هنا على التساهل، بل يعصم النفوس من اليأس إن حسبت أنها يمكن أن تعلو تماما عن مطالب الجسد وشهواته وكأنها ملائكة نورانية لا غرائز عندها ولا تطلعات إلى متاع الحياة، ثم تفاجأ بأن ذلك مستحيل تماما مما يدفعها إلى الوقوع فى حمأة الإثم والتخبط فى شباكه ما دام ليس ثمة أمل من وراء الجهود المتلاحقة والحرمانات المتصلة. وهل هناك شخص يستطيع أن يزعم صادقا أنه قد نجح تمام النجاح فى ألا ينظر إلى امرأة فاتنة أو يسمع صوتا جميلا أو يشم عطرا فواحا طوال حياته، أو أنه نظر وسمع وشم ولم يكن لهذا أى تأثير فى نفسه على الإطلاق؟ إنه إذن لأكذب الكذابين وأشد المنافقين نفاقا والتواء! والعبرة على أى حال فى ألا يستجيب لصوت الشهوة أو ينساق معه، بل يوقفه بكل ما عنده من جهد. والبشر متفاوتون فى هذا الجهد: فمنهم من يتوقف سريعا فلا يمضى بعيدا فى خيالاته، ومنهم من يضعف فيترك لخواطره العنان، ومنهم من قد يمضى إلى ما هو أبعد من ذلك. وهذا ما نشاهده حولنا دون حذلقات ماسخة. وباب التوبة مفتوح دائما أبدا، والله يغفر الذنوب جميعا مهما غلظت وضخمت ما دام مجترحها يشعر بخطئه ويندم عليه ويعمل بكل وسعه على عدم المعاودة حتى لو تكرر وقوعه بعد ذلك فى الذنب. فالمهم أن يظل الضمير يقظا وألا يستسلم صاحبه للآثام فيجترحها على أنها أمرٌ عادىٌّ لا يستوجب الشعور بالذنب والخجل. فهذا أفضل من سد بيبان العفو والغفران وتيئيس الناس ودفعهم دفعا إلى الآثام والخطايا بإيهامهم أن سيئاتهم تجلّ عن المغفرة، مع أنه سبحانه قد تكفل بغفران الذنوب جميعا. والعجيب أن نرى السيد المسيح عليه السلام يتشدد كل هذا التشدد فى الوقت الذى لم تكن ذنوب أنبياء العهد القديم أنفسهم هى اجتراح الذنوب البسيطة من عيّنة النظر إلى ساق امرأة قشفة مثلا لا تثير شهوة صرصور، بل منهم من زنى، ومنهم من دلّس، ومنهم من حقد، ومنهم من قتل بضمير بارد وإجرام متوحش لا يعرف الندم، ومنهم من أعان زوجاته على عبادة الأصنام، مما تعد معه نظرة سمعان المسكين إلى ساق المرأة الجلفة حسنة من الحسنات تكفل لصاحبها مقعدا فى البريمو بملكوت السماء!
فى ضوء هذا نقرأ النصوص التالية من العهد الجديد: "«27قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ" (متى/ 5). "8فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. 9وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمِ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ" (متى/ 18). "43وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 44حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 45وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 46حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 47وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. 48حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ" (مرقس/ 9). وأترك القارئ الآن ليقارن بين كلام وكلام ويرى بنفسه ولنفسه الفرق بين مثاليات متشنجة لا تؤكل عيشا (ولا "جاتوهًا"، حتى لا تنطّ لنا فيها الغبية مارى أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر!) ولا تؤدى بمتّبعها إلى شىء، اللهم إلا الكوارث أو الكذب والتشدق بما لا يستطيعه هو أو سواه، وبين تشريع إنسانى يلائم بين سمو المثالية وضغط الواقع الذى لا يمكن الإفلات تمام الإفلات منه، ويعرف من ثم أن شريعة محمد هى الشريعة الأجدر بالقبول لدى كل من عنده نظر فى عينيه، وعقل فى رأسه يفكر به ويعرف خلاصه، وإلا فلم تكن الجعجعة بقادرة يوما على أن تبلّغ صاحبها أى شىء!
ألا ما أسهل الكلام الجميل المنمق الذى يُسْكِر النفوس ويدغدغ المشاعر، لكنه عند التطبيق لا ينجلى عن أى طائل. وما هكذا تساس أمور البشر، بل السياسة السليمة هى التى تدفعنا فى طريق النجاة ولو خطوات بدلا من أن نظل نراوح أماكننا ونحن نهتف بالشعارات المثالية الباعثة مع ذلك على الضحك والمنتهية سريعا إلى اليأس والإحباط! ترى هل من المستطاع مثلا الحفاظ على أثوابنا من الاتساخ والعرق مهما اجتهدنا وبذلنا كل ما لدينا من وسع لاتقاء البقع والغبار والطين ورائحة إفرازات الجسد؟ إن هذا، بطبيعة الحال، أمر غير ممكن، وكل ما نستطيعه هو أن نغير دائما ملابسنا كلما اتسخت ولا نبقيها على أجسامنا بما تؤذى به العين من قذارة، والأنف من نتانة، عارفين أن ذلك لن يضع حدا لتلك القذارة ولا لتلك النتانة، وأنهما متكررتان لا محالة مما يستلزم تغيير الملابس من جديد والتخلص من القذارة والرائحة المزعجة... وهكذا دواليك. وبالمثل لا يمكن أن يتقى الإنسان الأخطاء الأخلاقية تماما وفى كل الأوقات والظروف. إن كثيرا من المنتمين إلى الإسلام مثلا لا يزنون ولا يسرقون ولا يتعاطون الخمور، ويصلون ويزكون ويحجّون ويؤدون واجبهم فى الحياة ويتقنون أعمالهم ويسعون فى طلب العلم ...، لكن هذا شىء، والزعم بأن هؤلاء وأمثالهم لا يقعون فى أية صغائر على الإطلاق شىء آخر تكذبه طبيعة الحياة ومنطق الواقع وما نعرفه من محدودية الطاقة الأخلاقية عند بنى الإنسان رغم قدرتها مع ذلك على التحليق فى عُلْيَا السماوات فى كثير من الحالات!
ومن التدليس النئ المفضوح قولهم إن المقطم إنما سمى: "مقطَّما" لأنه فى هذه المعجزة قد تقطم، أى تقطع قِطَعًا: "تحكى مخطوطة بدير الأنبا أنطونيوس أن الجبل المقطم سُمِّىَ كذلك، أى المقطَّم أو المقطَّع أو المقطَّب، لأن سطحه كان متساويا أى متصلاً، فصار ثلاث قطع، واحدة خلف الأُخرى، ويفصل بينهم مسافة. وتقول قواميس اللغة العربية أن كلمة "مقطم" معناها "مقطع"...". وها هنا عدة أمور: أولها هل تقطع الجبل؟ أم هل انتقل من مكانه؟ أم هل بقى على حاله الأولى؟ لنُعِدْ قراءة ما قالته الحدوتة فى هذا الصدد: "بعد تقديم الأسرار المقدسة التى رفعها البابا والأساقفة ردد المصلون بروح منكسرة وقلوب منسحقة صلاة "كيرياليسون: يارب أرحم" أربعمائة مرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ثم صمتوا برهة بين يدى العلى. وأبتدأوا فى السجود والقيام ثلاث مرات، والأب البطريرك يرشم الجبل بالصليب، وإذ بزلزلة عظيمة تجتاح الجبل، وفى كل سجدة يندك الجبل، ومع كل قيام يرتفع الجبل إلى أعلى وتظهرالشمس من تحته، ثم يعود إلى مكانه فى كل مرة. إنها قوة الإيمان الذى أعلنه معلمنا الرسول بولس إذ قال: "أستطيع كل شئ فى المسيح يسوع الذى يقوينى" (فى 4 :13). عندما حدثت المعجزة فزع الخليفة المعز وأرتعب وكل الجموع المحتشدة معه، وهتف المعز بأعلى صوته قائلاً: عظيم هو الله، تبارك أسمه. وألتمس من البابا أن يكف عن عمله لئلا تنقلب المدينة. وعندما هدأت الأمور قال للبابا: لقد أثبتم أن إيمانكم هو إيمان حقيقى. بعد أن هدأت نفوس الجموع المحتشدة بدأوا ينزلون من الجبل ليعودوا إلى بيوتهم. أما البابا البطريرك فقد تلفت حوله باحثا عن القديس سمعان الخراز الذى كان يقف خلفه فلم يجده ولم يعثر أحد عليه بعد ذلك حتى أظهرته نعمة الله فيما بعد كما سنرى. تحكى مخطوطة بدير الأنبا أنطونيوس أن الجبل المقطم سُمِّىَ كذلك، أى المقطم أو المقطع أو المقطب لأن سطحه كان متساويا، أى متصلاً، فصار ثلاث قطع، واحدة خلف الأُخرى، ويفصل بينهم مسافة. وتقول قواميس اللغة العربية أن كلمة "مقطم" معناها "مقطع"...".
ومعنى السطور الثلاثة الأخيرة أن الجبل لم يكن اسمه سابقا: "المقطم" لأنه لم يكن قد انقطم قبل تلك الواقعة. لكنْ من الواضح أن كل ما حدث، حسبما تقول الخرافة المضحكة، هو أن الجبل قد ارتفع وهبط عدة مرات، والناس فوقه إلى آخر لحظة كما قلنا، ثم لا شىء آخر، إذ لا تذكر الحدوتة من قريب أو من بعيد أنه قد تقطع البتة أو انتقل من موضعه، وهو ما يعنى أن التفسير المقدم هنا لكلمة "المقطم"، وهو حصول المعجزة، ليس سوى كلام فارغ. ثم إذا عرفنا أن هذا الجبل كان معروفا عند العرب بهذا الاسم قبل ذلك بوقت طويل كان هذا دليلا آخر على كذب الحدوتة. وهذه بعض الشواهد على ذلك من شعر العرب ونثرهم قبل عصر الفاطميين: يقول أيمن بن خُرَيْم الأسدى (ت 80 هــ):
رَكِبْتُ مِنَ الْمُقَطَّمِ فِي جُمَادَى إِلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ البَرِيدَا
يقصد أنه سافر من مصر حيث كان عبد العزيز بن مروان واليا، إلى العراق الذى كان يتولاه أخوه بشر. ويقول كُثَيِّر عزة (40- 105هــ):
تُعَالِي وَقَد نُكّبنَ أَعلامَ عابِدٍ بِأَركانِها اليُسْرَى هِضابَ المُقطَّمِ
ويقول منصور بن إسماعيل الفقيه (ت 306هــ) فى الثناء على الشافعى وعلمه:
أَضحى بمصر دفينًا في مقطَّمِها نِعْمَ المُقَطَّم وَالمَدْفون في تُرْبِه
ويقول مُعَلّى الطائى (وهو من أهل القرنين الثانى والثالث الهجريين) فى رثاء جاريته وَصْف، وكان يحبها حبا شديدا فماتت ودفنت فى المقطم:
خَلَّيتِني فَرْدًا وبِـنْـتِ بـهـا
ما كنتُ قَبْلَكِ حافلا وكـفـا
فَتَرَكْتُها بالرَّغْم فـي جَـدَث
للرّيح يَنْسِف تُرْبَه نَـسْـفـا
دون المقطم لا ألـبـّسـهـا
من زينةٍ قُرْطًا ولا شَنْـفـا
أسْكَنْتها في قَعْر مُـظْـلِـمةِ
بيتًا يُصافِح تُرْبُه السـقْـفـا
بيتـًا إذا مـا زَاره أَحَـــدٌ
عَصَفَتْ به أيْدِي البِلَى عَصْفا
وجاء فى "فتوح الشام" للواقدى (130- 207 هـ): "كان عمرو (بن العاص)... يقول: لا والذي نجاني من القبط. قال: وعاد الرسول وأخبر الملك بما قاله عمرو، فعند ذلك قال: أريد أن أدبر حيلة أدهمهم بها، فقال الوزير: اعلم أيها الملك أن القوم متيقظون لأنفسهم لا يكاد أحد أن يصل إليهم بحيلة، ولكن بلغني أن القوم لهم يوم في الجمعة يعظمونه كتعظيمنا يوم الأحد، وهو عندهم يوم عظيم، وأرى لهم من الرأي أن تُكْمِن لهم كمينا مما يلي الجبل المقطم. فإذا دخلوا في صلاتهم يأتي إليهم الكمين ويضع فيهم السيف"، "ووجدنا معهما الخِلَع التي وجهها إليهم ابن المقوقس ففرقها خالد على المسلمين وفيها خِلْعَةٌ سنيّة، وكانت لمقدَّم القوم، فأعطاها رفاعة، وساروا حتى قربوا من الجبل المقطم فرأوا جيش القبط، فأرسل خالد رجلاً من قِبَله، وهو نصر بن ثابت، وقال له: امض إلى هذا الملك وقل له: إن العرب أصحاب مدين قد أتوا لنصرتك"، "فلما رفعت رأسي قال لي الوزير: يا أخا العرب، أَوَصَل أصحابك إلى نصرة الملك؟ فقلت: نعم، وهاهم في دير الجبل المقطم". وفى "المعارف" لابن قُتَيْبَة الدِّينَوَرِىّ (213- 286 هـ) عن عمرو بن العاص: "وقُبِض وهو ابن ثلاث وسبعين سنة فدفن يوم الفطر بحبل المقطم في ناحية الفخ". وبالمثل ورد هذا الاسم عند مؤرخنا الكندى (ت 350 هـ، أى قبل وقوع المعجزة المزعومة بسبعة عشر عاما) فى المحاورة التى أوردها بين عمرو بن العاص والمقوقس قائلا إن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، سار في سفح المقطم ومعه المقوقس، فقال له عمرو: ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات كجبال الشام؟... إلى آخر الحوار. وبالمناسبة فهناك "مقطم" آخر فى فلسطين يقع قرب قرية بيت عنان وبيت لقيا، فهل كان هناك سمعانٌ إسكافىٌّ آخر وراء انشقاقه هو أيضا ثلاث قطع؟ عفوك اللهم!
هذا من ناحية النص وحده دون الرجوع إلى شىء خارج النص، فإذا ما وسعنا الدائرة ورجعنا إلى كتب التاريخ وغيرها من الكتب هالنا الأمر واكتشفنا أن ملفق هذه الحدوتة هو رجل مخرف العقل لا فهم لديه ولا معرفة له بفن التأليف، وإلا لقد كان ينبغى أن يفكر قليلا قبل أن يكتب ما كتب، أو على الأقل كان عليه أن يراجعه قبل أن يذيعه فى الناس حتى لا تكون فضيحة بجلاجل! كيف ذلك؟ نبدأ بقوله عن ابن كلس إنه كان وزيرا للمعز. وذلك كذب بواح كما قلنا، إذ تخبرنا كتب التاريخ والتراجم أن الرجل لم يتول الوزارة إلا فى عهد العزير بالله ابن المعز لدين الله. فهذه واحدة، كما أنه لم يقع ترميم للكنائس على هذا النحو فى عهد المعز بأى شكل من الأشكال، وهذه هى الثانية. ثم إننا نبحث فى كل الكتب عند المسلمين فلا نجد شيئا عن تلك التخريفة التى يسمونها: "معجزة" على الإطلاق! ترى هل يمكن أن يسكت كل المؤرخين والجغرافيين والأدباء والشعراء والفلاسفة والوعاظ وكتاب الدواوين عن الإشارة إلى حدث كهذا زلزل القاهرة وكاد أن يأتى عليها من القواعد، بل المفروض أنه قد أتى عليها فعلا من القواعد، فلا يفتحوا فمهم بكلمة توحد الله؟ وهل كلَّ يوم يرى الناس جبالا تطير وتهبط وتندك وقد تزاحمت الحشود عليها بالآلاف؟ أمن المعقول أن الذين أسعدهم (أو قل: أتعسهم وأرعبهم) الحظ بركوب ذلك البساط المدهش لم يفكر أحد منهم فى تسجيل تجربته وتصوير مشاعره فى تلك اللحظات الرهيبة؟ لا لا ليست هذه طبيعة الشخصية المصرية التى لا تترك شيئا جليلا أو تافها دون أن تجعله محورا لثرثرتها، إن لم يكن لهزلها وتنكيتها أو للطمها وصُوَاتها حسبما تقتضى الظروف!
مرة أخرى هل يعقل أن يخرس الكتّاب المصريون على بكرة أبيهم فلا يخطوا حرفا واحدا عن الزلزال على الأقل، ذلك الزلزال الذى لا بد أن يكون قد تجاوز مقدار ثمانى درجات بمقياس ريختر، لكن الله سلم، لأن الأنبا والإسكافى كانا رغم كل شىء رفيقين بالمسلمين فلم يشاءا أن يدمرا البلد على دماغ الذين جاؤوا بها واكتفوا بقرصة الأذن هذه؟ ودعنا من تثنى الجبل ورقصه على واحدة ونصف وقد ربط شالا على مؤخرته كما تفعل الراقصات، فهكذا تقتضى أصول الرقص الشرقى، وإلا فلا! وحتى لو زَعَم سخيفٌ أن المسلمين لم يشاؤوا أن يتكلموا عن المعجزة، ولا أدرى لماذا، لقد كان بإمكانهم يا أخى أن يقلبوا الحقائق قلبًا فيدّعوا مثلا أن النصارى كانوا يريدون بالبلاد شرا وكان فى نيتهم التمرد على السلطات، إلا أنها قد ألزمتهم حدودهم. أما أن يسكت الشعب كله خاصته وعامته وحكومته دون أن ينبس ببنت شفة أو بابنها فهذا ما لا يدخل دماغ أى إنسان. لقد شغلت الناس أيما شغل حكاية الأضواء التى تلعب بها بعض الكنائس فى عصرنا هذا وتطلقها فى الليل فوق أبراجها ثم يدعون أنها ظهورات لمريم عليها السلام، وأفاضت الصحف والكتب فى أمرها طوال سنوات ومازالت تتناولها حتى الآن، ولا ريب أن تلك الأضواء المصنوعة ليست شيئا بالمرة أمام الرقص المرعب الذى يجمد الدم فى العروق والذى رقصه الجبل (منه لله!) ولا رَقْص القرد ميمون، فما بال المصريين على بكرة أبيهم وأمهم معا قد انكتموا كتمة الفول المدمس فلم يفتح الله عليهم بكلمة واحدة فى هذه المناسبة المذهلة التى لو كانت وقعت لقامت فتنة لا يعلم مداها إلا الله، ولرأينا كذلك بعض ضعفاء الإيمان من المسلمين يتنصرون، وهو ما لم يحدث، وإلا لسجله المؤرخون على عادتهم فى تناول كل شىء دون تعمية أو تجاهل أو تزييف.
أما استشهاد عزت أندراوس بكلام ماركو بولو عن تلك الحدوتة فى رحلاته فهى مسألة تبعث على القهقهة، فماركو بولو لم يكن حاضرا الواقعة، بل لم يكن معاصرا لها، وكل ما فعله هو تسجيله لما سمعه أثناء تطوافه فى بلاد المسلمين. ليس ذلك فحسب، بل من شأن ما قاله أن يقدح فى المسألة لا أن يؤكدها، إذ إن مسرح المعجزة عنده بين بغداد والموصل وليس القاهرة، كما أن الخليفة العباسى فى قصته هو الذى كان ينوى اضطهاد النصارى لا المعز، بالإضافة إلى أن تاريخ الاضطهاد والمعجزة المزعومة فى كتابه متأخر عن تاريخهما المكذوب فى مصر بقرنين ونصف حسبما يوضح الهامش الأول من هوامش الفصل السابع من الكتاب الخاص برحلاته. ثم إن الخليفة العباسى فى حدوتة الرحالة الإيطالى كان يكره النصارى "لله فى لله" دون حاجة إلى وجود وزير يهودى يوغر صدره عليهم، على عكس الحدوتة الأخرى التى تصور المعز واسع الصدر، يفسح لهم دائما فى مجلسه ويحب أن يستمع إليهم وهم يجادلون المسلمين واليهود فى حرية تامة، إلى أن قفز فيها ابن كلس وخطط للإيقاع بالنصارى. وفضلا عن ذلك نرى الخليفة فى رواية بولو يعطيهم مهلة عشرة أيام: فإن نجحوا فبها ونعمت، وإلا فالعقوبة الصارمة فى انتظارهم. أما فى الرواية المصرية فهم الذين التمسوا منه المهلة، وكانت ثلاثة أيام لا عشرة قضوها كلها صائمين، بخلاف الحدوتة الأخرى التى تقول إن النصارى قد قضوا الأيام العشرة فى صلاة وتضرع، لكن دون صيام. وبالمثل ففيما نجد أن مريم عليها السلام فى روايتنا السابقة هى التى ظهرت للبطرك فى المنام نفاجأ فى رواية بولو بأن زائر المنام هو الروح القدس لا العذراء، وأن المَزُور هو أسقف من الأساقفة لا البابا ذاته، وأن الزيارة المنامية قد تكررت عدة مرات، على حين أنها فى الرواية السابقة لم تقع إلا مرة واحدة ليس إلا. وفوق ذلك ففى الوقت الذى تقول فيه الرواية الأولى إن الفريقين من مسلمين ونصارى صعدوا جميعا على الجبل، كل فريق فى جانب منه، وإن الجبل كان يعلو ويهبط وهم واقفون فوقه، نجد فى رواية رحالتنا البندقى أن الفريقين كانا واقفين فى السهل أمام الجبل لا فوق الجبل نفسه، وكانا من ثَمّ يشاهدان ما يحدث وهم بمنجًى من الخطر... فكيف بعد ذلك جميعا يجرؤ أى إنسان على الاستشهاد بما كتبه ذلك الأفاق؟ وما أشبه هذا بما كنا نسمعه فى طفولتنا من حواديت العفاريت التى كان أبطالها دائما رجالا ونساء من أهل قريتنا، حتى إذا ما كبرتُ وأصبح لى أصدقاء من قرى أخرى بعيدة عن قريتنا وليست لها بها أية صلة، أخذتُ أسمع منهم نفس الحواديت مع بعض التلوينات المختلفة، إلا أن أبطالها رجال ونساء من تلك القرى الأخرى، فكان هذا سببا إضافيا من الأسباب التى نبهتنى إلى أنها مجرد خرافات لا علاقة لها بالواقع وأنها لم تقع بقريتنا أو بأية قرية أخرى.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة ismael-y في المنتدى حقائق حول التوحيد و التثليث
مشاركات: 9
آخر مشاركة: 29-03-2007, 05:53 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات