ثانيا: قصة مع فيلسوف الوضعية المنطقية الدكتور زكي نجيب محمود.






جاء في كتابه ـ مجتمع جديد ـ تحت عنوان ( المستقبل المحسوب ) ما ملخصه:
(... حدث إبَّان العشرينات من هذا القرن ـ كان ذلك في القرن العشرين ـ , أن اضطلع ناشر في إنجلترا بمشروع
طموح ونافع و وهو أن طلب من مائة عالم وباحث وأديب و أن يتعاونوا على إخراج عدة كتب كل في فرع تخصصه ,
تُصَوِر ما سوف تكون عليه حياة الناس بصفة عامة , وفي إنجلترا بصفة خاصة , بعد خمسين عاماً من ذلك التاريخ .
وكان في ظنه أن تقديم هذه الصورة المستقبلية يتيح لكل من يهمه أمرٌ أن يتدبره قبل وقوعه , وكان المفروض
طبعاً أن يدخل هؤلاء المؤلفون في حسابهم ما عساه أن ينشأ خلال تلك الفترة من عوامل تؤثر في تشكيل الصورة
المراد تصويرها ..وصدرت بالفعل تلك المجموعة من الكتب في حينها , وها هي الخمسون عاما قد مضت فنحن
الآن في السبعينات , فإلى أي حد يا ترى جاءت حقيقة الواقع مصداقا لما رسمه رجال العلم والأدب والفكر بصفة عامة ؟ .
لقد كتب كاتب منهم منذ عام تقريباً تحليلاً لما احتوت عليه تلك المؤلفات المستقبلية , ليقارن صدق البحوث
النظرية على الواقع الفعلي فوجد أنه برغم ما وقع في تقديرات المؤلفين من أخطاء فإنهم بلغوا من دقة الحساب
حداً يلفت النظر, كان منهم من توقع وصول الإنسان إلى القمر وحدد لذلك تاريخا كاد يكون هو التاريخ
الذي حدث فيه هذا الوصول , وكان منهم من توقع انهيار الاقتصاد البريطاني وانحلال الإمبراطورية البريطانية ,
وحدد لذلك كله تواريخ توشك أن تتطابق مع ما حدث بالفعل , وكانت هناك البحوث الخاصة بتطورات علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا..
وإننا لنذكر في سياق الحديث نبوءة أثبتها يومها باحث في علم السياسة إذ تنبأ بقيام دولة إسرائيل ثم تنبأ هو نفسه بانحلالها ,
معللاً هذا الانحلال بأن عقدة الاضطهاد التي توقع أن تكون سبباً في الإسراع بنشأة دولة إسرائيل سوف تزول وبالتالي تزول نتائجها معها ) .
( الدكتور: زكي نجيب محمود , مجتمع جديد أو الكارثة ، دار الشروق , ص 49 ـ 50 , 1975)..إن هذه
القصة التي انحفرت في ذهني لسنوات طويلة حفزتني أكثر من مرة للبحث في الظاهرة الصهيونية وتطورها
ومستقبلها باعتبارها ظاهرة اجتماعية تاريخية تحكمها قوانين مفهومة أو يمكن فهمها .
وماذا بعد ؟؟.
من يذكر احتفالات الاتحاد السوفييتي بالذكرى الخمسين لقيام أول دولة شيوعية في التاريخ لقد كانت احتفالات
غاية في الضخامة والمبالغة حتى تتناسب مع المعنى الذي أراده المحتفلون بهذه المناسبة وهو النصر المظفر للنظام
الاشتراكي على منافسه الرأسمالي ، لقد تردد في هذا الاحتفال كثيراً عن قرب نهاية النظام الرأسمالي بفعل تناقضاته التاريخية ،
وأن الانتصار النهائي والحاسم للاشتراكية مسألة وقت ..
والسؤال الآن :
هل كان في تقدير هؤلاء المحتفلين أن الإمبراطورية السوفيتية التي شغلت العالم كله ستسقط بعد أقل من ربع
قرن على هذا التاريخ ؟ .. بالطبع لا .. ولكن السؤال الأهم في رأيي هو: هل كان في تقدير أعداء الاتحاد السوفيتي
وأعداء الاشتراكية قبل أيام قليلة من انقلاب 1991 أن الدولة السوفيتية آيلة للانهيار, وأنها ستنهار بالفعل في غضون أيام قليلة ؟ .
الإجابة بالنفي القاطع , وإلا فلماذا طلب الرئيس رونالد ريجان في نهاية رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية بإجراء
تحقيق واسع داخل أروقة وكالة المخابرات المركزية والتي لم يخرج
منها تقرير واحد ينذر بهذا الانهيار الذي لم يتوقعه أحد في المعسكرين..الأصدقاء والأعداء..
إن الخبرة التاريخية التي تقدمها لنا واقعة انهيار الإمبراطورية السوفيتية (النووية ) تفيد كثيراً في المقارنة المشروعة في
رأيي مع نموذجها المحلي, وأقصد بنموذجها المحلي الإمبراطورية الإسرائيلية ( النووية )...
لقد انهارت الإمبراطورية السوفيتية دون مواجهة عسكرية مباشرة مع خصمها الرأسمالي, من دون إهدار نقطة دم واحدة,
رغم امتلاك الطرفين لقدرات عسكرية ونووية مرعبة.. إن إدراك هذه ( الواقعة ) والإحاطة بها وتثمين دروسها التاريخية
يفتح لنا آفاق المقارنة مع إسرائيل التي تلعب الدور المسلح والنووي نفسه في المنطقة العربية وتسعى للسيطرة عليها بتهديد السلاح النووي ..
وقد يحتج البعض بأن خبرة انهيار الاتحاد السوفيتي قد لا تصلح نموذجاً للمقارنة بالصراع العربي الصهيوني ,
ففي حالة الاتحاد السوفيتي كان هناك خصم قوي يحاصر الدولة السوفيتية ويستنزفها عسكرياً واقتصادياً ,
بينما إسرائيل تتمتع بدعم سخي من القوى الغربية وهذا صحيح في ظاهره , ولكن خبرة انهيار
الدولة العنصرية ( النووية ) التي كانت قائمة في جنوب إفريقيا بعد كل هذه السنوات من الدعم الغربي العلني
والخفي للنظام العنصري الذي كان يحكمها تصلح للمشابهة مع النموذج الصهيوني العنصري النووي ..
إن الأسباب والدوافع التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي السابق تختلف عنها في الأسباب التي أدت إلي
انهيار دولة جنوب إفريقيا العنصرية وتولي أحد أبنائها الأفارقة رئاستها ـ نيلسون مانديلا ـ فأهم الأسباب
التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي هو قيام الدولة على المادية الجدلية والحتمية الديالكتيكية , في حين أن أهم
أسباب انهيار الدولة العنصرية إنما يكمن في سلاح الوحدة الأفريقية والالتفاف حول الزعيم
الواحد ـ حتى ولو كان هذا الزعيم في السجن ـ هذه الوحدة وهذا الالتفاف كانا العامل الرئيس وراء
الانهيار بل والأكثر من ذلك هو تحول الحكومة العنصرية إلى رعايا تحت ظل الحكومة الجديدة والتي وجدت
فيها الأمن والأمان الأمر الذي أدى معه رفضهم مغادرة البلاد وفضلوا العيش بسلام تحت مظلة حكومة نيلسون مانديلا والذي استحق جائزة نوبل للسلام .
إن حكومة نيلسون منديلا لم تصنعها الحكومات الخارجية مثل ما حدث مع إسرائيل وإنما إرادة الشعب
وحده كانت وراء الانهيار, وهناك دروس كثيرة مستفادة عبر التاريخ فالاحتلال البريطاني لمصر انهار بفعل
المقاومة الداخلية من جانب أبنائه , والاحتلال الفرنسي للجزائر اندحر بفعل مليون شهيد , وشهد العالم
كله اندحار الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان تحت جنح الظلام في الخامس والعشرين من عام ألفين ،
وكل حركات التحرير في العالم كله ما كان ليكتب لها النجاح لو لم تتوحد الصفوف الداخلية وتلتف حول قيادة واحدة .
ففي 25/5/2000 اندحر العدوان الإسرائيلي من جنوب لبنان بعد احتلال
دام عشرين عاماً. فلقد حققت المقاومة الإسلامية أهدافها نظراً لالتفافها حول قيادة واحدة بزعامة الشيخ البطل
حسن نصر الله , ولم تحقق المقاومة الفلسطينية أهدافها حتى كتابة هذه السطور , والسبب واضح جلي
هو تعدد القيادات والمنظمات , ويكفي أن تعرف أن السيد ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية قد أصدر
تعليماته بالقبض على اثنين من ناشطي حركة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فور تنفيذها لعملية اغتيال
وزير السياحة الإسرائيلي يوم الأربعاء الموافق 17/10/2001 بعد أن شجب الحادث واستنكر، والخبر
بتمامه كما تناولته وكالات الأنباء العالمية كالتالي:( أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن مسئوليتها عن اغتيال
وزير السياحة الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي رئيس حزب موليدت وصاحب نظرية
الترنسفير ـ طرد العرب ـ وأعلنت مجموعة الشهيد وديع حداد الخاصة التابعة للجبهة الشعبية مسئوليتها
عن الحادث حيث أكد علي جرادات الناطق الإعلامي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن هذه العملية
جاءت ردا على جريمة غتيال أبو علي مصطفى الأمين العام الذي اغتيل في مكتبه في 27 أغسطس 2001 في مكتبه
بالبيرة جراء قصف مكتبه بصاروخين أطلقتهما مروحية أباتشي إسرائيلية. وأعلن منسق الأمم
المتحدة تيري رود لارسن في بيان له يوم الأربعاء [17/10/2001 أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات
أمر بالاعتقال الفوري لقتلة وزير السياحة رحبعام زئيفي)أﻫ..
والسؤال الآن : أين ياسر عرفات من نلسون مانديلا ؟. وفي حديثه في برنامج
بلا حدود ـ في محطة الجزيرة الفضائية ـ بتاريخ 27/4/2000 قال المستر ( ديفيد إيرفينج ) المتخصص في شئون الحرب العالمية الثانية ما نصه:
( إن اليهود قد تجاوزوا حدودهم في أمريكا , ولسوف تدور الدائرة عليهم , فمن كان يتوقع في خلال الثلاثينات
في ألمانيا أن يُحَرّقوا بعد أن كانوا هم القوة المسيطرة على مقاليد الاقتصاد والسياسة والحكم , وعندما ينهار
الاقتصاد في أمريكا ـ وحتما سوف ينهار ـ عندئذ سوف يبحث الأمريكان على كبش للفداء ,
ولسوف يكون اليهود إنهم مكروهون جداً لا في أمريكا وحدها بل في كل العالم ) .
والسؤال الذي كنت أتوقع من السيد معد البرنامج أن يطرحه على خبير الدراسات الإستراتيجية هو :
لماذا يعادي الغرب الرأسمالي ـ ومعه إسرائيل ـ أي مشروع ديمقراطي عربي يتضمن الاستقلال ,
أيّاً كانت اللافتة الأيديولوجية التي يحملها , قومي .. عربي .. إسلامي. لماذا يعادي الغرب أي مشروع
ديمقراطي عربي إذا كان متصادماً مع المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني ؟.
لماذا يقبل الغرب كله ـ ومعه إسرائيل ـ أي ديكتاتورية متعفنة مادامت متحالفة معهما ,,..
لذلك كله وغيره لا يوجد سلاح لإنهاء المشروع الصهيوني وإعطاب فاعلية السلاح النووي
الإسرائيلي (من دون مواجهة نووية كما حدث مع الاتحاد السوفيتي أو لنظام جنوب إفريقيا) سوى سلاح الوحدة العربية الإسلامية..
ونقول بوضوح أكثر :
إن احتمالات المواجهة العسكرية مع إسرائيل ستظل قائمة دوماً هنا أو هناك ولقد رأينا آثارها بفعل أبطال
المقاومة الإسلامية لحزب الله حينما أجبرت قوات الاحتلال على الانسحاب من جنوب لبنان في الخامس والعشرون
من مايو عام ألفين هذا الأمر حقيقي وواقع ملموس ولكنه لن يكون السبب الحاسم في انهيار المشروع الصهيوني
الذي سينتهي عملياً عندما يتأكد فشله التاريخي في إعطاب المشروع العربي الإسلامي .
من هنا سوف يكتسب سلاح الوحدة العربية الإسلامية أهميته الإستراتيجية في مواجهة السلاح النووي على
غرار الخبرة المكتسبة من انهيار النظام العنصري في جنوب إفريقيا.
بمعنىً آخر:
مستقبل إسرائيل هو مستقبل العرب مقلوباً.. والمعادلة بسيطة :

العـرب ضعفـاء = إسـرائيل قويـة

العـرب أقـوياء = إسـرائيل ضعيفة


ولا يمكن الحديث عن عرب أقوياء دون تحقيق وحدة عربية إسلامية شاملة...