التأدب مع الله (مباحث جد خطيرة!)
وقبل أن نختم هذا المبحث الهام نتوقف مع الحرف يا! ذلك الحرف الذي ادعى النحاة أن الميم في "اللهم" عوض عنه, لنتساءل:
هل هذا الحرف حرف نداء أصلا؟!!
إذا نظرنا في القرآن وجدنا أن الأنبياء والمرسلين والعباد الصالحين كان يدعون رب العالمين ب: "رب, ربنا, أو: اللهم" مباشرة, ولم يأت الحرف يا إلا في آية واحدة في سورة الفرقان, في قوله تعالى: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان : 30]"
فإذا تتبعنا الآيات التي ورد فيها حرف "يا" وجدنا أن الله تعالى لا يستعمل فعل النداء مثل: "نادوا أو نادت أو نادى" مع "يا", وإنما يستعمل فعل "القول"! فمثلا:
"فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم : 27]"
"قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل : 29]"
"قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء : 69]"
والإحصاء التالي يظهر مرات ظهور فعل القول مع الحرف "يا" في القرآن:
جاءت تركيبة: "قال يا ..." ستا وأربعين مرة!
و: "قالوا يا" إحدى وثلاثين مرة!
و: "قلنا يا" أربع مرات!
و: "قالت يا" أربع مرات!
و: "قلتم يا" مرتين!
و: "قيل يا" مرتين!
هذا بخلاف الآيات التي جاء فيها فعل القول مفصولا عن الحرف "يا", مثل قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف : 5]"
بينما لم تأت "يا" مع النداء في القرآن كله إلا مرتين, مرة متصلة في قوله تعالى: "وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [الزخرف : 77]"
ومرة مفصولة بكلام, في قوله:
"وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ [هود : 42]"
وقد يقول قائل: إن مجرد مجيئها مرة أو مرتين كاف لقبولها كحرف نداء!
فنقول: وأيهما أولى بالإتباع, الأعم الغالب أم القليل النادر؟!
وبغض النظر عن الكثرة أو الندرة فإنه لا يوجد شيء اسمه حرف نداء أصلا! وإنما هناك نداء ودعاء وقول!
فالنداء هو ما يقوله الإنسان مناديا, فعندما أصرخ في هاتف السفينة:
"إن الأمواج عاتية, والسفينة ستغرق ونحتاج إلى النجدة العاجلة"
فإن مجموع ما قلت هو النداء! أما أن يكون هناك حرف للنداء فهذا عجيب!
فإذا نظرنا في القرآن وجدنا أن هذا هو الاستعمال الغالب مع فعل النداء, فمثلا:
فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران : 39]
ف (محتوى) النداء هو أن الله يبشره بكذا وكذا, ولا نجد "يا" هنا! وكذلك الحال في باقي الآيات, نجد ذكرا مباشرا للنداء:
"فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف : 22]
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف : 44]
َونَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف : 46]
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف : 48]
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف : 50]"
أو نجد "يا" ولكنها مسبوقة ب "أن" وذلك في آيتين فقط كذلك, وهما:
"فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص : 30]
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات : 104]"
وعلى الرغم من ورود أمثال هذه الآيات القادمة, فإنهم يتقبلون أن "يا" حرف نداء!!:
" يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس : 30]"
" وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [النساء : 73]"
" قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء : 14]"
فهنا نجد أن "يا" دخلت على ما لا يُدعى أو يُنادى أو يعقل بحال! فكيف تكون حرف نداء؟!
ولم يغفل النحاة عن هذه الآيات, فلقد وجهوها توجيها جيدا, فقالوا أن العرب ينادون ما لا يُنادى في الحقيقة لإظهار الاهتمام وتنبيه السامع!
ونقول نحن:
ليس هذا هو الاستعمال الفرعي ل "يا" وإنما هو معناها الأصلي, فهي حرف للتنبيه وللمعاني الإنشائية من تعجب وتحسر ودهشة وشكوى وتمن!
وبهذا نفهم لماذا جاءت "يا" في أعم كتاب الله مرتبطة بالقول! ولا يعني هذا أنها لا تأتي مع النداء, فما هو إلا قول مخصوص, إلا أنها لا تفيد في ذاتها النداء, وإنما تفيد التنبيه, ولو نظرنا في الآيتين اللتين ورد فيهما حرف "يا" بعد النداء, نجد أنهما يتحدثان عن موقف عصيب لا يريد معه المنادي أن يفوت المنادى شيء مما يقول, فاستعمل حرف "يا" تنبيها, فأصحاب النار ينادون مالك بالقضاء عليهم ليرتاحوا من عذاب النار! وسيدنا نوح يريد أن ينبه ابنه الذي كان في معزل, فقال: يا بني!
وبالمعنى الثاني نفهم الآيةالوحيدة التي ورد فيها "يا" مع "رب", فالرسول لم يكن يدعو ربه أن قومه اتخذوا القرآن مهجورا, وإنما كان يشكو ويتعجب منهم, لذلك قال: يا رب!
ولهذا نفهم لماذا لم يستعمل الله عز وجل حرف "يا" عند الحديث عن دعاءه ومناجاته, لأن الله تعالى لا يحتاج إلى تنبيه! فهو يجيب دعوة الداع إذا دعاه! وهو معنا أينما كنا وهو السميع البصير!
وبهذا نكون قد أظهرنا أنه من الواجب أن ندعو الله تعالى ب: اللهم, أو ب: رب أو ربنا أو إلهنا وأنه من إساءة الأدب قولنا: يا ألله, فلقد جعلناه غافلا يحتاج إلى تنبيه –تعالى سبحانه عن ذلك- كما أننا خاطبناه مباشرة بدون تعظيم!
كما بينا أن اللهم هي أصل ألوهيم وليس العكس! وأن الميم في اللهم هي للتعظيم والتفخيم وليست عوضا عن "يا" نداء مفترضة, بينا أنها ليست للنداء وإنما هي للتنبيه ولاستفتاح المعاني الإنشائية!
اللهم تقبلنا وتقبل منا واغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا!
والسلام عليكم ورحمة الله العظيم وبركاته! </B></I>
المفضلات