قال القرطبي : ( والهجرة أنواع :
منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال : لا هجرة بعد الفتح "
وهجرة المنافقين مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغزوات.
وهجرة من أسلم من دار الحرب فإنها واجبة [ أقول بشروطه التي ذكرناها في النوع الأول والثاني مما قدمناه ].
وهجرة المسلم ما حرم الله عليه كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه " وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن
وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم ، فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع كعب وصاحبيه )

والخلاصة أن الحكم يختلف باختلاف المقصود من الهجرة وظروفها:
إذا كانت تستهدف الفرار بالدين من دار يتحقق فيها الخطر عليه فهي واجبة، وهكذا كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة.

وإذا كانت تستهدف الإعداد لحال جديد من الجهاد في سبيل الله والتمهيد لنصر حاسم على الأعداء فهي واجبة، وهكذا كانت هجرة المسلمين إلى المدينة.

وإذا كانت تستهدف الراحة والتخلص من مشقة الجوار مع المنافقين أو من هم أقل درجة في الإسلام فتلك هي الهجرة التي منعها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذه الهجرة غير المشروعة إسلاميا هي التي تكون في مثل ظروف المسلمين بعد فتح مكة حيث قد توفر لهم شيء من القوة والمنعة : تحميهم وتدافع عنهم ، هي تلك الهجرة التي تكون من أجل التخلص من أذى محتمل إلى دار أخرى يستمتع فيها المسلم بالدعة ، والراحة ، أو يتخلص فيها من متاعب الدعوة وتبعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يفلت فيها من مشقات الجهاد في بيئة تفيد فيها الدعوة ويفيد فيه الجهاد .
ونحن اليوم ندفع ثمن " الهجر " عندما تركنا سنن الهجرة:
يتساءلون: لماذا ننهزم في معاركنا جميعا: عسكرية، واقتصادية، وتربوية، و.. على جميع المستويات، هزائم في أدنى المستويات ؟.
والجواب: لأننا ندفع فاتورة الحساب، ولابد أن تدفع بعد أن تأجلت. ولأن فاتورة الحساب هذه هي من وارد ما أقمنا عليه البناء من قبل .
أهملنا السنة – أو هجرناها – سواء في القيام بواجب الهجرة عند ما تقتضي مراغمة للمشركين ونصرا للمهاجرين المسلمين كما كان الحال في هجرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوهو النوع الثاني الذي قدمناه ، أو في عدم القيام بها إذ يقتضي ذلك تشبثا بالأرض واستعدادا ليوم الكريهة " جهاد ونية "

نحن اليوم ندفع ثمن هجرنا لسنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كان علينا أن نهاجر معه أو إليه : إلى سنته فنعمل بها .
كان علينا أن نهاجر إلى سنته ولكننا هجرناها.
هجرنا سنته في سنن الحرب والجهاد ، فخسرنا فتح فرنسا : نعم خسرنا فتح فرنسا على يد عبد الرحمن الغافقي ، خسرناها بمخالفة استمرارنا على الجهاد ، خسرنا فتح فرنسا بمخالفة شبيهة بمخالفة بعض المسلمين في غزوة أحد ، وخسرنا فرنسا بمخالفة سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاهتمام بأمر المسلمين ، بمعرفة أحوال المسلمين ، بمعرفة تاريخ الإسلام ، وليسأل القارئ عمن يعرف شيئا عن هذه القضية.
وخسرنا الأندلس ، وخسرنا الهند ، وخسرنا شرق أوربا ، وخسرنا فلسطين ، وخسرنا المسجد الأقصى ، وها نحن نخسر العراق ، ثم نخسر أمن الشرق الأوسط ، ثم نخسر أمن المسجد الحرام .

وهجرناها في سنة الوحدة
هجرنا سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاهتمام بأمر المسلمين – وهو أقل درجات الوحدة – فأسقطنا المسلمين المضطهدين من حسابنا خوفا من تهمة الإرهاب.

وهجرنا سنته صلى الله عليه وسلم عند ما هاجرنا حيث لا تجوز الهجرة، حيث منعها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في الأندلس مثلا ( النوع الثالث )، وقد يتساءل البعض: وكيف كانوا لا يهاجرون وقد انصب عليهم العذاب.
نقول :
يستعدون لهذا اليوم قبل أن يقع فربما - أو أغلب الظن - أنه كان لا يقع ، " جهاد ونية " ، "جهاد ونية " نستعد له لا بالاستمتاع بالدنيا وعيش النعومة ، والأخذ من الدنيا بأقصى ما يأخذه أهلها منها .
إنه ليس من طبيعة الأشياء بالنسبة للمسلم أن يأخذ من الدنيا بأقصى ما يأخذه أهلها منها، لأن أرضه التي يقف عليها إنما فتحت له بالجهاد والنية ، فإذا تخلى عن الجهاد والنية وشرع يأخذ من الدنيا بأقصى ما يأخذه منها أهلها كان لا بد من أن ينفصل عن فيزيائيته الخاصة، وكان من ثم لابد من أن تتزلزل أرضه تحت قدميه.
إن أفقر الفقراء فينا اليوم يأخذون بدين هذه الحياة الدنيا فيتقاتلون بعضهم مع بعض ، ويتقاتلون بالانضمام إلى صفوف أعدائهم الذين يعملون على إبادة المسلمين ، يتقاتلون هكذا للأخذ من هذه الدنيا بأقصى ما يأخذه أهلها منها ، بينما كان أغنى الأغنياء في جيل الصحابة والسلف الصالح يأخذون بدين الآخرة فيأخذون من الدنيا بتواضع ، يأخذون ما يوصلهم لثواب الآخرة . وهذه هي المفارقة .
أنظروا إلى بعض الأقليات في بعض البلاد الإسلامية : لقد أصبحت سرا ترسانات أسلحة ..هكذا الرجال ، واليوم نبكي كما تبكي النساء ملكا لم نحافظ عليه كما يحافظ الرجال .
إن المسلمين في قضية الهجرة إنما يقيمون على أرضهم بتأشيرة إقامة إلهية باسم الإسلام، فإذا فقدوا هذه التأشيرة أو تنازلوا عنها لم يكن لهم أرض ولا وطن ولا هجرة.