* * *
ومن مظاهر تفكك الرواية أيضا كثرة التناقض فى سرد الأحداث ووصف الأشياء والأماكن على نحو بغيض لا يقع فيه الكاتب المبتدئ: خذ عندك مثلا المبلغ الذى كان عبود يرسله إلى زوجته وابنه كل شهر عن طريق مهرة: فهو، كما يقول ماجد، مبلغ كبير لم يعرفا مبلغا مثله (ص5) مع أن أباه كان مديرا كبيرا فى إحدى الشركات. كذلك تكرر منه القول بأن المبلغ ينفد بمجرد تسلمه تقريبا، إذ تقوم الأم بإعطاء الدائنين ما لهم فى ذمتهما من مال اشترت به حاجاتهما طوال الشهر الفائت (ص6). ورغم هذا نراه هو نفسه يقول: "فى يوم الذهاب إلى أبله مهرة يكون كل ما معى أنا وأمى من الأموال قد نفد". فهل المبلغ الذى يقبضانه من أبله مهرة ينفد فى الحال؟ أم إنهما يظلان ينفقان منه إلى آخر الشهر كما تقول عبارة ماجد الأخيرة؟ وحين ذهب إلى شارع عباس العقاد فى مدينة نصر كى يأخذ من زميله إكرامى شريط فلم إباحى نراه يصف الشارع بأنه يشكو من الزحام المجنون فى السيارات والبشر جميعا، ثم عقيب ذلك يغير رأيه قائلا إن محلات الشارع كانت مغلقة، والناس جد قليلين، وليس للسيارات أية ضجة (ص14). قد يقال إن الوصف الثانى هو وصف الشارع يوم الأحد، اليوم الذى زاره فيه. ثم يعود مرة أخرى فيتحدث فى الفقرة الثالثة من الصفحة الخامسة عشرة عن المحلات فيقول إنها كانت مفتوحة، متوقعا أن من يدخلها سواء للشراء أو لمجرد الفرجة سوف يُنْشَل. فهل كانت المحلات مفتوحة؟ أم هل كانت مغلقة؟ اُرْسُ بنا على بر يا يوسف أنت وهذا الولد اللتَّات!
ومن هذا قول ماجد إن خروجه عن خط سيره الشهرى من شبرا إلى المعادى ليمر بزميله إكرامى فى مدينة نصر يحتاج إلى تلفيق قصة لأمه لأنه يضاعف المبلغ الذى سوف ينفقه هذه المرة على المواصلات (ص7). فإذا عرفنا أن المواصلات الزائدة فى ذلك الوقت ربما لا تبلغ جنيها تبين لنا سخف المبالغة فى كلام الولد، الذى هو بالطبع ليس كلامه بل كلام القعيد. ومع هذا فإن الحكاية قد تهون لو وقفت هنا، إذ ها هو ذا ماجد، والله العظيم بشحمه ولحمه، يخبرنا أنه سوف يشترى نظارة شمسية حين يقبض فلوس هذا الشهر من أبله مهرة (ص17). أى أن إنفاق ثمن تذكرة أوتوبيس فى داخل القاهرة مسألة خطيرة ومكلفة ماديا إلى الحد الذى سوف تربك ميزانية الشهر إرباكا يستدعى تدخل القوات العسكرية لحلف الأطلسى بغية تأديب المسلمين وتحطيم الأوتوبيسات والميكروباصات التى يملكونها، وذلك كله من أجل خاطر عيون ماجد، فضلا عن ضرورة تلفيق قصة محبوكة الأطراف للضحك بها على أمه، التى لن يشفى حقد صدرها تدخل حلف الناتو وتدميره البلاد، ومن ثم كان لا بد له من تأليف القصة الكاذبة، أما شراء نظارة شمسية فلن تربكها. ولكن لماذا فكر هذا البائس (بؤس المؤلف الذى اختلقه) فى شراء نظارة شمسية؟ لقد ذكر أنه يريد أن يتجنب وهج الشمس حين يعد طوابق العمارات الشاهقة فى شارع عباس العقاد، وكأن عد الطوابق واجب مقدس سوف يعاقبه الرب إن لم ينجزه. أرأيتم سخفا كهذا السخف؟
وحين يجد نفسه منخرطا فى حديث ذاتى بسبب ما يراه من أشياء جديدة عليه كل الجدة فى شارع عباس العقاد يتنبه إلى أنه ينبغى ألا يستمر فى هذه النجوى مع نفسه حتى لا يحسبه الناس مجنونا ويأخذوه إلى مستشفى العباسية أو يحولوه إلى المحافظة التى جاء منها إلى القاهرة، مع أنه يقول فى الفقرة السابقة إن معظم الناس فى الشارع، سواء كانوا راجلين أو راكبين، كانوا يكلمون أنفسهم (ص18). وأنا أترك للقارئ العزيز الحكم على الكاتب غير العزيز أو اللذيذ الذى يقول مثل ذلك الكلام المتناقض، وفى هذا الحيز الضيق جدا من السطور. أما أنا فأرى أن أصدق وصف لهذا هو "سمك، لبن، تمر هندى"! كذلك نجد ماجد، وهو صاعد إلى شقة زميله إكرامى، مسرورا محبورا من ركوب المصعد "الشّرِح البرِح" على حد وصفه له، وبخاصة أنه كان يتضوع بعطر ذكى خلفته وراءها الراكبة الجميلة التى نزلت فى الدور الأول (ص19). وكل هذا جميل، إلا أن ما ليس جميلا هو قوله بعد سطرين اثنين فقط إنه ورث فوبيا المصاعد عن أمه. أى أنه كان يخاف من ركوبها خوفا مرضيا يمنعه من دخولها وتخطى عتبتها مهما كانت الظروف حتى لو تحلقنا حوله نصفق له ونغنى قائلين: "تاتا. خَطِّ العتبة. تاتا. حبَّة حبَّة"! فكيف إذن يا ترى ركب المصعد رغم كل تلك الأهوال، فضلا عن أن يستمتع به دون أن نعرضه على سيجموند فرويد مثلا (أقول: مثلا. وإن كان عندكم غيره فهاتوه وخَلِّصونى) فيمدده على سرير الاعتراف أمامه فى ضوء خافت حتى يعرف سب عقدة المصعد عنده وينهال ضربا عليه بما فى رجله حتى يعدّمه العافية فيُشْفَى منها ويريحنا من هذه الثرثرة البليدة؟ بل إنى لأعجب كيف ركب ماجد المصعد رغم هذا دون أن يتبول ويتبرز على نفسه؟ يا للسخف المقيِّئ! وهكذا تكون كتابة الروايات، بل هكذا ينبغى أن تكون العبقرية التى أشاد بها ناقدنا المنتهك، وإلا فلا!
وفى الشقة الفيللا التى يسكنها إكرامى شاهد السمج المسمى: ماجد، وإن لم يكن له أى يد فى هذه السماجة لأنه لا ذنب له فيها، فصانعها هو القعيد، نقول: شاهد ذلك الولد النصرانى سلما صغيرا كثيرا ما رأى مثله فى التلفاز كما قال هو بعظمة لسانه، وهو ما يفيد أنه يعرف تمام المعرفة أن هذا سلم يؤدى إلى النصف العلوى من الشقة ذاتها، لنفاجأ كعادتنا فى الرواية الوخيمة مفاجأة سخيفة كمفاجآت كل مرة، إذ أخذ يسأل نفسه، حين أخذه ماجد ليصعدا إلى بقية الشقة، إلى أين يا ترى يذهب به صديقه؟ هل سيزوران يا ترى الجيران الذين فوق؟ (ص26). أية بلاهة هذه يا ربى؟ والحمد لله أنه لم يكن يشكو من فوبيا السلالم الداخلية فلم يصبه تشنج عصبى يروح فيه فيحتاس الكاتب كيف يكمل روايته الفاشلة، وإن كنت سأكون وقتها أسعد السعداء للتخلص من الولد الكذاب صنيعة الكاتب الثرثار!
والآن إلى هذه الفزورة، إذ يقول الكاتب على لسان مهرة: "جاء ماجد متأخرا عن موعده الذى تعودت على مجيئه فيه. اليوم هو العاشر من الشهر. يحرص على المجىء فيه مع أننى قلت له أن يحضر بعده" (ص74). فكيف يا ترى يكون ماجد قد جاء فى الميعاد الذى يجىء دائما فيه، وفى ذات الوقت يقال إنه جاء متأخرا عن موعده؟ وإليك هذه الفزورة أيضا، وهى كذلك من كلام مهرة، ويجدها القارئ فى الفقرة التى تلى ذلك: "كانت أوقاتى التى أقضيها خارج البيت أطول من داخله"، "عشت بمفردى واعتكفت واعتزلت، وأصبخ بينى وبين الدنيا ستار وحجاب... مقيمة فى البيت بصفة دائمة، وخروجى نادر". فأية المهرتين نصدق؟ هل نصدق أنها كانت تخرج من البيت أكثر مما كانت تظل بداخله أو أنها كانت تقيم فى البيت بصفة دائمة، ويندر خروجها؟
وفى الفقرة الثانية من الصفحة الثالثة والثمانين نسمعها تقول إنها دخلت على الولد النصرانى بالشاى والماء البارد وإنه مد يده إلى كوب الماء المثلج فشربه كالمفجوع. وهذا يعنى أنها انتهت من صنع الشاى وتقديمه أيضا. أم هناك فهم آخر لهذا الكلام الممل الذى لا مغزى له سوى أن القعيد لا يعرف كيف يكتب رواية فيذهب يثرثر وهو يظن أننا منسجمون آخر انسجام من ثرثرته المسئمة؟ المهم أننا فى الفقرة الثالثة نسمع مهرة بآذاننا هذه التى سوف يأكلها الدود تقول إنها ظلت واقفة فى المطبخ تستمتع بوشيش البراد على النار وخروج البخار من خرطومه. وهذا يعنى أنها لـَمّا تكن قد صنعت الشاى ولا قدمته من ثم. والآن قولوا لى أيها القراء الأعزاء ماذا أفعل فى هذا "العكّ" القعيدى، فقد غُلِب حمارى، ولم يعد أمامه إلا أن يرفع عقيرته بالنهيق.
ومن هذه التناقضات الفِجَّة تأكيد مرام أم ماجد (ص115) أنها لم تحصل على أية مؤهلات، بل لم تكن تعرف سوى الكتابة والقراءة، لتستدير الكذابة النَّسَّاءة بعد ذلك (ص130) فتزعم أنها، حين بحثت عن عمل بعد هجرة زوجها من مصر، طلبوا منها الشهادات الدراسية وشهادات الخبرة. وكان كل ما علقت به على هذا الطلب هو أن الحصول على تلك الأوراق مكلف، بما يعنى أنها كان حاصلة على شهادات دراسية فعلا، إلا أنها تحتاج إلى مال كثير. وهنا أيضا نتساءل: أية المرامين نصدق؟ الواقع أننا ينبغى ألا نصدق تلك الكذابة فى شىء أبدا، بل ولا نصدق شيئا فى الرواية كلها، ونريح أنفسنا. ومن تناقضات الرواية، وما أكثرها كالهم على القلب، كلام عبود زوجها عن ذهابه إلى الكنيسة قبيل الهجرة ومعرفته هناك بما سيحدث له فى البلد الجديد الذى سوف يهاجر إليه، وهو ما يدل على أنه فاتحهم بعزمه على ترك البلاد. لكننا، بعد أسطر قليلة وقبل أن يجف الحبر الذى كُتِب به هذا الكلام، نسمعه يؤكد أنه لم يكن فى القاهرة كلها مخلوق واحد يستطيع أن يتكلم معه عن مشروع الهجرة (ص157- 158). وفى ص175 تؤكد مهرة أنها راغبة فى الاقتراب من ماجد والتعامل معه جاعلة إياه استثناءً مما كانت تحرص عليه من إقامة مسافة بينها وبين الناس، مع أنها قبيل ذلك قد أبرزت عيوبه ونتانته وملابسه المرقعة غير المكوية ونفورها من كل شىء فيه (ص77).
كذلك نسمع مصطفى نور الدين يذكر أنها أصرت على رد مفتاح شقته إليه عقب الطلاق منه وأنه لما عرض عليها إرجاع المفتاح إليها بعد أن صارت تتردد عليه لممارسة الرذيلة معه (قبل أن تفىء إلى ربها) رفضت الأمر خشية أن يعاودها الشعور بالملل من ممارسة الجنس معه فى الحرام مثلما كانت تشعر به معه فى الحلال لو أخذت المفتاح مرة أخرى كما كان الحال أيام زواجهما (ص108). فما الذى يفهمه قارئى العزيز من هذا الكلام؟ أليس أنها لم يكن معها مفتاح شقة زوجها السابق، الذى صار عشيقها؟ بلى. وليس هناك، ولا يمكن أن يكون هناك، أى معنى آخر. بَيْدَ أن مهرة ذاتها قبل هذا قد ذكرت أن مفتاح الشقة كان لا يزال معها حين قصدت زوجها وعشيقها السابق فى آخر الرواية السخيفة لتطلب منه إمدادها بثلاثمائة الجنيه التى لماجد وأمه فى رقبتها (ص175). ليس هذا فحسب، بل رغم أن الاثنين كانا يعيشان فى حى واحد (ص169)، وكانت الصلة الجنسية بينهما قائمة حتى بعد الطلاق كما تكرر القول، فإننا نسمعها تقول إنه لم يعرف بتحجبها ولم تعرف هى بالتحائه وانخراطه فى جماعة إسلامية إلا بعد أن التقيا لقاءهما هذا الأخير (ص179- 180). هل تصدق هذا أيها القارئ؟ الحق أنه ليس هناك عاقل يمكن أن يصدق حرفا من هذا الذى تقوله الرواية الفاشلة. وبالمناسبة فنحن لا نعرف على أى نحو انقطعت العلاقة بين الاثنين، وقد كانا سمنا على عسل، وإن كانا سمنا زَنِخًا، وعسلا مطيَّنا بستين ألف نيلة.
وهناك تناقض آخر يتمثل فى أن مصطفى نور الدين، بعدما أحيل إلى الاستيداع من الجيش، لم يعد يرتدى إلا الملابس المدنية، بل لم يعد من حقه أن يلبس الزى العسكرى، ومن هنا نراه يخرج ملابسه المدنية من مكمنها لأنه لم يعد أمامه من الآن فصاعدا إلا أن يستخدمها (ص213). إلا أنه، رغم ذلك، يعود فيقول إنه ذهب بعد إحالته إلى الاستيداع لشراء صحيفة بالقرب من تجمع عمال اليومية، فهجموا على سيارته وكادوا يحطمونها ويكسرونها ظنا منهم أنه قد أتى لاستئجار بعضهم "برغم البدلة الميرى التى كنت أرتديها" بنص عبارته (ص217). أى أنه كان لا يزال يلبس الزى العسكرى بعد ذلك كله. وليس أمام القارئ إلا أن يكبّر دماغه ويرمى وراء ظهره كما قال أحد المسؤولين الكبار يوما لمسؤول تحت إمرته، وإلا أصيب بالفالَج، لا قدّر الله! وأنتم تَرَوْن كيف كان ذلك المسؤول يتمتع بصحة عظيمة فلم يصبه سكر ولا ضغط ولا هُزِل جسمه، وكان يصبغ شعره غير مبال بشىء يحدث فى سلطانه الواسع مهما تكن خطورته وفظاعته. زاده الله بلادة واستنطاعا، فإن الإحساس نعمة! وهو الآن قد صار يقضى أوقاته فى العبث بإصبعه فى مناخيره على ملإ من العالم أجمع، بينما ابنه الوريث يلعّب لنا الإصبع الوسطى من يده اليمنى استعاضة عما كان ينتويه من تلعيبنا على الشناكل. وكله تلعيب!

يتبع .......