ذلك بأن لكل معنى حسا، ولكل حقيقة شريعة، فكل معنى من المعاني، أو حقيقة من الحقائق هي ذات شكل هرمي، له قمة وله قاعدة، وكلما دقت القمة دقت القاعدة تبعا لذلك، أو قل، إن شئت، كلما دق المعنى دق الحس.

قال تبارك وتعالى (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ، وإليه ترجعون) فملكوت كل شئ هو فرديته. وإليه ترجعون توكيد لهذا الفهم، لأن الرجوع إلى الله إنما يكون بتقريب صفات العبد من صفات الرب. فكأن الخلائق مسيرة إلى فردياتها بجمعيتها، من التعدد في الوحدة، بفضل التوحيد.

قوله تعالى (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون * فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين).. لقد ذكرنا أن ظاهر القرآن عنى بآيات الآفاق، وباطنه عنى بآيات النفس البشرية. والكرامة عند الله للبشر، وليست للسموات ولا للأرض، بل إن النملة عند الله أكرم من الشمس، لأن النملة دخلت في سلسلة من الحياة والموت، لم تتشرف بها الشمس، وهي تتطلع إليها، وترجوها بشق النفس. ومن أجل ذلك فإنا لن نتحدث عن تفسير الظاهر في هذه الآيات، ومن أراده فليلتمسه في أي من كتب التفاسير، فهو مبذول.

أقسم الله بنفسه حين أقسم بقوى النفس البشرية (يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به، والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا) وهذه النفس الواحدة التي خلقنا منها إنما هي نفسه تبارك وتعالى. و (التين) النفس، و (الزيتون) الروح، و (طور سينين) العقل، و (هذا البلد الأمين) القلب،. وقد أسلفنا القول بأن العقل هو نتيجة لقاح النفس والروح، ونقول هنا أن العقل هو طليعة القلب، ورائده إلى المعرفة، وهو له بمثابة عكاز الأعمى، يتحسس به الطريق، أو قل، إن شئت، أن العقل يقوم من القلب مقام الحواس منه هو. وهو حين يقوى، ويستحصد، ويصبح يتلقى مداركه عن الحواس جميعها في كل لحظة، يصير الحاسة السادسة المرتقبة، ذلك بأن الحياة إنما بدأت بحاسة واحدة ثم تقدمت، في سحيق الآماد، إلى الحاسة الثانية، فالثالثة، فالرابعة، فالخامسة، وهي منطلقة في طريقها إلى الحاسة السادسة، ثم الحاسة السابعة، وتلك نهاية المطاف. ولا يكون الترقي بعدها إلا بتطوير هذه الحواس السبع نفسها، لا بزيادة في العدد عليها. فالحاسة السادسة إذن هي العقل، حين يستحصد، ويصبح قادرا على أن يذوق،ويشم، ويلمس، ويرى، ويسمع، كل شئ، وفي لحظة واحدة. فإذا بلغ العقل هذا المبلغ، فإنه يعرف قدر نفسه، ويعلم أن مكانه خلف القلب لا أمامه، ويسمع، ويحاول أن يطيع، قول العارف الجنيد: (وقدم إماما كنت أنت أمامه). ولكن طاعة هذا الأمر هي أشق الأشياء عليه، وهي لا تتحقق إلا الفينة بعد الفينة، وفي قمة السلوك المجود. ولا يطول المكث فيها، إذ يرد الخطاب من خضر القلب، على موسى العقل (إنك لن تستطيع معي صبرا) ولكن هذه اللحظة القصيرة، التي يطيقها موسى كل فرد مع خضره هي زنة الدهر الدهير، لأنها خارج الدهر.. وهي مقام (ما زاغ البصر، وما طغى) وعندها يشاهد السالك من ليس يحويه الدهر.. هذا مقام الشهود الذاتي بسقوط كل الوسائط، في تلك اللحظة يبلغ القلب مبلغ الحاسة السابعة وفيها يكون السالك وترا.

ثم لن يلبث العقل أن يدركه ضعفه، فيجهل قدر نفسه، ويتقدم على القلب، وعندها يصبح العابد شفعا، ويحجب بأنوار العقل عن شهود الذات، ولا يشهد إلا تجلياتها في مرتبة الاسم، أو في مرتبة الصفة، أو في مرتبة الفعل، وأدناها مرتبة وحدة الفاعل، والسالك في مراتب حجب النور صاحب شرك خفي، وهو صاحب شريعة فردية، ومن ثم فهو في ملكوته.

قوله تعالى في الآيات السوالف (لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم) إشارة إلى خلقه في عالم الملكوت، وهو قمة هرم الخليقة، وذلك في عالم الأمر، وقوله (ثم رددناه أسفل سافلين) إشارة إلى خلقه في عالم الملك، وهو قاعدة هرم الخليقة، وذلك عالم الخلق (ألا له الخلق والأمر) وعالم الخلق هو أيضا الذي أشار إليه بقوله (إنا كل شئ خلقناه بقدر * وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر) وقصة الخلق في أحسن تقويم، ثم الرد إلى أسفل سافلين، تحكيها هذه الآيات (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، انك انت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال، ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات، والأرض وأعلم ما تبدون، وما كنتم تكتمون؟ * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس، أبى واستكبر، وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا، بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر، ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون * والذين كفروا، وكذبوا بآياتنا، أولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون).

خلق آدم في عالم الأمر كاملا، وعالما، وحرا، وكانت حريته منحة لم يدفع ثمنها، فامتحنه الله ليرى كيف يصنع فيها، فقال (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين) وكانت الشجرة التي نهي عنها هي نفسه، في الباطن، وزوجه في الظاهر، فلم يحسن التصرف في حريته فيؤثر أمر الله على أمر نفسه، وإنما اختار نفسه عن ربه، وفسق عن أمره، واتصل بزوجه، فصودرت حريته، إذ عجز عن حسن التصرف فيها، وهبط إلى حيث يلقى عقوبة المخالفة، وحيث يبدأ باسترداد حريته بدفع ثمنها، حتى تكون عزيزة عنده، فلا يفرط فيها مرة أخرى، لأن الحرية التي لا يدفع ثمنها لا تعرف قيمتها، ولا يدافع عنها. قال تبارك وتعالى يحذر حبيبه محمدا من حالة آدم (فتعالى الله الملك الحق، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما * ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي، ولم نجد له عزما).. (ولقد عهدنا إلى آدم) يعني أخذنا عليه عهداً بأن يحسن التصرف في حريته فيختار الله دائما. (فنسي ولم نجد له عزما) نسي عهدنا، وضعف عزمه عن التزام واجب الحرية، فتهالك أمام إغراء زوجه، ورغبة نفسه، فأساء استعمال حريته فصادرناها. و (كذلك نفعل بالمجرمين).

وحين عصى آدم ربه عن نسيان، وعن ضعف عن مراغمة النفس، عصاه إبليس عن قصد مبيت، وعن استكبار، ولقد قص الله علينا من خبره فقال (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته، ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم، أجمعون * إلا إبليس، استكبر، وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي، استكبرت أم كنت من العالين؟ قال أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين! * قال فاخرج منها، فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك، وممن تبعك منهم أجمعين) وقد كان إبليس عابدا، ولكنه كان متكبرا، فحجب بنفسه، عن ربه، ولم تنفعه عبادته، وكان إبليس عالما، ولكن علمه كان علم ظاهر، ولم يصحب بعلم باطن، ولذلك لم يكن تقيا، ولا كان ذكيا، فهو يقسم بعزة الله، (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) والآية الأخيرة من دلائل علمه، إذ علم أن عباد الله المخلصين لا طاقة له بهم، ولكن علمه كما قلنا علم ظاهر بلا تقوى في الباطن. وأما آدم وحواء فقد قالا (ربنا ظلما أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين).

ومهما يكن من الأمر فإنهم جميعا قد عصوا أمر ربهم، وصاروا بالمعصية غلاظا، كثافا غير منسجمين مع تلك البيئة اللطيفة، فهبط بهم وزنهم الكثيف، من سلم الترقي إلى الدرك، وهو ما سمي في آيات (والتين) أسفل سافلين، وكان ترتيبهم في الهبوط إبليس أولا، متبوعا بحواء، ثم آدم، وفي بيئتهم الجديدة احتوشتهم الشرور، من كل جانب، ولكنهم ما لبثوا أن تأقلموا، ونسوا ما كانوا فيه من كمال إلا قليلا، واستجاب الله دعاء إبليس، فأنظره إلى يوم يبعثون، فلبث في أسفل سافلين، من غير ترق منه، لأنه لم يطلب الترقي، وإنما طلب الإنظار. واستجاب الله دعاء آدم وحواء، فلم يلبثا في أسفل سافلين إلا ريثما أدركتهما المغفرة التي طلباها في ساعة مخالفتهما أمر ربهما (إن رحمة الله قريب من المحسنين.)

وقد يظن ظان حين يقرأ في الآيات السوالف من سورة (والتين) قوله تعالى (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون) أن الاستثناء هنا يعني أنهم لم يردوا إلى أسفل سافلين، وهذا خطأ. والحق أن هذه الآية وسابقتها تؤديان المعنى المؤدى بقوله تعالى (وإن منكم إلا واردها، كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا، ونذر الظالمين فيها جثيا) فنجي، من أسفل سافلين، آدم وحواء وبدأ ترقيهما، بفعل المغفرة والرحمة، وترك إبليس، حيث لم يفكر في التغيير.

قوله (فما يكذبك بعد بالدين؟) الدين الجزاء، وهو المعاوضة، وهو القصاص، وفيه إشارة إلى قانون القصاص، الذي قلنا أن الإسلام بني على حقيقته، وشريعته، والإشارة ترمي إلى إرشادنا إلى أن الإنسان، إنما رد من مقام أحسن تقويم، إلى درك أسفل سافلين، بحكم قانون المعاوضة، جزاء وفاقا.

قوله (أليس الله بأحكم الحاكمين) تزكية لقانون المعاوضة، وتذكير لنا بالحكمة المودعة فيه.



منقول