فهل كان صدفة أن توافق أخبار القرآن عن الأمم السابقة و أنبيائهم الصحيح المحرر من علوم أهل الكتاب و تزيد عليها و أما ما داخلها من التحريف و التغيير فلا يأبه له القرآن بل يصححه و يفضحه أحيانا كثيرة ؟ و ممن ؟ من رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب !!
هب أن محمدا اطلع على أخبار الأولين فهل تراه اتخذ عند الله عهدا أن تصدق الأيام ما أخبر به من أمور المستقبل ولو بعد مئات السنين؟ فقد أخبر القرآن عن حوادث ستقع في المستقبل و حدثت كما أخبر تماما. فمثلا ذكر القرآن عن أناس معينين أنهم لن يسلموا وسيموتون على الكفر مثل أبي لهب وامرأته حمالة الحطب والوليد بن المغيرة فمن أين علم محمد أن هؤلاء لن يسلموا ؟! و كيف لم يخش أن تطوع لأحدهم نفسه فيعلن إسلامه نفاقا لكي يحرج محمدا؟ فيا عجبا لهذه الآيات هل كانت مؤلفة من حروف و كلمات أم كانت أغلالا وضعت في أعناقهم إلى الأبد؟ و مثل آخر في أول سورة الروم حيث دار بين الفرس الوثنيين و الروم النصارى أهل الكتاب معركةهزم فيها الفرس الروم ففرح المشركون بذلك لأنهم وثنيون مثلهم و حزن المسلمون فنزلت (الم . غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
و لقد صدق الله وعده فتمت للروم الغلبة على الفرس بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين و كان يومها هو اليوم الذي انتصر فيه المسلمون على المشركين في غزوة بدر. فكيف حدث ذلك بهذه الدقة إلا إذا كان الذي صدرت هذه الآيات عن علمه هو الذي صدرت هذه الحوادث عن مشيئته و حكمه؟
أما عن الآيات التي تتحدث عن خلق الكون و خلق الإنسان و الليل و النهار و الجبال و البحار والرياح و السحب والمطر والحيوان والنبات و النجوم والكواكب و الشمس و القمر والأرض و السماء فقد ذكر القرآن من أسرارها في كلمات وجيزة ما كانت تعجز علوم الدنيا حين نزل القرآن أن تتوقعه و لم يكتشفها العلم إلا في العصر الحديث و ما وقف أمامها فطاحل العلماء مبهورا أن يكون رجل أمي قد أتى بكلام مثل هذا منذ ألف و أربعمائة سنة!! ألم يخبر القرآن بأن للجبال أوتاد و أن البحر مسجور و الرياح لواقح و السحب ثقال و الكائنات أزواج و السماء ذات رجع و الأرض ذات صدع والليل و النهار مكوران على بعض و الشمس و القمر بحسبان و مواقع النجوم أمرها عظيم !! هل كان أحد في ذلك الوقت يعرف المراحل الدقيقة لخلق الأجنة في بطون أمهاتها أو يعرف أن الذي يرتفع في الجو يضيق صدره من صعوبة التنفس أو أن كل شيء خلق من ماء أو أن الحديد نزل من السماء ليستقر في الأرض و لم يتكون داخلها كما يتكون البترول مثلا أو أن السماء تتسع باستمرار أو أن هناك أنواعا من النجوم مختفية عن الأنظار تسير في السماء تكنس ما حوله وصفها بأنها جوار كنس أو أن السماوات والأرض كانتا في بداية الخلق قطعة واحدة فتقها الله ؟ ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُون ) ؟ كل هذه الحقائق التي أثبتتها العلوم الحديثة وغيرها يذكرها القرآن في غاية الوضوح و أمثالها في السنة النبوية كثير و أسلم بسببها كثير من العلماء فما الذي حمل محمدا على ذكر هذه الحقائق لقوم أميين ومن الذي ضمن له أن العلم سوف يثبت صحتها يوما من الأيام؟ هذا غير الآيات التي تسبر أغوار النفس البشرية وتخبر بما يجول في خاطرها سواء كانت هذه النفس نفس مؤمن مصدق أو كافر معاند أو كتابي مرتاب . ألم تنزل الآيات تفضح المنافقين الموجودين في المدينة و تخبر بخطرات نفوسهم؟ ألم يدع الأعراب الإيمان فنزلت (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) ألم يكن الأولى لو كانت هذه دعوة شخصية ألا ينفر محمد الأتباع من حوله بل يستكثر منهم و يحتفظ بهم في صفه؟ ناهيك عن التأثير الكبير الذي أحدثه القرآن في نفوس أصحاب النبي يقول الأستاذ فتح الله كولن : " لقد أحدث القرآن في أول عهده بالنـزول وأول عهده بتشريفه الدنيا تأثيرا لا يمكن تصوره في الأرواح وفي العقول والقلوب أيضا، بحيث أن درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوه النوراني كانت معجزة قائمة بذاتها لا نحتاج معها إلى ذكر أي نوع آخر من معجزاته. ولا يمكن العثور على أي أمثال لهم في مستواهم من ناحية التدين والتفكير وأفق الفكر والخلُق ومعرفة أسرار العبودية.
فالحقيقة أن القرآن قد أنشأ جيلا من الصحابة آنذاك لا نبالغ إن قلنا إنهم كانوا في مستوى الملائكة. وحتى اليوم فهو يقوم بتنوير قلوب المتوجهين إليه الناهلين من نبعه، ويهمس في أرواحهم أسرار الوجود. والذين يَدَعون أنفسهم بكل أحاسيسهم ومشاعرهم وقلوبهم وقابلية إدراكهم تسبح في جوه الذي لا مثيل لـه سرعان ما تتغير عواطفهم وأفكارهم، ويحس كل واحد منهم بأنه قد تغير بمقياس معين وأنه أصبح يعيش في عالم آخر" (هَذَا بَصَائِرُ للنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَومٍ يُوقِنُونَ ) ويمكنك أن تقرأ في القرآن لكي تشعر بهذا بنفسك فهو متاح على الإنترنت.
والآن آن لنا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال : من أين أتى محمد بالقرآن؟ هناك ثلاثة احتمالات لا رابع لها. إما أن يكون من كلام محمد نفسه وإما أن يكون من كلام شخص آخر كان يتصل به محمد بصورة غير معروفة في جميع الأماكن والأزمنة ليتلقى منه الآيات و إما أن يكون وحيا من عند الله أوحاه إليه عن طريق الملك الذي أنزل على جميع الأنبياء من قبل و هو روح القدس جبريل عليه السلام كما أخبر بذلك القرآن نفسه.
فإذا نظرنا إلى الاحتمال الأول سنجد أن القرآن صريح في لأنه لا صنعة فيه لمحمد ولا لأحد من الخلق لكنه منزل من عند الله بلفظه ومعناه. فأى مصلحة لمحمد لو كان القرآن من كلامه أن ينسب بضاعته لغيره وينسلخ منها انسلاخا ولو انتحلها لما وجد أحدا من البشر يعارضه ويزعمها لنفسه؟ إن قومه أنفسهم قد استبعدوا هذا الاحتمال- أن يكون القرآن من تأليف محمد- لإنه عاش بينهم أربعين سنة يحضر مشاهدهم و يتعامل معهم ولم تبد عليه أثارة من تلك العلوم التي لا عهد لهم بها قبل ذلك. (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) ثم إنك تقرأ كلام النبي وأحاديثه في كتب السنة و تقرأ القرآن فلا تحس بأنهما خرجا من ذات المنبع بل تجد الفرق في الأسلوب بينهما واضحا هذا خطاب إلهي و ذاك كلام بشري.. ثم لماذا لم يحو القرآن لو كان من عند محمد خطرات نفسه و آلامه و أحزانه المختلفة التي مرت به و هو الذي مرت به الأحداث الجسام مثل وفاة زوجته خديجة و عمه أبي طالب في عام واحد و محاصرة المشركين له و لأصحابه في أحد شعاب مكة ثلاث أعوام و مقتل عمه حمزة ووفاة جميع أبنائه في حياته إلا فاطمة ولكنك لا ترى إشارة لذلك في القرآن.
وهل تكون الآيات التي تعاتب النبي في القرآن و توجهه و تأمره و تنهاه من وضعه؟ أيكون من عنده ثم يجعل فيه حين دعا على بعض المشركين (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) أم يكون من عنده ثم يقول فيه لنفسه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه ) أو يقول فيه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) و ذلك حين أقسم ألا يتناول نوعا معينا من الطعام ؟ بل إنه عبس مرة في وجه رجل مسلم أعمى جاء يسأله عن شيء لإنه كان مشغولا بدعوة أشراف قريش إلى الإسلام فنزلت سورة عرفت بسورة عبس , بدايتها : (عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى )
ألم يكن أولى به – لو كان كما يدعي المبطلون كاذبا – أن يكتم هذه الآيات؟
بل كانت تنزل به النوازل من شأنها أنها تحفزه إلى القول و كانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالا و مجالا و لكنه كانت تمضى به الليالى و الأيام تتبعها الليالى و الأيام و لا يجد فى شأنها قرآنا يقرؤه على الناس.
ولنا عودة إن شاء الله
المفضلات