

-
صحيح البخاري
كتاب :كتاب الوضوء
باب :باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله
حدثنا عثمان قال : حدثنا جرير ،عن منصور ، عن جاهد ، عن ابن عباس قال :
مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة ، أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يعذبان ، وما يعذبان في كبير ) . ثم قال : ( بلى ، كان أحدهما لا يستتر من بوله ، وكان الآخر يمشي بالنميمة ) . ثم دعى بجريدة ، فكسرها كسرتين ، فوضع على كل قبر منهما كسرة ، فقيل له : يا رسول الله ، لم فعلت هذا ؟ قال : ( لعله أن يخفف عنهما مالم تيبسا . أو : إلى أن ييبسا ) .
فتح الباري لابن حجر رحمه الله تعالي :
قَوْله : ( مَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ )
أَيْ : بُسْتَان ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَب " خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْض حِيطَان الْمَدِينَة " فَيُحْمَل عَلَى أَنَّ الْحَائِط الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ غَيْر الْحَائِط الَّذِي مَرَّ بِهِ ، وَفِي الْأَفْرَاد لِلدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث جَابِر أَنَّ الْحَائِط كَانَ لِأُمّ مُبَشِّر الْأَنْصَارِيَّة ، وَهُوَ يُقَوِّي رِوَايَة الْأَدَب لِجَزْمِهَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْر شَكّ وَالشَّكّ فِي قَوْله " أَوْ مَكَّة " مِنْ جَرِير .
قَوْله : ( فَسَمِعَ صَوْت إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورهمَا )
قَالَ اِبْن مَالِك : فِي قَوْله " صَوْت إِنْسَانَيْنِ " شَاهِد عَلَى جَوَاز إِفْرَاد الْمُضَاف الْمُثَنَّى إِذَا كَانَ جُزْء مَا أُضِيف إِلَيْهِ نَحْو أَكَلْت رَأْس شَاتَيْنِ ، وَجَمْعه أَجْوَد نَحْو ( فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا ) وَقَدْ اِجْتَمَعَ التَّثْنِيَة وَالْجَمْع فِي قَوْله : ظَهْرَاهُمَا مِثْل ظُهُور التُّرْسَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُضَاف جُزْء مَا أُضِيف إِلَيْهِ ، فَالْأَكْثَر مَجِيئُهُ بِلَفْظِ التَّثْنِيَة ، فَإِنْ أُمِنَ اللَّبْس جَازَ جَعْل الْمُضَاف بِلَفْظِ الْجَمْع .
وَقَوْله " يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورهمَا " شَاهِد لِذَلِكَ .
قَوْله : ( يُعَذَّبَانِ )
فِي رِوَايَة الْأَعْمَش " مَرَّ بِقَبْرَيْنِ " زَادَ اِبْن مَاجَهْ " جَدِيدَيْنِ فَقَالَ : إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ " فَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : أَعَادَ الضَّمِير عَلَى غَيْر مَذْكُور لِأَنَّ سِيَاق الْكَلَام يَدُلّ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُقَال أَعَادَهُ عَلَى الْقَبْرَيْنِ مَجَازًا وَالْمُرَاد مَنْ فِيهِمَا .
قَوْله : ( وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير . ثُمَّ قَالَ : بَلَى )
أَيْ : إِنَّهُ لَكَبِير . وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْأَدَب مِنْ طَرِيق عَبْد بْن حُمَيْدٍ عَنْ مَنْصُور فَقَالَ " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير . وَإِنَّهُ لَكَبِير " وَهَذَا مِنْ زِيَادَات رِوَايَة مَنْصُور عَلَى الْأَعْمَش وَلَمْ يُخْرِجهَا مُسْلِم ،
وَاسْتَدَلَّ اِبْن بَطَّال بِرِوَايَةِ الْأَعْمَش عَلَى أَنَّ التَّعْذِيب لَا يَخْتَصّ بِالْكَبَائِرِ بَلْ قَدْ يَقَع عَلَى الصَّغَائِر ،
قَالَ لِأَنَّ الِاحْتِرَاز مِنْ الْبَوْل لَمْ يَرِد فِيهِ وَعِيد ، يَعْنِي قَبْل هَذِهِ الْقِصَّة . وَتُعُقِّبَ بِهَذِهِ الزِّيَادَة ، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلهَا مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظه " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير ، بَلَى " وَقَالَ اِبْن مَالِك : فِي قَوْله " فِي كَبِير " شَاهِد عَلَى وُرُود " فِي " لِلتَّعْلِيلِ ، وَهُوَ مِثْل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عُذِّبَتْ اِمْرَأَة فِي هِرَّة " قَالَ : وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ مَعَ وُرُوده فِي الْقُرْآن كَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ) وَفِي الْحَدِيث كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي الشِّعْر فَذَكَرَ شَوَاهِد . اِنْتَهَى ...
.......
.......
. قَوْله : ( لَا يَسْتَتِر )كَذَا فِي أَكْثَر الرِّوَايَات بِمُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْق الْأُولَى مَفْتُوحَة وَالثَّانِيَة مَكْسُورَة ، وَفِي رِوَايَة اِبْن عَسَاكِر " يَسْتَبْرِئ " بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَة مِنْ الِاسْتِبْرَاء .
وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيث الْأَعْمَش " يَسْتَنْزِه " بِنُونٍ سَاكِنَة بَعْدهَا زَاي ثُمَّ هَاء ،
فَعَلَى رِوَايَة الْأَكْثَر مَعْنَى الِاسْتِتَار أَنَّهُ لَا يَجْعَل بَيْنه وَبَيْن بَوْله سُتْرَة يَعْنِي لَا يَتَحَفَّظ مِنْهُ ، فَتُوَافِق رِوَايَة لَا يَسْتَنْزِه لِأَنَّهَا مِنْ التَّنَزُّه وَهُوَ الْإِبْعَاد
، وَقَدْ وَقَعَ عِنْد أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَج مِنْ طَرِيق وَكِيع عَنْ الْأَعْمَش " كَانَ لَا يَتَوَقَّى " وَهِيَ مُفَسِّرَة لِلْمُرَادِ . وَأَجْرَاهُ بَعْضهمْ عَلَى ظَاهِره فَقَالَ : مَعْنَاهُ لَا يَسْتُر عَوْرَته . وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّعْذِيب لَوْ وَقَعَ عَلَى كَشْف الْعَوْرَة لَاسْتَقَلَّ الْكَشْف بِالسَّبَبِيَّةِ وَاطُّرِحَ اِعْتِبَار الْبَوْل فَيَتَرَتَّب الْعَذَاب عَلَى الْكَشْف سَوَاء وُجِدَ الْبَوْل أَمْ لَا ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
. وَأَمَّا رِوَايَة الِاسْتِبْرَاء فَهِيَ أَبْلَغ فِي التَّوَقِّي . وَتَعَقَّبَ الْإِسْمَاعِيلِيّ رِوَايَة الِاسْتِتَار بِمَا يَحْصُل جَوَابه مِمَّا ذَكَرْنَا قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : لَوْ حُمِلَ الِاسْتِتَار عَلَى حَقِيقَته لَلَزِمَ أَنَّ مُجَرَّد كَشْف الْعَوْرَة كَانَ سَبَب الْعَذَاب الْمَذْكُور ، وَسِيَاق الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ لِلْبَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَاب الْقَبْر خُصُوصِيَّة ،
يُشِير إِلَى مَا صَحَّحَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا " أَكْثَر عَذَاب الْقَبْر مِنْ الْبَوْل " أَيْ : بِسَبَبِ تَرْك التَّحَرُّز مِنْهُ .
قَالَ : وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ لَفْظ " مِنْ " فِي هَذَا الْحَدِيث لَمَّا أُضِيف إِلَى الْبَوْل اِقْتَضَى نِسْبَة الِاسْتِتَار الَّذِي عَدَمه سَبَب الْعَذَاب إِلَى الْبَوْل
، بِمَعْنَى أَنَّ اِبْتِدَاء سَبَب الْعَذَاب مِنْ الْبَوْل ، فَلَوْ حُمِلَ عَلَى مُجَرَّد كَشْف الْعَوْرَة زَالَ هَذَا الْمَعْنَى ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْل عَلَى الْمَجَاز لِتَجْتَمِع أَلْفَاظ الْحَدِيث عَلَى مَعْنًى وَاحِد لِأَنَّ مَخْرَجه وَاحِد . وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ فِي حَدِيث أَبِي بَكْرَة عِنْد أَحْمَد وَابْن مَاجَهْ " أَمَّا أَحَدهمَا فَيُعَذَّب فِي الْبَوْل " وَمِثْله لِلطَّبَرَانِيّ عَنْ أَنَس .
قَوْله : ( مِنْ بَوْله )
...............
..............
. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر ، وَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ مُلَابَسَة الْبَوْل ، وَيَلْتَحِق بِهِ غَيْره مِنْ النَّجَاسَات فِي الْبَدَن وَالثَّوْب ، وَيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى وُجُوب إِزَالَة النَّجَاسَة ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ الْوُجُوب بِوَقْتِ إِرَادَة الصَّلَاة ، وَاَللَّه أَعْلَم .
انتهي
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة نبعة الريحانة في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 28-06-2008, 08:57 PM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 23-03-2007, 08:31 PM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 23-03-2007, 04:22 PM
-
بواسطة ساريا في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 12-03-2007, 09:18 PM
-
بواسطة أبـ مريم ـو في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 04-07-2005, 10:30 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات