الحمد لله . والصلاة والسلام على رسول الله .
كان أصل الموضوع كلامًا نقله الأخ/السيف البتار عن ابن بطرس . وسامح اللهُ الأخ/المهتدى بالله على ما ورد بكلامه حيث وصف مَن أجرى كلام الله على ظاهره بأنه مشبه حشوى مجسم . وهذا معناه أن ظاهر كلام الله كفر . ونعوذ بالله من الخذلان . كما أنه - أصلحه الله - حاول أن يحشر ابن كثير فى زمرة المتأولين . وفى هذا من التخليط ما فيه . ولا أرى الرد على كلامه - أصلحه الله - إذ كفى الإخوة ووفوا بالنقل عن العلماء بارك الله فيهم .
ونعود إلى أصل الموضوع . لم ينقل الأخ/السيف البتار عن ابن بطرس كامل كلامه ، واقتصر على بعضه فقط . وهذا الصنيع أوهم القارئ بأن ابن بطرس يعترض على صفة الاستواء على العرش واليد لله رب العالمين . وجاءت إجابة الأخ/السيف البتار مؤكدة لهذا الفهم الخاطئ ، حيث إنه نقل عن الشعراوى - رحمه الله - ما يدفع الاعتراض على وصف الله بالاستواء على العرش . ومن هنا جاءت إجابات الإخوة غير كافية ، لأنها اتجهت إلى تبرئة صفة الاستواء على العرش من اعتراض ابن بطرس عليها . حتى ذهب بعضهم إلى إيراد نصوص من كتاب ابن بطرس يرى فيها التصريح بالجلوس .
والحق أن ابن بطرس لو قرأ إجابات الإخوة لقرت عينه وانشرح فؤاده . إذ إنه لم يعترض أصلاً على صفة الاستواء على العرش ولا غيرها . وإنما هو يستشهد بها على باطله . فابن بطرس يفهم صفة الاستواء على العرش بطريقة الأشاعرة ، فيقر بأن ظاهرها غير مراد ، وأن المراد أن الله يحكم الكون . وابن بطرس يريد بذلك دفع اعتراض المسلمين على قول النصارى ( المسيح ابن الله ) . ومنطقه أن عبارة ( المسيح ابن الله ) لا يريد منها النصارى ظاهرها الذى يفيد ولادة المسيح من الله بطريق الجسد والتناسل ، وإنما قصدهم أن لاهوت المسيح هو لاهوت الله . فإن اعترض المسلمون على ذلك قال لهم : وأنتم عندكم عبارات لا تجرونها على الظاهر بل على التأويل ، مثل تأويلكم للاستواء على العرش واليد وغير ذلك . فلا تنكروا علينا ما تفعلون مثله . هذا منطق المخذول . وهذا تمام كلامه :
قبل التعقيب ننبه إلى أن ابن بطرس أورد آية طه هكذا : الرحمن على الكرسى استوى . والصواب : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه 5] . وأورد آية الحديد هكذا : إن الفضل بيد الله . والصواب : { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } [الحديد 29] . وأورد آية البقرة هكذا : أينما تولوا فثم وجه الله . والصواب : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } [البقرة 115] .اقتباسيحتج الكثيرون على هذا التعبير (ابن الله) ويعترضون بأنه لا يليق بجلاله فهو المنزه عن هذه التشبيهات.
يجب أولاً أن نفهم أن الوحي المقدس لم يقصد المعنى الحرفي لهذا التعبير (أي الولادة الجسدية التناسلية).
أما من جهة تنزيه الله عن مثل هذه التعبيرات التي لا تليق بجلال الله، فما رأيك في التعبيرات القرآنية التي في الآيات التالية:
سورة طه: "الرحمن على الكرسي استوى" فالمعنى الحرفي لهذه الكلمات : أن الله جلس على عرش الملك كما يجلس الإنسان. فهل هذا يليق بالله؟ وهل الله مثل البشر يجلس على كرسي؟ فواضح أنه لا يقصد بهذه الكلمات المعنى الحرفي لها : وإنما استخدمت لتقريب معنى (أن الله ملك يحكم الكون).
سورة الحديد: "إن الفضل بيد الله" فالمعنى الحرفي لهذه الكلمات هو أن لله يد مثل يد البشر. فهل هذا يليق؟ لكن المعنى المقصود هو ليس المعنى الحرفي لها، وإنما استخدمت لتقريب معنى "سلطان الله" .
سورة البقرة: "أينما تولوا فثم وجه الله" والمعنى الحرفي لهذه الكلمات هو أن لله وجه كوجه إنسان، فهل هذا يليق بالله؟ ولكنه واضح أنه لا يقصد المعنى الحرفي لهذه الكلمات، وإنما استخدمت لتفيد أن (الله موجود في كل مكان).
وعلى هذا القياس فانه لا يقصد من قولنا (ابن الله) المعنى الحرفي (الولادة الجسدية التناسلية) بل المعنى اللاهوتي كما سبق أن أوضحنا وهو أن لاهوت المسيح هو نفس لاهوت الله. وليس في هذا شيء من عدم اللياقة بالله.
والجواب : الاستواء على العرش واليد والوجه صفات لله عز وجل كالسمع والبصر . وليس للمخذول حجة فيها على باطله وشركه . لأننا نمرر هذه النصوص على ظاهرها بلا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل . فلا نقول إن ظاهرها غير مراد والمراد مجاز . وعليه فقياس المخذول باطل ؛ لأنه يقر بأن عبارة ( المسيح ابن الله ) مجاز ليست على ظاهرها ، ونحن نجرى صفات الله على ظاهرها ولا نقول بالمجاز فيها . فهذا بطلان قياسه .
وللنصارى أن يقولوا : نحتج بوجود المجاز عمومًا بصرف النظر عن الآيات السابقة ، فقولنا ( المسيح ابن الله ) لا نريد ظاهره من التناسل الجسدى بل نريد أن لاهوت المسيح هو نفس لاهوت الله .
فنقول لهم : أولاً - سواء عليكم أقصدتم التناسل الجسدى أم الاشتراك فى اللاهوت ، فنحن نكفركم على أى معنى قصدتم . فإن قصدتم أن المسيح ابن لله من التناسل الجسدى فهو كفر بالله عندنا وعندكم . وإن قصدتم أن المسيح يشترك مع الله فى الألوهية فهو كفر بالله الذى لا إله إلا هو . ونصوص التوراة التى تؤمنون بها تؤيد تكفيرنا لكم لأنها تنفى إشراك أحد مع الله فى ألوهيته . بل وكلام المسيح الذى بين أيديكم يؤيد تكفيرنا لكم كذلك .
ثانيًا - قولكم ( المسيح ابن الله ) لا يخلو من أحد أمرين : إما أن من اصطلاحكم المحض ، وإما أن يكون من كلام الله وأنبيائه . فإن كان من اصطلاحكم المحض فلا حاجة لنا به وألجموا أنفسكم عند كلام الله وأنبيائه . وأما إن قلتم هو من كلام الله وأنبيائه لأن المسيح أخبر أنه ابن الله ، فنقول : وكذلك أخبر المسيح عليه السلام - فيما بين أيديكم - عن غيره بأنهم أبناء الله وأن أباهم الذى فى السموات . وأنتم توافقوننا على أنه لم يقصد فى كل ذلك أن لاهوت هؤلاء هو نفس لاهوت الله . فلزم أن نفسر وصف المسيح لنفسه بأنه ابن الله بنفس هذا التفسير لا نتعداه . والمسيح عليه السلام كان يتحدث لغة قومه ، وكتب قومه التى بأيديكم تصف الكثيرين بأنهم أبناء الله ، ولم تقصد قط ولو مرة واحدة أن لاهوت أحدهم هو نفس لاهوت الله . فتبين بذلك بطلان تفسيركم لكلام المسيح من كلام المسيح نفسه ومن الكتب التى بأيديكم .
ثالثًا - أنكرتم أن يكون المسيح ابنًا لله بالتناسل الجسدى . وحصرتم الشرك فى هذا التصور فقط . وهذا جهل وخلط . فإن كل من ادعى البنوة الحقيقية لله كان مشركًا . لأن البنوة الحقيقية تستلزم اشتراك الابن مع أبيه فى جنسه كليًا أو جزئيًا. فالذين عبدوا الكواكب اعتقدوا بأنها أجزاء من ذات الله ، فكفروا بذلك ولا يشفع لهم أنهم ينكرون التناسل الجسدى . والنصارى يعتقدون ويصرحون باشتراك المسيح مع الله فى جنسه أى اللاهوت . فكفروا بذلك إذ لا شريك لله فى ألوهيته أو لاهوته كما يعبرون ، ولا يشفع لهم إنكارهم للتناسل الجسدى ؛ إذ لا نشترط لتكفيرهم أن يعتقدوا بمضاجعة ومَنىٍ من الله لمريم . سبحان الله وتعالى . وإنما يكفينا لتكفيرهم أنهم يعقتدون بأن المسيح من الله بالتجسد ، سواء كان ذلك بمضاجعة ومَنى أو كان بأن حل الله على مريم وأظلها ودخل فى بطنها وخرج من رحمها أو كان بغير ذلك من طرق الضلال . فهم كافرون من أى طريق اختاروا ، ما دامت كل الطرق تقرر فى النهاية بأن المسيح من جنس الله سبحانه وتعالى ، وأن له ألوهية من نفس ألوهية الله . لأن الله أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد .
المفضلات