فصل : أدلة عصمة الأنبياء من الصغائر و مناقشتها


الدليل الأول :
الرسل و الأنبياء هم القدوة و المبلغين عن الله و الله أمر باتباعهم والتأسي بهم قال تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [1]، و هذا شأن كل رسول ، والأمر باتباع الرسول يستلزم أن تكون اعتقاداته وأفعاله وأقواله جميعها طاعات لا محالة، لأنه لو صدر منه ذنبٌ ، لزم اجتماع الضدين . لأنه من باب يجب إطاعته لأن مقامه يقتضي هذا ، و من باب يجب عصيانه لأن ما جاء به ذنب ، و لا يمكن أن يأمر الله عبداً بشيء في حال أنه ينهاه عنه، و لو صدر منهم الذنب لما عم الأمر باتباعهم و اتباعهم عام و الاقتداء بالناسي و المخطيء محال أما الاقتداء بالمتعمد القاصد فجائز .
مناقشة الدليل :
هذا القول يكون صحيحاً، لو بقيت معصية الرسول خافية غير ظاهرة، بحيث تختلط علينا الطاعة بالمعصية، أمّا وأنّ الله ينبه رسله وأنبياؤه إلى ما وقع منهم من مخالفات ويوفقهم إلى التوبة منها، من غير تأخير فإنّ ما أوردوه لا يصلح دليلاً بل يكون التأسي بهم في هذا منصباً على الإسراع في التوبة عند وقوع المعصية، وعدم التسويف في هذا، تأسياً بالرسل والأنبياء الكرام في مبادرتهم بالتوبة من غير تأخير[2] .

الدليل الثاني :
قال تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ فجعل الله رقة القلب وحسن الخلق في النبي صلى الله عليه وسلم كي لا ينفض الناس عنه فكيف باقتراف بعض الذنوب كي لا ينفض الناس عنه ؟!!
مناقشة الدليل :
هذا الكلام يصح مع البقاء على الذنب وعدم الرجوع إلى الله بالتوبة ، وإلا؛ فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه ، وإذا وقع ذنب من الأنبياء يعاتبهم الله تعالى عليه و يغفره لهم ويأمرهم بتبليغ ذلك لأمتهم ليعرفوا الفرق بين الرب والعبد، فلا يفضي بهم الغلو بتعظيم أنبيائهم والإعجاب بفضائلهم ونزاهتهم إلى عبادتهم مع الله تعالى[3] إذ الأنبياء لا يتحولون بنبوتهم إلى آلهة و هذه هي الذنوب التي تقع منهم ويغفر لهم ولا يقرون عليها [4] .


الدليل الثالث :
يقبح عقلاً أن يبعث الله تعالى أو يوسط بينه و بين خلقه مذنب . إذن إن مدَّعي الوساطة لا بد أن يكون خالياً من كل رذيلة وذنب وكذلك كل منفِّر يجب أن يتصف به الوسيط رعاية من الله تعالى لنا ليقربنا إلى الطاعة أكثر ويبعدنا عن المعصية ،و النفس تسكن و تطمئن لمن لم تصدر منه ( المعصية ) أصلاً أكثر ممن صدرت منه سواء تاب عنها ، أم لا .
مناقشة الدليل :
غاية هذا الدليل أن التائب من الذنب يكون مذمومًا ناقصًا لا يستحق النبوة و لو صار من أعظم الناس طاعة. وهذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه. والكتاب والسنة يدلان على بطلان قولهم فيه فإنهم سلبوهم ما أعطاهم الله من الكمال وعلو الدرجات بحقيقة التوبة والاستغفار و الانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه، وكذبوا ما أخبر الله به من ذلك، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وظنوا أن انتقال الآدمي من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن الغي إلى الرشاد تنقصًا، ولم يعلموا أن هذا من أعظم نعم الله وأعظم قدرته حيث ينقل العباد من النقص إلى الكمال، وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير، كما قال عمر رضي الله عنه: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية»[5] .
الدليل الرابع :
لو صدر من الأنبياء الذنب لكانوا أسوأ حالا من عصاة الأمة إذ يضاعف لهم العذاب إذ الأعلى رتبة يستحق أشد العذاب لمقابلته أعظم النعم بالمعصية ، وإذا كان الصالحين و العلماء يستنكر عليهم فعل الذنوب و إن كانت صغائر لشدة علمهم بالله و إبصار الله بهم فكيف بالأنبياء والرسل ؟!!
مناقشة الدليل :
هذا القول فيه توهم أن الذنوب تنافي الكمال، وأنها تكون نقصاً وإن تاب التائب منها، وهذا غير صحيح، فإنّ التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إنّ العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته من معصيته خيراً منه قبل وقوع المعصية ، و ذلك لما يكون في قلبه من الندم والخوف والخشية من الله تعالى، ولما يجهد به نفسه من الاستغفار والدعاء، ولما يقوم به من صالح الأعمال، يرجو بذلك أن تمحو الصالحات السيئات، وقد قال بعض السلف: ( كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة ) ، و قال آخر : ( لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ) .
وقد ثبت في الصحاح (أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلته ناقته بأرض فلاة ، و عليها طعامه وشرابه، فنام نومة فقام فوجد راحلته فوق رأسه فقال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ) [6] .


الدليل الخامس:
لو صدر من الأنبياء الذنب لما نالوا عهده تعالى فقد قال تعالى : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ أي : واذكر-أيها النبي- حين اختبر الله إبراهيم بما شرع له من تكاليف, فأدَّاها وقام بها خير قيام. قال الله له: إني جاعلك قدوة للناس. قال إبراهيم: ربِّ اجعل بعض نسلي أئمة فضلا منك , فأجابه الله سبحانه أنه لا تحصل للظالمين الإمامةُ في الدين . فكيف ينال النبوة ظالم ، و من يقترف الصغائر من الذنوب يعتبر ظالما لظلمه نفسه باقتراف بعض الذنوب ؟!!
مناقشة الدليل :

غاية هذا الدليل أن الأنبياء إذا أصروا على ذنب لا ينالون عهد الله و الأنبياء إذا صدرت منهم صغائر فإنهم سرعان ما يتوبون إلى الله و ينيبون إليه، فتكون كأن لم تكن ، و ينالون بذلك منزلة أعلى من منزلتهم السابقة قال ابن تيمية : (( الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منها شيء أصلاً ، لكن إن قدم التوبة ؛ لم يلحقه شيء ، و إن أخر التوبة ؛ فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله و الأنبياء صلوات الله عليه وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة ، بل يسارعون إليها ، و يسابقون إليها ، لا يؤخرون و لا يصرون على الذنب ، بل هم معصومون من ذلك )) [7] .

الدليل السادس :
إذا أذنب نبي كان فاسقاً لأن الفسق الخروج عن طاعة الله و يلزم منه رد الشهادة وَ إِذا لم تقبل شَهَادَته فِي هَذِه الْأَشْيَاء الحقيرة فبأن لَا تقبل فِي إِثْبَات الْأَدْيَان الْبَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَانَ أولى وَهَذَا بَاطِل فَذَاك بَاطِل .

مناقشة الدليل :
الأنبياء معصمون من الكبائر و من الإصرار على الصغائر و من ارتكاب الصغائر المخلة بالمروءة و الفسق يحصل بارتكاب الكبيرة، أو بالإصرار على الصغيرة[8] ، و إذا صدر من نبي صغيرة فإنه سرعان ما يتوب منها و ينيب إلى الله ، فتكون المعصية كأن لم تكن و الذنب كلما استعظمه العبد كان عند الله أصغر ،و عليه فالنبي إذا اذنب لا يسمى فاسقا .

الدليل السابع :
أن النبي إذا أذنب يشمله التوهين لقوله تعالى : ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾[9] .
مناقشة الدليل :
غاية ما في الآية الذم على ترك البر و ليس الذم على الأمر بالبر مع تركه ، فإن الأمر بالمعروف معروف فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر و الصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول له: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. وقال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟[10] ، و كل بني آدم خطاء و إذا ابتلي بعض الأكابر بما يتوب منه فذلك لكمال النهاية لا لنقص البداية، كما قال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه[11] قال ابن عثيمين : أينا الذي لم يسلم من المنكر ! لو قلنا: لا ينهى عن المنكر إلا من لم يأت منكراً لم يَنهَ أحد عن منكر؛ ولو قلنا: لا يأمر أحد بمعروف إلا من أتى المعروف لم يأمر أحد بمعروف؛ ولهذا نقول: مُرْ بالمعروف، وجاهد نفسك على فعله، وانْهَ عن المنكر، وجاهد نفسك على تركه [12] ، و النبي ليس ممن يأمر بالمعروف و لا يفعله و ينهى عن المنكر و يفعله مادام يستغفر و لا يصر على فعل الذنب ، و أسوأ ما يكون منه هو خطأ في اجتهاد أو شيء دفعت إليه الجبلة الإنسانية ، لولاه لكان الإنسان ملكاً و لا يقر على الذنب ، و لا يؤخر التوبة ، فالله عصمه من ذلك وتصير حالته بعد التوبة من الذنب أحسن منها قبله .


الدليل الثامن :
لو صدر عن الأنبياء الذنب لكانوا غير مخلصين ؛ لأن فعل الذنوب يكون بإغواء الشيطان و الشيطان لا يغوي المخلصين لقوله تعالى : ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ و اللازم باطل و بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم .
مناقشة الدليل :
الأنبياء لا يضلون عن سبيل الحق و لا يفتتون بزينة الدنيا فهم ممن استثناهم الشيطان من الغواية و ليس معنى الآية أن من يقترف ذنب لا يكون من المخلصين و إنما معناها أن من ضل عن الهدى وفتن بالدنيا و اتبع الشيطان و ظل في ضلاله ليس من المخلصين فهذه الآية في حق من يقترف الذنب و يصر عليه و لا يتوب منه جمعا بينها و بين قوله تعالى : ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾[13] ولو فرضنا وقوع نبي في ذنب فإنه يتدارك ما وقع منه بالتوبة، والإخلاص، حتى ينال بذلك أعلى درجاته فتكون بذلك درجاته أعلى من درجة من لم يرتكب شيئا من ذلك. ومما يوضح هذا قوله تعالى: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه، واجتبائه أي: اصطفائه إياه، وهدايته له، ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة[14] .

الدليل التاسع :
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : ( بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين الأربعة الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي وعيينة بن بدر الفزاري وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب فغضبت قريش والأنصار قالوا يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا قال إنما أتألفهم فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق فقال اتق الله يا محمد فقال : من يطع الله إذا عصيت أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني فسأله رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد فمنعه فلما ولي قال إن من ضئضئ هذا أو في عقب هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد )[15] .

مناقشة الدليل :
ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعصي الله مطلقا و لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه لا يعصي الله مطلقا بل الثابت أنه كان يكثر من الاستغفار و التوبة و الاستغفار و التوبة لا تكون إلا من ذنب حقيقي لذا يجب أن ننزل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يطع الله إذا عصيت ) على سبب هذا الحديث وهو طعن الرجل في عدالة قسمة النبي صلى الله عليه وسلم و في تقواه إذ قال الرجل مغضبا اتق الله يا محمد أي اعدل و لا تظلم و هذه كلمة في غاية الشناعة في حق النبي صلى الله عليه وسلم خير البرية المؤتمن على وحي الله ، وتبليغ رسالاته، وبيان شرعه، وحلاله وحرامه الأنبياء أيغرّه شيء من متاع الدنيا الزائل فينقض عهده مع ربه ويجرح أمانته، ويخالف رسالته، و الأنبياء منزهون عن الجور و الظلم و الفجور لذلك كان لتلك الكلمات الجائرة صدى عنيفاً على سمع الصحابة فأشعلت فتيل الغضب في نفوسهم، وتبادروا لقتله فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن منعهم من ذلك، واكتفى بالتأنيب والعتاب المؤثر فقال : من يطع الله إذا عصيت أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنونني .


[1] - سورة الأحزاب الآية 21
[2]- الرسل والرسالات لعمر سليمان الأشقر ص 110
[3] - مجلة المنار 5/ 49
[4] - منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة لتامر محمد محمود متولي ص 712
[5] - آل رسول الله وأولياؤه لمحمد عبد الرحمن قاسم 35
[6]- الرسل والرسالات لعمر سليمان الأشقر ص 110
[7] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/309
[8] - دستور العلماء للقاضي عبد النبي بن عبد الرسول 3/243 ، معجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعجي ص 346 ، القاموس الفقهي الدكتور سعدي أبو حبيب ص 286 ، تفسير الألوسي 1/210
[9] - البقرة الآية 44
[10] - انظر تفسير ابن كثير 1/247
[11] - التوضيح عن توحيد الخلاق لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 341
[12] - تفسير الفاتحة والبقرة لابن عثيمين 1/159
[13] - البقرة من الآية 222
[14] - انظر أضواء البيان 4/119
[15] - رواه البخاري