

-
والآن تعالوا إلى النصين فى الكتاب المقدس ليرى القارئ بنفسه مدى خيانة هذا الراهب وتدليسه، ونبدأ بالنص الأول الخاص بانشقاق البحر والتئامه، وهو موجود فى الإصحاح الرابع عشر من سفر "الخروج" لا الرابع كما جاء فى الحدوتة التافهة: "21وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ. 22فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. 23وَتَبِعَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ وَدَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ إِلَى وَسَطِ الْبَحْرِ. 24وَكَانَ فِي هَزِيعِ الصُّبْحِ أَنَّ الرَّبَّ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ، وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ، 25وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ حَتَّى سَاقُوهَا بِثَقْلَةٍ. فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: «نَهْرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ». 26فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ لِيَرْجعَ الْمَاءُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، عَلَى مَرْكَبَاتِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ». 27فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ، وَالْمِصْرِيُّونَ هَارِبُونَ إِلَى لِقَائِهِ. فَدَفَعَ الرَّبُّ الْمِصْرِيِّينَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ. 28فَرَجَعَ الْمَاءُ وَغَطَّى مَرْكَبَاتِ وَفُرْسَانَ جَمِيعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ الَّذِي دَخَلَ وَرَاءَهُمْ فِي الْبَحْرِ. لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ وَلاَ وَاحِدٌ. 29وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَشَوْا عَلَى الْيَابِسَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ". وكما يلاحظ القارئ بنفسه لا وجود لما افتراه الكذاب على أى نحو، فليس فى النص ذكر لطول أو عرض. وإلى القارئ مرة أخرى ما قيل فى انشقاق البحر والتئامه: "وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ"، "فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ".
ثم نثنى بالنص الثانى الخاص بالحيات والرمح: "6فَأَرْسَلَ الرَّبُّ عَلَى الشَّعْبِ الْحَيَّاتِ الْمُحْرِقَةَ، فَلَدَغَتِ الشَّعْبَ، فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ. 7فَأَتَى الشَّعْبُ إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: «قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَيْكَ، فَصَلِّ إِلَى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا الْحَيَّاتِ». فَصَلَّى مُوسَى لأَجْلِ الشَّعْبِ. 8فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا». 9فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى الرَّايَةِ، فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَانًا وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا". هيه؟ ترى أين الطول والعرض فى هذا الكلام؟ أرأيت أيها القارئ بنفسك وعاينت ببصرك مقدار الكذب الذى يمارسه هذا الكائن وأمثاله بدم بارد وضمير ميت؟ أرأيت كيف مردوا على التزييف حتى استحال جزءا من كيانهم لا يستطيعون أن يدعوه حتى تدع أرواحهم أجسادهم؟ ثم إذا قلنا إنهم قد حرفوا كتابهم ردوا بكل بجاحة: أبدا لم يحدث! يا كذاب فى أصل وجهك أنت وهو وهو، ها أنتم أولاء لا تزالون تحرفون كتابكم وتدّعون عليه ما ليس فيه، وكذلك كتابنا نحن أيضا، فهل هناك دليل أقوى من هذا الدليل؟ ثم لو سلمنا بما قاله الأنبا المقروح الدبر، فأين الصليب يا ترى فى أن يضع موسى الحية مرة بالطول، ومرة بالعرض؟ إن صورة الصليب إنما تتم بتعامد الحيتين فى ذات الوقت. وأين الصليب فى أن يخطّ عليه السلام بعصاه على الماء مرة بالعرض فينشق البحر، وبعد مرور مدة يكون موضوع الخط العرضى أثناءها قد نُسِى تماما يخطّ بها مرة أخرى بالطول فيلتئم ثانية؟ إن الصليب معناه أن يكون هناك خطان مستقيمان متعامدان لا أن يكون عندنا خط عرضى، ثم بعد قليل نشطبه ونرسم بدلا منه خطا بالطول. أليس كذلك يا مغفل منك له؟ وحتى لو كان الكلام الذى زعمه هذا الخنزير عن الصليب فى هاتين القصتين صحيحا، فكيف فاته أن الصليب دليل على أن من مات عليه فهو ملعون من الله كما قال الكتاب المقدس نفسه؟ جاء فى سفر "التثنية" (21/ 23): "وإذا كان على إنسان خطيّةٌ حقُّها الموت، فقُتِل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلّق ملعون من الله". ترى هل من الممكن أن تتحول اللعنة إلى بركة؟
ونضحك كثيرا حينما نسمع الراهب يسأل الشيخ المسلم عن الدين الذى يعده حقا بين الأديان الأربعة: الإسلام أم النصرانية أم اليهودية أم الصابئة؟ فيرد الشيخ قائلا: "ما أعلم"! ترى هل هذا ممكن الحدوث، وبخاصة بعد أن كان الشيخ لتوه ينافح عن دينه ويؤكد أنه هو وحده الدين الصحيح؟ وها هما ذانِ سؤال الراهب وإجابة الشيخ عليه: "قال الراهب: صدقتَ في قولك إن كلّ ذي دين يحقّق دينه ويحامي عنه. والأديان أربعة: صابئ ويهودي ومسلم ونصراني، فأيّ منها عندك الدين الحقّ الموضوع من الله؟ قال المسلم: ما أعلم". وكان الشيخ المسلم قبل ذلك قد أكد، كما قلت، أن الإسلام هو ذلك الدين الحق لا سواه: "قال المسلم: السما والأرض والملائكة والناس يشهدون أن ديني وكتابي هو الحق اليقين. وإن الله تعالى أنزله على نبيه محمّد المصطفى نورا وهدى ورحمة من ربّ العالمين". كيف يكون ذلك؟ العلم عند دبر الراهب الفواح، بما يخرج منه من جهلٍ مضمَّخ بالأرياح! ثم نصل إلى قضية المفاضلة العقلية بين الديانتين، وأنا أميل إلى تأجيل الحديث فى هذا الموضوع إلى مقال آخر لأن المقال الحالى قد طال كثيرا، ولأن تلك القضية هى من الأهمية بحيث تحتاج إلى إفرادها ببحث مستقل كان فى نيتى قبل أن أقرأ تلك الحدوتة البلهاء أن أخصص له مقالا مستقلا. لذلك أستميح القراء عذرا إلى فرصة أخرى أرجو أن أعيش حتى أدركها، وعلى الله قصد السبيل. وأخيرا فليست هذه الحدوتة هى المساجلة الوحيدة المزيفة من نوعها، فقد صنع السريان مثلا مساجلة أخرى بين شخصين وهميين هما عبد الله إسماعيل الهاشمى وعبد المسيح بن إسحاق الكندى، وزعموا أنها وقعت فى عصر المأمون (انظر د. محمد أبو شامة فى مقدمة الكتاب الذى حققه لأبى عبيدة الخزرجى باسم "بين الإسلام والمسيحية"/ مكتبة وهبة/ 43 بالهامش).
ولا يرضى الكاتب الكذاب أن تنتهى الحدوتة دون كذبة تليق بالمقام، فجاءت نهايتها على النحو التالى: "قال المسلم: لقد علم الله تعالى أنك قد أزعجت فكرنا وزعزعت لُبَّنا بما أحسنت في الخطاب وإيراد الجواب، فلم يبقَ بنا عندك سؤال. ولله درّك، فقد أفخرت أهل دينك وجملت أوطانك وزيّنت أخوانك، ولولا نحن على سفر لسألناك في المقام عندنا رغبة بقربك إلينا وصرّفناك فيما يخصنا من مال ودار.
قال الراهب: جزاك الله عنّا خيرا وإنعاما. لقد قابلتمونا بالإحسان، وإن كنّا أسأنا في الخطاب وأغلظنا في الجواب (انظروا إلى أدب المنكوح الذى نزل على استه فجأة!)، فهذا من شيمة أهل الأدب والأحساب والأنساب، فإلى أين السفر؟
قال أبو ضاهر: إلى مكة أنا والشيخ أبو سلامة نزور البيت الحرام.
قال الراهب: يوحشني بعدكم ويثقل عليَّ فراقكم، فقد كنتُ آنستُ بكم.
قال أبو ضاهر: يا ليتك أن تصحبنا فنأنس بك وتأنس بنا.
قال الراهب: إن رضيتم بصحبتي صحبتكم وساويت ذاتي بكم.
فهللا وكبّرا.
قال أبو ضاهر: وربّ الحج إن صحبتني كفيتك كلفة ما تحتاج إليه من ركوب وماء وزاد فتشرح صدرك وتطيب نفسك وتقرّ عينك وتعزّ عليك ذاتك فأفرج عنك من عيشتك القشفة وحياتك المتعبة وأريك ما لم تَرَه بنظرك من الآيات والمعجزات.
قال الراهب: فقل لي يا أبا ضاهر بحق دينك ماذا تريني بمكة من الآيات؟
قال المسلم: أنا، يا راهب، قد حجيت إلى مكة مرتين، وهذه الثالثة، ولستُ أنا جاهلا بها، بل خبير بما فيها.
قال الراهب: فقد زدتني رغبة فيك وقربا إليك، فصف لي ما هناك وما نراه أولا وأخيرا.
قال المسلم: أول ما أريك من المطربات أنني أجيزك الحجاز وأريك الحجازيات اللاتي تشوق إليهن الصفاة، وتسرّ بهنّ النفوس، ويليق بهنّ الملبوس. لطاف نظاف، ملاح ظراف، كأنهنّ حور العين، في جنّة الصالحين.
قال الراهب: فهل نجد عندهم مقاما؟
قال المسلم: مهما شئت.
قال الراهب هازئا به، وذاك لا يعلم بمراده: وماذا تريني بعد الحجازيات؟
قال المسلم: وترى، يا راهب، الحج يجتمع في مِنى في صباح ذلك اليوم، وترى فإذا الحج طوائف يسيرون ويصفقون بالكفوف ويضربون بالدفوف ويقولون: يا صباح البركات، من مِنى إلى عرفات!
قال الراهب: ومن عرفات إلى أين؟
قال المسلم: إلى مكّة.
قال الراهب: وماذا تريني بمكّة؟
قال المسلم: أريك الحجر الأسود وبثر زمزم والعروة الوثقى والكوز الأخضر والكعبة وظهر الجمل وقبر الحسن والحسين".
فانظر، أيها القارئ، مدى الضلال الذى يتصف به الجامد الوجه الذى لا يعرف الحياء ولا الصدق وأمانة القول! أهناك بالله عليك مسلم (بَلْهَ أن أن يكون ذلك المسلم عالما، بل إماما من أئمة المسلمين شديد التعصب لدينه يجادل عنه أعنف جدال، لا واحدا من عوام الناس) يقول إنه يذهب للحج كى يستمتع بمرأى النساء هناك، فضلا عن أن يشتغل قوّادا على المسلمات العفيفات لنصرانى كافر؟ وأى نصرانى؟ نصرانى يقول له إنه ليس له أَرَبٌ فى النساء، فهو راهب منفوخ، ودبره مشروخ! ومنذ متى كانت للحجازيات هذه الشهرة بين النساء؟ بل منذ متى كان الكفار يذهبون إلى مكة حتى يعرض الشيخ المسلم على الراهب اصطحابه إلى هناك؟ بل منذ متى كان المهزوم يأنس بهازمه على هذا النحو ويعمل على إكرامه وتبجيله؟ إنه نفس الكلام الذى يقوله الخُطْل فى حكاياتهم الكذابة مثلهم عن انصراف الحجاج الرجال أثناء الطواف حول الكعبة، الذى هو فى الواقع كيوم الحشر عسرا وإذهالا، إلى الاحتكاك بالنساء ومغازلتهن وأخذ المواعيد الغرامية منهن. الواقع أنه لا فرق بين منكوح متقدم منهم أو متأخر، فكلهم ذوو أدبار وعقول مدوّدة منتنة! ولا يكتفى الراهب المنفوخ ذو الدبر المشروخ بأن قد فضحه الله هذه الفضيحة المخزية، بل يضيف لها فضيحة أخرى أشد إخزاءً، إذ يزعم أن الشيخ المسلم قد وعده أيضا أن يريه فى تلك الرحلة قبر الحسن والحسين فى مكة مع الكعبة والكوز الأخضر. فهل قبرا الحسن والحسين فى مكة؟ وأين يا ترى يوجد الكوز الأخضر هذا؟ وما وظيفته؟ كذلك فالمسلمون لا يقولون: "حُور العين" ولا "بيت الحرام" كما جاء على لسان الشيخ فى الحدوتة المتخلفة تخلف عقول أصحابها، بل "الحور العين" و"البيت الحرام". ليس ذلك فقط، بل اقتضت مشيئة الله أن يزداد هذا الوثنىّ ارتكاسا فى حمأة الفضائح، فنراه يزعم على لسان الشيخ أن الحُجّاج ينطلقون من منى إلى عرفات، عاكسا بجهله الفاضح اتجاه سير الحجيج، لأن الوقوف بعرفات إنما يأتى قبل المبيت بمنى كما هو معروف. وفضلا عن ذلك فإن الحجاج لا ينطلقون من عرفات إلى منى مباشرة، بل يذهبون أولا بعد الغروب إلى المزدلفة حيث يصلّون المغرب والعشاء جَمْعًا ويبيتون، ثم يواصلون رحلتهم من هناك إلى منى. وهذا الخطأ الأبله مما لا يمكن أن يقع فيه مسلم عادى، فما بالك بشيخ من أئمة المسلمين سبق له الحج قبل هذا مرتين كما جاء فى الحدوتة؟ وعليه فالسخف الذى يقوله عن الغناء وضرب الدف والتصفيق بالكف وما إلى ذلك لا منبع له إلا من دبره المشروم شرما واسعا سمح لهذه الخزعبلات أن تمر منه إلى الخارج بسهولة وأن يقول أيضا إن الأمير العالم قد أمن على كلامه وأبدى إعجابه بردوده المفحمة ولم ير فيها شيئا ينبغى تصويبه: "أجدتَ، يا راهب، في كلامك وأحسنت في جوابك وأبلغت في خطابك وزيّنت وطنك ودينك. ومثلك يجب، والله، أن يكون إمام النصارى ومقدَّمهم ومن يخاطَب في الدين عنهم. فسَلْنا ما شئتَ، فعندنا ما تحب"! كان الكلام يدخل العقل لو أنه قال له: "سلنا ما شئت، فعندنا لدبرك المنتن غراميل على كيفك"! أمّا وإنه لم يقل له ذلك فالراهب وكاتبه كاذبان مأبونان! وفوق هذا فالحدوتة المتخلفة تزعم أن الأمير قال للأنبا: "زينت وطنك..."، وكأنه كان للأنبا وطن آخر غير المملكة الأيوبية المسلمة! أرأيت، أيها القارئ، كيف يسقط كاتب الحدوتة سقطة مخزية مدوية فى كل خطوة ينقل فيها قدمه التى تستحق البتر! ثم إن الكاتب الحقود، بعد ذلك كله، يأبى إلا أن يخِز المسلمين وخزة سامة، فيقول إن الراهب كان يسخر من أبو ظاهر وهو من بلادة عقله لا يدرى. الواقع أن البليد العقل ليس شخصا آخر سواه هو وراهبه. إنهما يحقدان على الإسلام أن أَضْرَعَهما إلى الأرض وهزم دينهما شر هزيمة، فهما ينفّسان بهذه الطريقة الرخيصة عن ضغائنهما، وليس على التنفيس عن الأحقاد والأضغان من ضريبة تُدْفَع، فلينفِّسا عن المرارة التى فى قلبهما وحلقهما ما شاء لهما التنفيس! وهذا كل ما عندهما، فلا عقل ولا منطق ولا برهان ولا حتى خفة ظل.
وبعد، فما دام الكلام قصصا وحواديت فإنى أسوق هذه القصة من كتاب "الديارات" لأبى الفرج الصفهانى، وهى قصة ممتعة، وإن كنت لا أظنها صحيحة لما فيها من بعض الحوادث التى هى إلى الأساطير أدنى منها إلى الوقائع الحقيقية. ونحن نسوقها هنا كى يرى الآخرون أننا لا نصدق كل ما نقرؤه حتى لو كان موجودا فى تراثنا، إذ إن لنا عقلا نفكر به ونزن الأمور ولا نندفع مع تيار التعصب والسلام ولا نريد لأمتنا أن تردد ما تقرأ أو تسمع كبعض الأمم الأخرى التى لا يقوم دينها إلا على الخرافات والشعبذات والخزعبلات. وقد وردت تلك القصة الممتعة أثناء كلام الأصفهانى عن "دير الأنوار": "حدث أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال خرجت من الأنبار في بعض أسفاري إلى عمّورية من بلاد الروم، فنزلت في بعض الطريق بدير يقال له دير الأنوار بقرية قريبة من عمورية فخرج إليَّ صاحب الدير المقدم على الرهبان به، وكان اسمه عبد المسيح فأدخلني الدير فوجدت فيه أربعين راهبا فأكرموني تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت عنهم من الغدّ، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أره قط من غيرهم، فقضيت غرضي من عمّورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان العام المقبل حججت، فبينما أنا أطوف حول البيت الشريف إذ رأيت عبد المسيح الراهب يطوف أيضا ومعه خمسة نفر من أصحابه الرهبان، فلما أثبت معرفته تقدمت إليه، وقلت له: أنت عبد المسيح الراهب؟
قال: بل أنا عبد الله، الراغب في عفو الله.
فجعلت أقبل شيبته وأبكي، ثم أخذت بيده، وملت إلى جانب الحرم. وقلت له: بحق من هداك، ألا أخبرتني عن سبب إسلامك؟
فقال: لقد كان عجبا! وذلك أن جماعة من زهاد المسلمين وعبادهم مروا بالقرية التي فيها فأرسلوا شاباً منهم يشتري لهم طعاما فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز وهي من أحسن النساء، وأجملهن صورة، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط لوجهه، مغشياً عليه، فلما أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه وقال لهم:
امضوا لشأنكم، فلست بذاهب معكم. فعذلوه ووعظوه فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا وتركوه، فدخل القرية وجلس على باب حانوت تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعاما وهو شاخص إلى وجهها. فلما رأته لا ينصرف عنها ذهبت إلى أهلها وجيرانها فأخبرتهم، فأطلقوا عليه الصبيان يرجمونه بالحجارة، فرجموه حتى رضخوا رأسه وهشموا وجهه وأدموا أضلاعه، وهو مع ذلك لا ينصرف. فعزم أهل القرية على قتله فجاءني رجل منهم وأخبرني بحاله، فخرجت إليه فرأيته طريحا، فمسحت الدم عن وجهه وحملته إلى الدير وداويت جراحه، فأقام عندي أربعة عشر يوما. فلما قدر على المشي خرج من الدير وأتى باب حانوت المرأة وجلس ينظر إليها. فلما أبصرته قامت إليه وقالت له:
والله قد رحمتك، فهل لك أن تدخل في ديني حتى أتزوجك؟
فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد وأدخل في دين الشرك.
فقالت: قم وادخل معي داري واقض مني أربك، وانصرف راشدا.
فقال: ما كنت بالذي أُذْهِب عبادة اثنتي عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة!
فقال: انصرف عني حينئذ.
قال: لا يطاوعني قلبي. فأعرضت عنه بوجهها، ففطن له الصبيان فأقبلوا عليه يرجمونه بالحجارة، فسقط على وجهه وهو يقول:
إنّ وَلِيِّيَ اللهُ الذي نزَّل الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين. فخرجتُ من الدير وأتيته فطردت عنه الصبيان ورفعت رأسه من الأرض فسمعته يقول:
اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة. فحملته إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية وحفرت له قبرا ودفنته، فلما دخل الليل وذهب نصفه صرخت تلك المرأة في فراشها صرخة عظيمة، فاجتمع إليها أهل القرية وسألوها عن قصتها فقالت:
بينما أنا نائمة إذ دخل علي ذلك الرجل المسلم فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى الجنة، فلما صار بي إلى بابها منعني خازنها من الدخول إليها، وقال إنها محرمة على الكافرين فأسلمت على يده، ودخلت معه الجنة، فرأيت فيها من القصور والأشجار ما لا أُحسن وصفه لكم. ثم إنه أخذني إلى قصر من الجوهر وقال: هذا القصر لي ولك، وأنا لا أدخله إلا بك، وإلى خمس ليال تكونين عندي فيه إن شاء الله تعالى. ثم مد يده إلى شجرة على باب القصرفقطف منها تفاحتين وقال: كلي هذه الواحدة، وأخبي الأخرى حتى يراها الرهبان. فأكلت التفاحة، فلم أر أطيب منها، ثم إنه أخذ بيدي وأخرجني حتى وصلت إلى داري. ثم إنها أخرجت التفاحة من جيبها فأشرقت في ظلمة الليل كأنها كوكب دُرِّيّ. فجاءوا بالمرأة إلينا إلى الدير ومعها التفاحة فلم نر شيئا مثلها من فواكه الجنة، فأخذت السكين وشققتها على عدد أصحابي فما رأينا ألذّ من طعمها ولا أطيب من ريحها، فقلنا: لعل شيطانا تمثل لها ليغويها عن دينها. فأخذها أهلها وانصرفوا، ثم إنها امتنعت من الأكل والشرب، فلما كانت الليلة الخامسة قامت من فراشها وخرجت من بيتها حتى أتت قبره، فألقت نفسها عليه وماتت، ولم يعلم بها أحد من أهلها. فلما كان وقت الصباح أقبل على القرية شيخان مسلمان عليهما ثياب من الشعر، ومعهما امرأتان كذلك، فقالا: إن لله عندكم ولية من أوليائه قد ماتت مسلمة، ونحن نتولاها دونكم. فطلب أهل القرية تلك المرأة فوجدوها على القبر ميتة، فقالوا:
هذه صاحبتنا ماتت على ديننا، ونحن نتولاها.
واشتد الخصام والتنازع بينهم، فقال أحد الشيخين: إن علامة إسلامها أن يُجْمَع رهبان الدير الأربعون ويجذبوها عن القبر، فإن جاءت معهم فهي نصرانية. ويتقدم منا واحد ويجذبها، فإن انجذبت معه فهي مسلمة. فرضي أهل القرية بذلك، فجُمِعَت رهبان الدير الأربعون وأتيناها لنحملها فلم نقدر على حملها، فربطنا في وسطها حبلاً غليظًا، وجذبها الرهبان الأربعون أجمعون، فانقطع الحبل، ولم تتحرك. فتقدم أهل القرية وفعلوا كذلك، فلم تتحرك من موضعها. فلما عجزنا عن حملها بكل الحِيَل قلنا لأحد الشيخين: تقدم أنت واحملها. فتقدم إليها وجذبها بردائه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حملها في حضنه وانصرف بها إلى غار هناك فوضعها فيه، وجاءت المرأتان فغسلتاها وكفنتاها. ثم حملها الشيخان وصليا عليها ودفناها إلى قبر ذلك الزاهد، وانصرفنا ونحن نشاهد هذا كله. فلما خلا بعضنا إلى بعض قلنا: إن الحق أحق أن يتبع، وقد وضح لنا الحق بالمشاهدة والعيان، ولا برهان على صحة دين الإسلام أوضح لنا مما رأيناه. ثم أسلمت أنا وأسلم رهبان الدير "الأربعون" وجميع أهل القرية، ثم إنّا بعثنا إلى بلد "الجزيرة" نستدعي فقيها عالما يعلمنا شرائع الإسلام وأحكام الدين، فجاءنا رجل فقيه صالح فعلَّمَنا وجه العبادة وأحكام الإسلام، ونحن اليوم على خير كثير، فلله الحمد والمنة على ذلك".
مرة أخرى أقول: هذه القصة لا تدخل عقلى رغم أنها تنحاز لدينى، ذلك أن الانحياز للإسلام ليس قيمة فى حد ذاته، بل لا بد أن يكون انحيازا عاقلا حصيفا يجرى على شروط هذا الدين القوى العظيم، وأولها شرط العقل والمنطق والعدل والاعتدال. وهذا ما يميز ديننا، فلا خرافات مضحكة ولا تشنجات غبية ولا تعصبات بالباطل، بل سعة صدر للآخر وتفهم لما يعتز به مهما كانت مخالفته لما عندنا، على ألا يتجاوز هذا الآخر حدوده فيشتمنا ويُقِلّ أدبه على ديننا ورسولنا وقرآننا وتاريخنا ويطلق الشائعات الخبيثة التى تدعى أننا غرباء عن هذا الوطن وينبغى أن نعود من حيث أتينا. وللتدليل مجددا على هذا الكلام أسوق ما قاله د. محمد سليم العوا فى حوار منشور فى بريد الياهو نقلا عن إحدى الصحف أو المجلات، فقد سئل: "بماذا تنصح النظام بحكومته وحزبه ومؤسساته في كيفية التعامل مع ملف الأقباط؟"، وكانت إجابته على النحو التالى: "أول ما ينصح به في هذا الملف هو الصراحة والصدق. نحن نتكلم في ملف الأقباط بكذب أو إخفاء الحقائق. لدينا مثلا مجلة تصدرها كنيسة في عزبة النخل بالقاهرة اسمها «الكتيبة الطِّيبيّة» وهذا الاسم له مدلول تاريخي، ففي القرون الأولي للمسيحية كانت توجد «الكتيبة الطِّيبيّة» للدفاع عن المسيحية ضد الوثنيين الذين كانوا يحاربون المسيحية، وهذه المجلة شعارها أنها تعود بالهوية المصرية إلي الهوية القبطية: «لسنا عربا ولم نأت من جزيرة العرب». وهذا بالضبط مكتوب في أعدادها، كما أن المقالات الموجودة فيها كلها سخرية بالقرآن والإسلام والمسلمين، وإهانة للوطن نفسه، فيها قصائد تحمل كل هذه المساخر. ولما تحدث مسؤولون للبابا شنودة في أمرها، كان الرد أن البابا أصبح يكتب كل شهر مقالا علي غلافها".
ولتأكيد ما قاله د. العوا أُورِد هنا ما كتبه عزت أندراوس فى موسوعته: "موسوعة تاريخ أقباط مصر" المشباكية تحت عنوان "الكتيبة القبطية" نقلا عن تحقيق منشور بمجلة روز إليوسف (فى 20/12/2005م) عنوانه: "المصريون من أصل عربى ضيوف. واللى موش عاجبه يمشى". وقد ذهب مُعِدّ التحقيق أحمد الباشا إلى رئيس تحرير المجلة المذكورة، وهو القس فيلوباتير جميل، لإجراء حوار معه بخصوص تلك المجلة، وإلى القارئ بعض أسئلة التحقيق وأجوبته:
"س: لكنكم تتحدثون عن العرب الغزاة بأنهم أصحاب الفتح الإسلامى لمصر، وهم الذين أنقذوا الأقباط من الاضطهاد الرومانى.
ج: العرب الغزاة لا علاقة لهم بالعرب المسلمين. إذا كان هناك مصريون من أصل عربى الآن فأهلا بهم فهم ضيوف علينا، ومن لم يعجبه ذلك يرجع إلى بلاده وأصوله إذا قبلوه!
س: لكنى أختلف معك، فعدد كبير من المصريين سواء مسيحيين أو مسلمين لهم أصول عربية، فكثير من المسلمين لهم أصول مصرية!
س: هذا كلام شكله حلو، لكنه غير صحيح.
ج: فهل تقنعنى أن ثمانية آلاف عربى مسلم جاءوا مع عمرو بن العاص وأحد الخلفاء بعد ذلك هم جذور 72 مليون مصرى وقاموا بخلط الأنساب، نحن نرفض أن يفرضوا علينا ذلك كما هو الحال فى اسم البلد فنحن «جمهورية مصر العربية»، من أين جاء لفظ «عربية»؟
س: قلتم أن لكم مطالب من العرب أو ممن أصولهم عربية من المصريين!
ج: نحن نطالبهم بتقديم وثيقة اعتذار فى حق المصريين لما فعلوه بنا إبان الفتح الإسلامى كما اعتذر الألمان لليهود عن «الهولوكوست»!
...
س: من هم أشهر كتاب الكتيبة الطِّيبيّة؟
ج: قداسة البابا شنودة والأنبا بيشوى والأنبا مرقص والأنبا بسنتى والقمص مرقص عزيز والقس فلوباتير جميل وغيرهم!!؟ أليس هذا دليلا على علاقتها بالكنيسة وأن هناك سقف حماية لها؟".
يقول القس ذلك، قافزا على الحقائق التاريخية التى سأستقيها من كتابٍ ألفه نصرانى شديد التعصب يدعو بذات دعوة القس، ونَشَر كتابه فى موقع القس، وطبعته له (عام 2001م) الكتيبة الطِّيبيّة التى أنشأها القس، وهو كتاب "محنة الهوية المصرية" للدكتور كمال فريد إسحاق صديق القس، إذ جاء فى الصفحة السادسة منه أن عدد المصريين عند مجىء الحملة الفرنسية كان مليونين ونصف المليون، على حين أن عدد الأقباط فى ذلك التاريخ (كما هو مذكور فى ص 28) كان مائة وخمسين ألفا. ومعنى ذلك أن نسبتهم حسب إحصاء الفرنسيين هى 6%، وهذه هى الحقيقة التى لا يمكن أن يجادل أحد فيها: أولا لأن هذا الإحصاء السكانى هو من عمل الفرنسيين النصارى لا المسلمين، وثانيا لأن هذين الرقمين قد وردا فى كتاب نشرته مجلة الكتيبة الطِّيبيّة المتعصبة تعصبا ساما، وكتبه مؤلف نصرانى لا يقل عن المجلة تعصبا، إن لم يزد. وهذه النسبة تتطابق مع تلك التى ذكرها أبو إسلام أحمد عبد الله فى مقال له بعنوان "أقباط مصر مسلمون لا نصارى، وإليكم الأدلة"، وذلك بموقعه المشباكى: "بلدى"، إذ قال إن عدد "المسلمين المؤمنين بإله واحد، وكتاب واحد، وسُنَّة نبوية واحدة" (على حد تعبيره) هو سبعة وستون مليونا، أما عدد النصارى فــ"أربعة ملايين نصرانى على أفضل تقدير، بنسبة 87, 5% تقريبا من إجمالي السكان ، وينقسمون فيما بينهم إلى ما لا يقل عن أربعين ملة عقَدية في مصر وحدها" حسب قوله! ومع ذلك كله فنحن نفتح قلوبنا لمن يحترمنا، بل نحترمه أكثر مما يحترمنا. نقولها صدقا لا نفاقا لأن هذه هى مبادئ ديننا التى تعلمناها فى المدارس وفى البيوت وفى الكتب، أما من يتجاوز حجمه فليس له عندنا إلا ما يعرفه القمص المنكوح. إن ديننا غال جدا جدا علينا، ونحن نعرف عبقرية هذا الدين وعبقرية الرسول العظيم الذى اختاره الله لحمل رسالته العالمية الأبدية ونقدّرها التقدير الذى تستحقه، وهو تقدير ضخم هائل، ولايمكن أبدا أن نتسامح مع من يسىء إلى النبى عليه الصلاة والسلام. ولا يَغُرَّنّ هؤلاء الضعفُ الطارئ الذى ألم بالمسلمين، فدوام الحال من المحال. وتوتة توتة، فرغت الحدوتة!
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 26-02-2008, 12:39 AM
-
بواسطة دفاع في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 17-01-2008, 09:58 PM
-
بواسطة طالب علم1 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 12-02-2007, 02:10 AM
-
بواسطة lelyan في المنتدى الإعجاز العلمي فى القرأن الكريم والسنة النبوية
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 24-11-2006, 11:51 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات