أما إشارة الأنبا المضحكة إلى مسألة زينب بنت عمة الرسول عليها رضوان الله وقوله إنه عليه الصلاة والسلام "هام بامرأة زيد مولاه سابقا لمّا نظر إليها، وأخذها منه كُرها وزعم أنّ الله قد أزوجه بها دون زيد، وخاطب بها صحابته قائلا: "ولما قضى زيد منها وطرا أزوجناك بها يا محمد"، وزعم أن هذا وحي من الله أُنزل عليه في امرأة زيد. ولما خاطب بذلك صحابته قالوا: خذ يا رسول الله ما أنعم به عليك وحلّله لك وحرّمه على غيرك"، فملخص القصة (بعيدا عن كذب الأنبا المزعوم وجهله بالآيات القرآنية، أو تحريفها بالأحرى كما فعل قومه مع كتابهم المقدس من قبل) أنه عليه السلام كان قد خطبها لزيدٍ عبده السابق ومتبَنَّاه اللاحق رغم كراهيتها هى وأخيها لذلك، إذ كانت من ذؤابة قريش وبنت عمة الرسول، أما زيد فمجرد عبد عتيق لابن خالها محمد. ومع هذا فقد التزمت بما نزل فى القرآن من وجوب الانصياع لمثل هذا القرار وتزوجته، إلا أن الأيام لم تفلح فى تلطيف مشاعرها تجاه زوجها وظلت الأمور بينهما متوترة. وفى يوم من الأيام فكر زيد فى تطليقها كى يضع حدا لهذا التوتر، وفاتح الرسول بهذا، لكنه عليه السلام راجعه وطلب منه الصبر. وفى النهاية طلقها زيد وتزوجها الرسول عليه السلام حين نزل القرآن بذلك كى يعرف الناس أن التبنى لا يعطى للابن غير الحقيقى فى مسائل الزواج أو النسب وضع الابن الحقيقى أبدا. وكان زيد رضى الله عنه هو الذى خطبها بدوره لرسول الله، وهو ما يدل على أنه لم يكن فى الأمر ما يثير شكوكه أو حنقه. هذه هى المسألة باختصار، فلم الطنطنة والتشهير؟ هل طمع فيها الرسول وتآمر على تطليقها من زوجها؟ أبدا، فقد رأيناه يراجعه ويأمره بالصبر. هل انتهز فرصة غيابه عن البيت ودخل على زوجته ليستمتع ولو بتبادل الحديث معها والتغزل فى محاسنها، ولا نقول: الزنا بها؟ أبدا، فإن الروايات تنص على أنه حين ذهب يطلب زيدا فى أمر من الأمور ولم يجده انصرف فى الحال ولم يتلبث. إذن فما المشكلة؟ سنفترض أنه عليه السلام قد تعلق بها بعد أن كان هو الذى ضغط عليها كى تتزوج زيدا، فما وجه العيب فى هذا؟ هل يملك البشر عواطفهم فى أيديهم؟ ومع ذلك فلا بد أن يعرف القارئ أن زينب كانت تحت بصر الرسول وتصرُّفه طوال الوقت قبل أن يزوجها زيدا على كره منها ومن أخيها، أفلمّا تزوجها عبده السابق، وهو (فوق عبوديته له) من قبيلةٍ لا تسامت قبيلته هو وزينب، تحلو فى عينيه إلى الحد الذى يريد الأفاكون أن يجعلوا من حبتها قبة؟
المهم أنه لم يلجأ إلى أى شىء يمكن أن يُؤْخَذ عليه فى هذا السياق: فلا هو ألمح لزيد برغبته فى امرأته حتى يدفعه من طَرْفٍ خفىٍّ إلى التنازل له عنها، فضلا عن أن يكرهه على طلاقها، ولا هو حاول إبعاده عن البيت كى يخلو بها متى أحب، ولا هو تآمر على قتله كما صنع داود (داود النبى والملك) مع قائده وجاره أوريّا الحثى الذى رأى زوجته عارية كما ولدتها أمها (طبعا! ألم تكن من راقصات الإستربتيز؟) وهى تستحم فى فناء بيت قائده المجاور لقصره حين كان يتمشى على سطح القصر ذات يوم، ولا أدرى ماذا كان يفعل ملك مثله على سطح القصر إلا أن تكون هناك بقايا طفولة لم تزل فيه فصعد ليطير طائرته الورقية أو ليطمئن على غيّة الحمام الذى يربيه هناك (داود "ابن الله البكر" كما جاء فى العهد القديم، وجَدّ إله الأنبا الأحمق أو أبوه كما يقولون، إذ المسيح عندهم هو "ابن داود". والمصيبة أنه ابنه من جهة يوسف لا من جهة مريم، فتأمل الخيبة القوية واتهامهم مريم فى شرفها وعفتها بغباءٍ ما بعده غباء!)، فما كان منه إلا أن أرسل فأحضرها وزنى بها (هكذا خبط لزق "دون إِحِم أو دستور"!)، ثم لم يكتف بهذا بل وضع خطة للتخلص بها من الزوج المسكين. ولما تمت الجريمة استلحقها بحريمه، ولكن بعد أن انقضت أيام مناحتها. شوفوا ذوقه وحنيّة قلبه ومراعاته للتقاليد! والله فيه الخير! لكن نعود فنقول: يا ليته ما زنى ولا راعى التقاليد، وترك الرجل وزوجته فى حالهما!
أما الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فرغم أن مسألته زواجٌ حلالٌ لا زنًا كما فى حالة داود حسبما يفترى عليه ملفقو العهد القديم عليهم لعائن الله، فقد مكث فترة من الزمن يحاول أن يتجنب التزوج من زينب خشية أن يظن الناس أنه اقترانُ أبٍ بامرأة ابنه كما كانت العرب حتى ذلك الحين تعتقد، إلى أن نزل القرآن يعاتبه ويشتد عليه صلى الله عليه وسلم ويأمره أمرًا بإمضاء هذا الزواج حتى يضع حدا لذلك الفهم الجاهلى. ثم إنه عليه السلام لم يكن يوسّع فى نفقة زينب ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وحين طلبن منه ذات مرة أن يوفر لهن شيئا من بحبوحة العيش كسائر النساء نزل القرآن يخيّرهن جميعا بين الرضا بما هن فيه أو تسريح الرسول عليه الصلاة والسلام لمن لا ترضى بهذا الوضع المتقشف منهن، إلا أنهن جميعا قد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة على حظوظ الدنيا. وليس هذا بطبيعة الحال سلوك من تأسره النساء ويتسلطن على عقله وحكمته ويفسدن عليه أمره، بل سلوك نبى كريم يملك نفسه تماما أمام المرأة إن كان ثمن ذلك هو الخروج على مبادئه التى يدعو إليها أدنى خروج! ثم لا ينبغى هنا أن ننسى شيئا، وهو أن زيدا لو شعر أن فى الأمر ما يريب، أكان يظل على ولائه لمحمد ودين محمد ويخرج للغزو معرضا حياته بحرارة فى سبيل الدفاع عن ذلك الدين ولا يهرب مثلا إلى الروم أو فارس ويفضحه هناك؟ وذلك بدلا من أن يموت فى معركة مؤتة ميتته البطولية التى تدل على إيمان لا يتزعزع، إذ كانت كل عوامل النصر من فارق ضخم فى العدد والعتاد فى صف الروم، فضلا عن انحياز أرض المعركة لأهلها، ومع ذلك خاضها، رضى الله عنه، هو وبقية زملائه فى رجولة وإخلاص لا يُبَارَيان! ويمكن القارئ أن يرجع إلى ما كتبته فى هذا الأمر فى الفصل الأول من الباب الأول من كتابى: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى" (مكتبة زهراء الشرق/ 1417هــ- 1997م/ 71 فما بعدها). والعجيب بعد هذا كله أن يقول النصارى إن الله قد غفر لداود وغيره من أنبياء العهد القديم جرائمهم ذات العيار الثقيل لأنهم فى نهاية المطاف بشر، والبشر خطاؤون، ثم يجيئون إلى الحلال الزلال الذى فعله النبى محمد عليه السلام فتضيق أستاههم النتنة المدوَّدة غيرةً على الشرف الرفيع (كشرف الراقصة اللولبية فلانة الفلانية! وأحسن م الشرف ما فيش!)، ويذهبون فيلطمون الخدود ويشقون الجيوب ويضعون على رؤوسهم مما تحت أرجلهم ويَدْعُون بدعوى الجاهلية زاعمين التألم للأخلاق والدين! يا حرام!
"قال المسلم: ويحك! إنما ننكر عليكم أنكم تجعلون لله ابنا وأن المسيح ابن الله وأنه الأزلي خالق الخلائق، وتجعلونه مساويا لله في الطبيعة والجوهر والقدرة، وهو إنسان وُلِد من امرأة، ومَثَله مَثَل آدم، قال له الله: كن، فكان.
قال الراهب: هل أنت يا أبا سلامة مصدّق كل ما ذكره نبيك في القرآن؟
قال المسلم: نعم أنا مصدّق جميع ما في القرآن لأنه منزل من الله على نبيه المصطفى محمد.
قال الراهب: أفليس في القرآن أن المسيح روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم؟
قال المسلم: نعم، كذلك هو.
قال الراهب: فإذا لله روح وكلمة؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: أخبرني عن روح الله وكلمته: أزليّة هي أم محدثة؟
قال المسلم: بل أزليّة غير محدثة.
قال الراهب: فهل كان الله في وقتٍ من الأوقات أصم أخرس خاليا من كلمةٍ وروحٍ؟
قال المسلم: أعوذ بالله من ذلك حيث إن الله لم يخلُ قط من كلمته وروحه.
قال الراهب: وكلمة الله خالقة أم مخلوقة؟
قال المسلم: ما أشك في أنها خالقة.
قال الراهب: أفما تعبد أنت الله؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: فهل عبادتك لله مع كلمته وروحه أم لا.
قال المسلم: أعبد الله وروحه وكلمته.
قال الراهب: قل الآن: أومن بالله وروحه وكلمته.
قال المسلم: آمنت بالله وروحه وكلمته، ولكني لا أجعلهم ثلاثة آلهة بل إله واحد.
قال الراهب: فهذا الرأي هو رأيي واعتقادي واعتقاد كل نصراني. وإلى هذا كان قصدي بأن أقودك إليه لتعرف الثالوث: الآب الذي هو الله، والابن الذي هو كلمته، وروحهما القدوس.
وكان الأمير متكئا فاستولى جالسا ورفع عن حاجبيه شربوشه، وصفّق وكبّر، وقال ضاحكا: وحق عليٍّ يا أبا سلامة لقد نصّرك الراهب وأدخلك في دينه".
ومرة أخرى نجد أنفسنا وجها لوجه مع الخبث والتفاهة والتهافت، فالقرآن لا يقول عن عيسى عليه السلام إنه روح الله، بل "روح منه"، وهو فى هذا لا يتميز على أى إنسان كائنا من كان، إذ ما من أحد من بنى آدم جميعا إلا وفيه من روح الله. قال تعالى: "ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)" (سورة "السجدة"). فالله، كما تقول الآية الأخيرة، قد نفخ فى البشر من روحه سبحانه، وهذا هو نفسه الوضع فى حالة عيسى عليه السلام، فهو إذن كسائر البشر: كلاهما مخلوق. أما أنه عليه السلام كلمة الله فالمقصود كلمة "كن" فيكون، وهذا هو نفسه الوضع فى حالة آدم أيضا: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)" (آل عمران). وطبعا ليس المقصود أنه هو الكلمة ذاتها، بل العبارة هنا على المجاز، إذ ليس عيسى ولا أى مخلوق آخر غير عيسى هو الكلمة نفسها، بل ما أحدثته الكلمة فى عالم الوجود، وذلك كما يقول الواحد منا لغيره: "أنا ذراعك اليمنى"، ولا يمكن أن يقصد أنه ذراعه فعلا، بل المقصود أن بإمكانه الاعتماد عليه مثلما يعتمد على ذراعه. ومثل ذلك ما قاله ابن منظور صاحب "لسان العرب" فى مادة"يمن"، ونصه: "وفي الحديث: الحَجرُ الأَسودُ يَمينُ الله في الأَرض. قال ابن الأَثير: هذا كلام تمثيل وتخييل، وأَصله أَن الملك إذا صافح رجلاً قَبَّلَ الرجلُ يده، فكأنَّ الحجر الأَسود لله بمنزلة اليمين للمَلِك حيث يُسْتلَم ويُلْثَم". وعليه فلا تميز لعيسى فى هذا، اللهم إلا أن ولادته قد اختلفت عن ولادتنا: فنحن قد خُلِقْنا بكلمة التكوين، لكن من خلال القوانين الطبيعية للولادة، أما هو فخُلِق بكلمة التكوين مباشرة دون الخضوع لتلك القوانين كاملة، إذ لم يكن له أب، وإن كانت له أم سكن أحشاءها وبقى فيها زمنا. أما آدم فقد خُلِق دون أب أو أم، ومن هنا فإن خلقه أعجب وأبعث على الدهشة. كل ما فى الأمر أن أحدا من البشر لم يكن هناك ليدهش أو يعجب، لأننا ببساطة لم نكن قد خُلِقْنا بعد، وإلا لعبده الناس هو أيضا، والحكاية ليست ناقصة مصيبة ثانية، وإن كان العهد القديم يقول عنه رغم ذلك إنه ابن الله!
ولقد زاد القرآن هذه القضية إيضاحا وتأكيدا فى مواضع أخرى منه ولم يتركها غامضة حتى تأتى است هذا الأنبا فتفتى فيها، فالفتاوى بحمد الله متوفرة عندنا، وهى فتاوى طيبة طاهرة لأنها خارجة من أفواه طاهرة طيبة لا كفتاواه المنتنة، وكأنهم لم يكتفوا بتحريف كتابهم وإفساده، فهم يريدون أن يلبِّسوا علينا نحن أيضا ديننا وكتابنا، خيبهم الله! قال جل شأنه: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173)" (النساء)، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)" (المائدة)، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)" (المائدة)، "ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)" (مريم)... إلخ.
فكيف يزعم الأنبا المخبول بعد ذلك أن القرآن يؤله المسيح؟ أما قوله عن الأمير الأيوبى السنى: "وكان الأمير متكئا فاستولى جالسا ورفع عن حاجبيه شربوشه، وصفّق وكبّر، وقال ضاحكا: "وحقّ عليٍّ يا أبا سلامة لقد نصّرك الراهب وأدخلك في دينه"، فلا أدرى كيف يقسم سُنِّىٌّ (سُنِّىٌّ حطّم أبوه دولة الشيعة فى مصر والشام) بحقّ علىٍّ، وهو يمينٌ لا يقسم به سوى الشيعة، الذين بينهم وبينه هو وأبيه وأسرته كلها حتى اليوم وإلى ما بعد اليوم إلى أن تقوم القيامة ما طرق الحدّاد. وبالمثل لا أدرى كيف يُبْدِى أمير مسلم فى ذلك الوقت الذى كان للدين فيه سلطانه الهائل على القلوب، وبالذات أيام الحروب الصليبية التى كان للأيوبيين فيها القِدْح المُعَلَّى، شماتتَه على الملإ فى دينه ودين أمته وانحيازَه لجماعة من النصارى لا قيمة لهم عنده ولا يمثلون له أى اعتبار، خارجا بذلك عن الملة!
لقد كان ذلك الأمير، فيما قرأنا، مؤمنا حريصا على أداء فروضه الدينية، فعلى سبيل المثال كان عزمه قد صحَّ على أداء مناسك الحج فى سنة كانت هناك مشاكل سياسية بينه هو وأخيه الأفضل وبين الكامل ابن عمهما أرسل الكامل من جرائها عسكرا كثيرا ينتظرونه قبيل مكة ظنا منهم أنه ينوى الذهاب لليمن بغية أخذها لا لأداء الفريضة. ولنستمع إلى النويرى فى "نهاية الأرب" يحكى لنا القصة كلها، ووجه الشاهد فيها أنه كان ديـّنا: أولا فى خروجه للحج على ما فيه من مشقة يعرفها كل من خاض تجربته، وثانيا فى عرضه على الخصوم أن يقيدوه ويحيطوا به حتى يقضى المناسك كى يطمئنوا إلى أنه فى أيديهم لا يريد اليمن بل الحج، وثالثا فى حرصه على اتباع سنة النبى فى غزوة الحديبية لما عجز عن تأدية الشعيرة، إذ ذبح أميرنا وقصّر شعره وانصرف قافلا إلى الشام، ورفض الدخول فى معارك وإراقة دماء مع جند ابن عمه: "وفيها (أى فى السنة العاشرة بعد الخمسمائة من الهجرة) توجه الملك الظافر الخضر بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من حلب لقصد الحج. فنزل بالقابون في يوم الأحد رابع شوال، ثم انتقل إلى مسجد القدم في خامس الشهر. وكان الملك المعظم بحوران، فوصل إلى دمشق، وأدخله إليها وعمل له ضيافة. ثم توجه إلى الحجاز صحبة الركب الشامي، فلما وصل إلى المدينة زار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرم بالحج من ذي الحُلَيْفة. فلما انتهى إلى بدر وجد عسكر الملك الكامل قد سبقه من مصر إلى بدر خوفا منه أن يتوجه إلى اليمن ويستولى عليها. فقالوا له: ترجع! فعلم مرادهم، فقال: إنه قد بقي بيني وبين مكة مسافة يسيرة، وإني قد أحرمت. ووالله ما قصدي اليمن، ولا أقصد غير الحج، فقيِّدوني واحتاطوا بي حتى أقضي المناسك وأعود. فلم يوافقوه على ذلك، وأعادوه إلى الشام. فصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت: قصر وذبح ما تيسر، وعاد إلى الشام". وكان بمستطاعه أن يهب لمحاربتهم كما قلنا أخذًا بما اقترحه عليه قواده وجنده الذين عز عليهم أن يرجع على هذا النحو المهين دون أن يحج، إلا أنه رفض كما جاء فى "تاريخ الإسلام" للذهبى: "قال أبو شامة: وحكى لي والدي، وكان قد حج معهم، قال: شق على الناس ما جرى عليه، وأراد كثير منهم أن يقاتلوا الذين صدوه عن الحج، فنهاهم وفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين صُدّ عن البيت، فقصر من شعره، وذبح ما تيسر، ولبس ثيابه، ورجع وعيون الناس باكية، ولهم ضجيج لأجله". فهل من يتصرف مثلا على هذا النحو من الحب لدينه وتحمُّل المشاق من أجل تأدية مناسكه والحرص على اقتفاء سنة رسوله عليه السلام منذ أن خرج للحج حتى أعيق عن إتمامه يمكن اتهامه بأنه يمالئ النصرانية ضد الإسلام؟
وذكر ابن العديم فى كتابه: "بغية الطلب فى تاريخ حلب" أن الأمير المشمر كان عالما محدِّثا، "سمع منه بعض أصحابنا شيئا يسيرا. خرّج عنه صاحبنا أبو عبد الله محمد بن يوسف البرزالي حديثا في معجم شيوخه، وروى لنا عنه أبو المحامد إسماعيل بن حامد القوصي إنشادا أخرجه عنه في معجم شيوخه. وكان يزور عمي أبا غانم، وكنت أجتمع به عنده في المسجد المعروف بنا، فلم أتحقق ما سمعته منه، فإنه كان يورد أشياء حسنة... وكان جوادا سخيا شجاعا عارفا بالتواريخ وأيام الناس، وكان من جِلّة بني الملك الناصر يوسف بن أيوب وكان يُنْبَز (أى يلقَّب) بالملك المشمّر، بحيث أنه غلب على لقبه: الملك الظافر. وبلغني أنه إنما غلب عليه هذا اللقب لأن أباه قسم البلاد على أكابر إخوته، قال: أنا مشمر، فغلب عليه المشمر، وهجر ما سواه...". وفى "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام و الجزيرة" لابن شداد أنه بنى فى أرباض حلب مسجدا. أفمثل هذا الأمير يمكن أن يوالس مع النصارى ضد الإسلام ونبيه، فضلا عن أن يفعل ذلك على مرأى ومسمع من عسكره ورجال حاشيته وضيوفه والناس جميعا؟ وأخيرا وليس آخرا ها هو ذا الراوى الكذاب الذى لا يحسن تلفيق حدوتته الساذجة يقول إن الأنبا حين سأل الأمير السؤال التالى: "إن قَدِم أحد الناس وأظهر قرآنا يخالف القرآن المعروف الآن عندكم وقال لكم: هذا القرآن المنزل على النبي، وليس هو ذاك، فهل كنتم تقبلونه؟" جاء رد الأمير صاعقا على الفور هكذا: "لا. وعليّ ما كنّا نقبله بل نحرقه ومن أتى به". فهل من يكون رد فعله بهذا العنف على دعوى وجود قرآن غير القرآن يمكن أن يشمت بالإسلام وعلمائه الذين ينافحون عنه، ويشجع المناكيح المقاريح على تثليثهم ويُسِرّ لهم بأنه معهم بقلبه لأن أمه نصرانية مثلهم؟ كما أنطقه الراوى، حين أراد أن يوهمنا باتخاذه صف الأنبا، بصيحة "الله أكبر"، وهى صيحة إسلامية خالصة لا يقولها الأمير لو كان فى قلبه موالاة للنصارى. يا للكذب! يا للعار! أرأيت أيها القارئ كيف يقع هؤلاء الحمقى فى شر أعمالهم؟
على أن الأمر لم ينته عند هذا الحد، إذ طفق الراهب المزعوم يحاول تفنيد ما نفهمه نحن المسلمين، ويفهمه معنا كل من لديه أدنى قدر من العقل، من نص سورة "آل عمران" الذى مر آنفا فى التسوية بين آدم والمسيح. ولم لا يأخذ الراهب راحته، والملعب ملعبه، والحَكَم من طرفه، والخصم غير موجود، إذ ليس هناك فى الحقيقة إلا "روبوت" يحركه من بعيد كما يشاء بــ"الريموت كونترول"؟ بل إن المسألة كلها ليست أكثر من حدوتة خيالية لم تقع إلا فى وهم كاتبها؟ "قال الراهب: وأما قولك يا أبا سلامة أن نبيك قال: "وما مثل عيسى ابن مريم إلا مثل آدم قال له: كن، فكان" (سورة آل عمران) فقد صدق نبيك في قوله لأن كلمة الله وروحه الخالقة الأزلية غير المحدودة وغير المدركة اتخذت لها من طبيعة آدم جسما من مريم وسكن فيه واحتجب به لاهوت الكلمة لأجل السياسة والتدبير لأن الجوهر اللطيف لا يظهر إلا في جسم. وخذ المثل من جوهر النار، فإنه جوهر لطيف لا يُنْظَر ولا يُرَى إلا في مادة من المواد. ثم اعلم أن موسى النبي طلب من الله تعالى أن يبصر الله بجوهر اللاهوت، فقال له الله: ادخل في باطن الصخرة، وأنا أضع يدي في ثقب الصخرة، وأنت تبصر ما ورائي. فلما كان منه ذلك أبصر موسى ما كان وراء الجوهر الإلهي، فلمع فى وجه موسى نورٌ لا يستطاع النظر إليه حتى ما كان أحد من الشعب ينظر إلى وجه موسى إلا مات. فاحتاج إلى برقع كان يضعه على وجهه حين كان يخاطب الشعب لئلا يموت كل من ينظر إلى وجه موسى من الشعب.
قال المسلم: إذا كان اعتقادك أن روح الله وكلمته حلا في بطن مريم فقد بقي الله بغير روح ولا كلمة بعد حلولها في بطن مريم.
قال الراهب: توهّمك هذا يا أبا سلامة يليق بصبيان المكاتب وأهل القرى والمضارب لأنك تقايس الإله الجوهر اللطيف الذي لا يُحَدُّ ولا يُرَد، ولا يحصره مكان ولا يحويه زمان، وهو غير المتنقل، وتتخيله محصورا ومتنقلا. أَبْعِدْ هذا الوهم من ظنك، وهذا الرأي من رأيك، ولا تتخيَّلْ روح الله وكلمته محصورة ومتنقلة.
قال المسلم: فكيف يمكنني أن أحقّق أن كلمة الله وروحه بجملتها في بطن مريم، وهي بجملتها على العرش عند الله ولا يخلو منه ولا يفارقه على حسب رأيك؟
قال الراهب: توهّمك هذا يناسب عيشتك الغليظة الرخية ومذهبك وناموسك وشريعتك لأنكم تتصورون وتنسبون الأشياء المعقولة كالأشياء المحسوسة بحسب عقولكم المكدرة من رخاوة العيشة واستعمال اللذات الجسدية، ولكني لا أكسل عن أن أوضّح لك البيان عما سألت وآتيك بمثالات توضّح الصدق. فما قولك في الشمس؟ أليس هي في أفق السما؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: أفليس تبعث شعاعها وحرارتها ونورها على الأرض كلها؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: فهل نورها وحرارتها حين تبعثهما إلى الأرض يفارقها أم لا؟
قال المسلم: لا يفارقها ولا يخلو منها.
قال الراهب: كذلك كلمة الله وروحه حلت في مريم ولم تخلُ من الله الآب. ونأتيك بمثال آخر فنقول إن مولانا الأمير إذا تكلم كلمة برزت من عقله ومِنْ فيه، وصارت الكلمة في كتاب من الرَّقّ والمداد، وحصلت في جسم ثم نودي بها في العالم وصارت مسموعة عند الكل، فهل كلمة الأمير فارقت عقله وبقي فيما بعد بغير كلمة؟! أفليس الكلمة بجملتها في عقل الأمير، وهي بجملتها في الكتاب والقرطاس والمداد؟
قال المسلم: نعم".
والمجادلة كلها سفسطة فى سفسطة، فالله سبحانه مطلق لا يحده حد، فكيف يحل فى بطن مريم ويبقى هناك طوال شهور الحمل، ثم حين يولد يظل فى الأرض محصورا فى ذلك الحيز المادى المتغير من لحظة لأخرى، وهو جسد عيسى الرضيع فالطفل فالصبى فالمراهق فالشاب فالرجل، ويعتريه ما يعترى أجسادنا جميعا من انحلال أنسجة وتكوّن غيرها، وموت خلايا وحلول سواها محلها، فضلا عن الألم والضعف والصداع والحاجة إلى الطعام والشراب والرغبة فى الدخول إلى الخلاء والحركة والانتقال من مكان إلى مكان وتلقى الشتم والتكذيب... إلى آخر مظاهر المعاناة التى تحتمها مطالب العيش والتفاهم مع الآخرين، إلى حين القبض عليه كما يُقْبَض على أحقر مجرم وتعرُّضه للضرب والطعن والإهانة والسخرية والصلب والقتل، وهو يجأر فى جنبات الفضاء نِشْدَانًا لعون لا يأتيه أبدا: "إلهى إلهى، لم تركتنى؟"، مقرًّا على نفسه رغم كل سفسطات الأنبا البكاش وأشباهه أنه ليس إلا "عبدا" ضعيفا يتجه إلى "إلهه" يرجوه المساعدة؟ ولقد صدق المسلم حين علق على هذه السفسطة الرقيعة قائلا: "إذا كان اعتقادك أن روح الله وكلمته حلا في بطن مريم فقد بقي الله بغير روح ولا كلمة بعد حلولها في بطن مريم". ذلك أنه متى ما جعلنا لله وجودا متحيزا بحيز المكان والزمان فلا بد أن يجرى عليه من ثم كل ما يجرى على الوجود المتحيز من الانحصار دائما فى مكان دون سائر الأمكنة، وفى زمان دون باقى الأزمان. وعلى هذا فإذا كان الله فى بطن مريم أو فى البيت الفلانى أو على الصليب العلانى فلا وجود له حينئذ فى غير هذا البطن أو ذاك البيت أو على غير ذلك الصليب. إن المسلمين حين يقولون هذا فإنما يقولون ما يقضى به العقل والمنطق، وما سوى ذلك هو مجرد سفسطة رقيعة كما قلنا مرارا. ثم إن عالما مسلما، فضلا عن أن يكون هذا العالم من أئمة المسلمين، لا يمكن إذا أراد الردّ بالإيجاب على سؤال منفى أن يقول: "نعم" كما ادّعى كاتب الحدوتة على الشيخ، بل عليه أن يستعمل كلمة "بَلَى". جاءك "البَلا" منك له يا بعيد! فهذه علامة أخرى من العلامات المخزية التى تفضح كاتب الحدوتة وتهتك ستار كذبه وزيفه!
والغريب أن الراهب الكذاب يأبى إلا أن يَحُور إلى طبيعته المدلسة الكذابة فيتهم المسلم بأنه هو الذى يقول بتحيز الله! انظروا إلى مدى الالتواء فى تفكير هذا الكائن وسلوكه: "توهّمك هذا يا أبا سلامة يليق بصبيان المكاتب وأهل القرى والمضارب لأنك تقايس الإله الجوهر اللطيف الذي لا يُحَدُّ ولا يُرَدّ، ولا يحصره مكان ولا يحويه زمان، وهو غير المتنقل، وتتخيله محصورا ومتنقلا"، وإلا فإذا كان الله جوهرا لطيفا لا يُحَدّ، فكيف يريد الأنبا الرقيع حَصْره فى بطن مريم وغيره من الأماكن التى كان يحل فيها عيسى عليه السلام أو يتنقل بينها؟ وهو يتطاول على المسلمين (طبعا لأنه كالكلب: ينبح ما لم يجد إنسانا حوله، فإذا شم رائحته انقمع وتخاذل وخرس تماما)، قائلا إنهم حسيون متبلدو المشاعر والفهم لانشغالهم باللذائذ المادية، وكأنه هو وأمثاله يعيشون على نور الشمس ونسمات الهواء فلا يأكلون ولا يشربون ولا يلبسون ولا ينامون، وفوق ذلك كله لا يُنْكَحون؟ اللهم إلا إذا قال عن الأخيرة إنها من مذهب أفلاطون، وأفلاطون من الفلاسفة المثاليين، فعندئذ نسكت ولا نفتح فمنا بالكلام عن الاتجاه الجديد فى بعض الكنائس لترسيم الأساقفة من اللوطيين حتى تتم الخيبة القوية ويُقْبِل الأسقف من هؤلاء على رعيته فيعظهم ويصلى بهم ودبره مبلول من ماء الفحل الذى نهض عنه لتوه، مثلما كان حال ذلك الشيوعى الحقير المُسْتَهْوِد الذى نكحه خادمهم النوبى فى بيتهم ذى النوافذ المفتوحة وبلله فذهب إلى الحمام، وقد تدلى سرواله وبانت مؤخرته، ليزيل آثار ذلك النكاح اللذيذ عند كل من يكره الإسلام، ثم عاد منه وماء الصنبور الذى تسرب إلى حذائه يحدث صوتا يشبه ما يسمونه فى الإنجليزية: "squelching"، ولا أدرى كيف أقوله بالعربية لجهلى أنا لا لضيق لغتنا العبقرية! الآن عرفنا لماذا قال لنا أولاده ذات يوم إنهم لا يريدون الانتساب له! والله معهم حق!
أما قول الراهب إن "كلمة الله وروحه الخالقة الأزلية غير المحدودة وغير المدركة اتخذت لها من طبيعة آدم جسما من مريم وسكن فيه واحتجب به لاهوت الكلمة لأجل السياسة والتدبير لأن الجوهر اللطيف لا يظهر إلا في جسم"، فليس له من معنى سوى أنه سبحانه لم يكن يدبّر أو يسوس قبل زمن عيسى ولا بعد انتقاله عن دنيانا. ألم يقل إن الجوهر الإلهى اللطيف إنما سكن جسد عيسى كى يتم التدبير والسياسة؟ إذن فنحن الآن بلا سياسة ولا تدبير إلهيين، والذى يدبر ويسوس هو أمريكا، وقد عَرَفها فوكوياما العفريت المكّار من نفسه وأدرك على الفور أنها "نهاية التاريخ"، كما أعلن نيتشه المجنون من قبل أن "الله مات"، ولا عزاء للسيدات ولا حتى للبنات، أما بالنسبة للرجال فهل عاد هناك رجال بعد أن أخصتهم أمريكا وأحالتهم إمَّعات؟ ولا يكتفى الأحمق بما مضى، بل يأبى إلا أن يسقط سقطة قاتلة أخرى حين يقول: "ولما كنا ذوي أجسام وجب عند حكمته أن يخاطبنا بجسم لأن اللاهوت عادم الجسم، كما إن جوهر النار لا يُعْلَنُ ولا ينتفع الناس منه إن لم يظهر في مادة من المواد". وسؤالنا هنا هو: وكيف كان الله يخاطب البشر منذ بدء الخليقة؟ ألم يكن يرسل لهم أنبياء ورسلا، أم كان يتجسد بنفسه فى هؤلاء الأنبياء والرسل؟ إن قال بالأولى فعيسى مجرد نبى ورسول مثل سائر الأنبياء والمرسلين، وإن قال بالثانية فجميع الأنبياء والرسل إذن آلهة أو أبناء آلهة. وفى الحالتين لا فرق بين عيسى وسواه!
ولا يكتفى الأنبا المزيف بهذا، بل يلجأ إلى مثال النار التالى ليقنع المسلم بسخف ما يقول: "فما قولك في الشمس؟ أليس هي في أفق السما؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: أفليس تبعث شعاعها وحرارتها ونورها على الأرض كلها؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: فهل نورها وحرارتها يفارقها حين تبعثهما إلى الأرض أم لا؟
قال المسلم: لا يفارقها ولا يخلو منها.
قال الراهب: كذلك كلمة الله وروحه حلت في مريم ولم تَخْلُ من الله الآب".
وهذا المثال مما يجرى على ألسنة النصارى للتدليل على صحة تثليثهم، مع أن هناك فارقا جذريا بين النار وبين الله: فالنار كيان مادى، أىْ مُرَكَّبٌ من عناصر متعددة كانت متفرقة قبل ذلك ثم تجمعت وأصبحت نارا، وسوف تتفرق بعد ذلك كرة أخرى... وهكذا دواليك. فهل الله هكذا؟ وهل الله كالنار متحيز فى مكان وزمان معينين؟ ثم إن النار باستمرار صدور أشعتها منها تفنى، وبعد قليل لا تعود هناك نار. بل إن الشمس وسائر النجوم، وهى كرات نارية هائلة الحجم إلى درجة رهيبة، لها عمرٌ مقدَّر سوف تبلغ تمامه يوما ولا تعود ثمة شمس ولا نجوم، وإن كان عمرها أطول بما لا يقاس من النيران الأرضية التى سرعان ما تفنى كما قلنا، والتى لا يصح تشبيه الله بها بالمعنى الذى يريده الأنبا الأخرق. كذلك فإن أشعة النار والشمس ليست هى النار أو الشمس كلها، بل جزءا منها فقط، وهو عندما يغادرها لا يعود جزءا منها بل ينفصل عنها، فما علاقة ذلك بروح الله التى تفارقه ولا تفارقه؟ ثم إن حرارة الشمس تضعف كلما ابتعدنا عنها، فهل روح الله تضعف على هذا النحو أيضا؟ يعنى: هل كان عيسى إذن إلها على قد حاله؟ إلها "نصّ نصّ" كما تقول نانسى عجرم التى ينتحل اسمها وشخصيتها أحد المناكيح فى رسائله لى فى محاولة منه لتحسين نفسه والإيهام بأنه لا يزال "حلوة وشابة"! اسم الله عليها! كما أن وصول الأشعة والنور من الشمس إلينا يستغرق وقتا، فهل يجوز أن نقول ذلك عن روح الله؟ أترى هذا هو السبب فى أن عيسى لم يصل إلينا منذ أول الخليقة، بل تأخر إلى ما قبل ألفى عام من الآن؟ كذلك فإن أشعة الشمس ونورها لا يصلان إلى كل مكان، فهل نقول عن روح الله ما نقوله عنهما ونفسر فى ضوء ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام كان، فى الوقت الذى يوجد فيه فى مكان معين، يكون غائبا عن بقية الأماكن؟ يمينا بالله إن هؤلاء لحمقى أغبياء!