بقى أمر فى هذه النقطة، ألا وهو قول الملفق الكذاب عن الحواريين إن داود قد تنبأ بأنهم سوف ينطقون بكل الألسنة، وإن كان قد نسى المغفل أن يوضح لنا هل كانت الشهادة المضروبة المنسوبة لداود مختومة بخاتم النسر الموجود فى الأرشيف فى عهدة الأستاذ عَبْعَاطِى البيروقراطى الذى يفتّح مخه دائما بسيجارة لا راحت ولا جاءت من نوع "الوينجز"، تلك السيجارة التى كان الشبان من قريتى أيام التلمذة يفسرون رَمْزَىْ "ب. و" المكتوبين عليها بأن معناهما: "بيئة واطية"، على اعتبار أن الوينجز هى أردأ أصناف السجائر وأرخصها، ومن ثم لا يعفّرها إلا الآتون من "بيئة واطية" كمؤلف الحدوتة التى بين أيدينا. وهذا نص ما قاله الأنبا المنكوح سَلَف قمّصنا ذى الدبر المقروح، لعن الله السالف والخالف جميعا: "وداود النبي قد تنبأ قبل رسل المسيح بأجيال كثيرة على تكلّم الرسل بسائر اللغات وقال (مز 18، 5): في كل الأرض خرج نطقهم، وفي جميع المسكونة انبثّ كلامهم".
وتعليقى على ذلك أولا: أن الإحالة فى كلام الراهب المزيف إلى كتابه المقدس خاطئة، فالنص ليس موجودا فى المزمور الثامن عشر بل فى التاسع عشر، كما أن الفقرة المعنيّة ليست هى الخامسة بل الرابعة. وهذه نقطة نظام أحببت أن أشير إليها فى بداية التعليق كى يفهم القاصى والدانى أن ما قاله مؤلف الحدوتة الساذجة عن عِلْم الأنبا جرجى بالقرآن والإسلام هو "أى كلام، يا عبد السلام"، إذ ها هما الاثنين لا يعرفان حتى مواضع النصوص التى يستشهدان بها من كتابهما المقدس، فكيف بحال الراهب مع كتابنا نحن، وهو غير مقدس عنده بحال؟ ثانيا: هذا الكلام (إن صدّقْنا بما يقوله المؤلف الأبله عن النبوءة) لا يعنى أبدا أن الرسل المذكورين كانوا يتكلمون باللغات المختلفة، بل كل ما هنالك أن كلامهم قد انتشر فى كل الأرض، أما بــ"كَمْ لغة" فلا ذكر لشىء من هذا على الإطلاق. والذى يتبادر إلى الذهن هنا وفى كل النصوص المشابهة هو أن كلامهم قد تُرْجِم لمن لا يعرفه. ثالثا، وهى القاصمة: أن كلام داود لا صلة له بتاتا برسل المسيح ولا بأى رسل من أية ملة أو دين، بل هو كلام عن السماوات والأفلاك التى تتحدث دون كلام عن صانعها سبحانه وتعالى وعظمته، فهى تتكلم ولا تتكلم، تتكلم بلسان الحال، وإن لم تتكلم بلسان المقال، وهو ما يشبه قوله تعالى فى الآية الرابعة والأربعين من سورة "الإسراء": "وإِنْ مِنْ شىءٍ إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم". وهذا هو النص فى سياقه كيلا يفتح فمه أى عيّار بعد ذلك: "1اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل يُبْدِي عِلْمًا. 3لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. 4فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، 5وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ. 6مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا". وهذه هى طريقة القوم فى المجادلة عن دينهم: سذاجة ما بعدها سذاجة، ثم يريدون من الآخرين أن يخرّوا على ما يقولونه لهم عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا، فلا تفكير ولا استعمال للعقل، بل إيمان أعمى متعصب يقوم على ترديد المحفوظات والعبارات الإنشائية التى لا معنى لها. وقد كتبتُ ما كتبتُ بناء على قراءتى الهادئة الواعية للنص الكتابى، ثم لم أكتف بهذا بل رجعت إلى بعض التفاسير المشهورة للكتاب المقدس، فكانت هذه النقول التالية التى تبين بأجلى بيان أن ذلك هو المعنى المنطقى للكلام المنسوب لداود عليه السلام:
1- Commentary Critical and Explanatory on the Whole Bible:
Psalms 19:1-14. After exhibiting the harmonious revelation of God's perfections made by His works and His word, the Psalmist prays for conformity to "the glory of God."
1. the glory of God--is the sum of His perfections (Psalms 24:7-10, Romans 1:20).
firmament--another word for "heavens" (Genesis 1:8).
handywork--old English for "work of His hands."
2. uttereth--pours forth as a stream; a perpetual testimony.
3. Though there is no articulate speech or words, yet without these their voice is heard.
4. Their line--or, "instruction"--the influence exerted by their tacit display of God's perfections.
2- The 1599 Geneva Study Bible:
19:4 Their d line is gone out through all the earth, and their words to the end of the world. In them hath he set a tabernacle for the sun,
(d) The heavens are as a line of great capital letters to show God’s glory to us.

3- Matthew Henry Concise Commentary on the Whole Bible:
Verses 1-6 The heavens so declare the glory of God, and proclaim his wisdom, power, and goodness, that all ungodly men are left without excuse. They speak themselves to be works of God's hands; for they must have a Creator who is eternal, infinitely wise, powerful, and good. The counter-changing of day and night is a great proof of the power of God, and calls us to observe, that, as in the kingdom of nature, so in that of providence, he forms the light, and creates the darkness, ( Isaiah 45:7 ) , and sets the one against the other. The sun in the firmament is an emblem of the Sun of righteousness, the Bridegroom of the church, and the Light of the world, diffusing Divine light and salvation by his gospel to the nations of the earth. He delights to bless his church, which he has espoused to himself; and his course will be unwearied as that of the sun, till the whole earth is filled with his light and salvation. Let us pray for the time when he shall enlighten, cheer, and make fruitful every nation on earth, with the blessed salvation. They have no speech or language, so some read it, and yet their voice is heard. All people may hear these preachers speak in their own tongue the wonderful works of God. Let us give God the glory of all the comfort and benefit we have by the lights of heaven, still looking above and beyond them to the Sun of righteousness.
وعجيب، بعد ذلك كله، أن يستشهد الأنبا المزعوم هنا بداود، داود الذى يصوّره العهد القديم (أستغفر الله) بصورة المجرم القرارى الزانى الفاجر قتّال القَتَلة. أفلم يجد إلا هذا كى يستعين به فى التدليل على أن ما يقوله هو عن رسلهم صحيح؟ المتعارف عليه أن الإنسان، إذا ما كان عليه أن يحضر شهودا لنصرة قضية له، فلا بد أن يختارهم ممن يوثق بكلامهم لما اشتهروا به من صدق واستقامة وعفة ونزاهة وخلق طيب كريم لا ترتقى إليه الشبهات. وأين داود من هذا؟ داود الذى ورد ذكره فى العهد القديم لا داود الذى يثنى عليه القرآن المجيد ويبرئه من أى دنس أو إجرام! وعجيب أيضا أن يرسم ملفق الحدوتة للمشايخ الثلاثة صورة مضحكة تدل على جهلهم وسذاجتهم، منتهزا فرصة أنهم نكرات لم يسمع بهم أحد، إذ لا وجود لهم فى كتب التاريخ والتراجم. بيد أن هذه الصورة التى رسمها لهم تتناقض، رغم ذلك، مع ما تركه المفكرون المسلمون السابقون على العصر الأيوبى من مؤلفات غزيرة وعظيمة فى مقارنة الأديان والرد على النصارى لم تغادر شاردةً ولا واردةً مما عند القوم إلا وبينت عُوَارها وتهافتها وساقت الحجج المفحمة التى تكسحها كسحا. إن لدينا، والحمد لله، قائمة طويلة من المؤلفات فى هذا الميدان ثرية غاية الثراء تركها علماؤنا العباقرة الأفاضل، فكيف يتصور مؤلفُ تلك الحكايةِ الساذجةِ أن بمستطاعه إيهامنا بجهل أولئك المشايخ (الذين يسميهم: "أئمة المسلمين") بذلك التراث الجدالى العظيم، وسطحية تفكيرهم إلى هذا الحد الهزلى؟ وهذه قائمة بأهم الكتب السابقة على تاريخ المجادلة المزعومة، ولا أقول شيئا عما أُلِّف بعدها من كتب فى ذات الموضوع، وهى منقولة عن موقع "ملتقى أهل التفسير":
* كتاب على عمار البصري النصراني لأبي الهذيل العلاف المعتزلي. مفقود.
* كتاب جواب قسطنطين عن الرشيد, لمحمد بن الليث الخطيب. منشور.
* رد على النصارى لضرار بن عمرو المعتزلي. مفقود.
* رد على النصارى لعيسى بن صبيح المردار. مفقود.
* كتاب على أبي قرة النصراني لعيسى بن صبيح المردار.
* رد على النصارى لحفص الفرد. مفقود.
* رد على النصارى لأبي عيسى محمد بن هارون بن محمد الوراق: أكبر وأوسط و أصغر.
نشر منه جزآن في بريطانيا بجامعة برمينجهام على يد دافيد توماس.
* كتاب على النصارى لأبي جعفر الإسكافي. مفقود.
* كلام على النصارى للنظّام المعتزلي. مفقود.
* كلام على في كتاب المعونة لأبي بكر أحمد بن علي بن الأخشاد المعتزلي. مفقود
* الرد على النصارى ليعقوب بن إسحاق الكندى. محفوظ في رد يحي بن عدي النصراني عليه.
* رد على النصارى لعمرو بن بحر الجاحظ. حُفِظ مختار منه وطُبِع ثلاث مرات.
* الرسالة العسلية في الرد على النصارى للجاحظ. مفقودة.
* رد على النصارى لأبي القاسم ترجمان الدين الحسني الشيعي (ت 246هـ). منشور مرتين.
* الحجة على النصارى لمحمد بن سحنون المالكي (ت 256هـ). مفقود.
* رد على أصناف النصارى لعلي بن ربّن الطبري. قطعة وحيدة منه منشورة في بيروت سنة 1959م بجامعة القديس يوسف، وحفظت نصوص منه في رد ابن العسال النصراني, وترجمه كوديل إلى الفرنسية عام 1996م.
* الدين و الدولة لعلى بن ربَّن الطبري. مطبوع بتحقيق منيانا، وأعاد نشره عادل نويهض.
* رد حميد بن سعيد بن بختيار المتكلم على مَطران فارس المسمى يوشع بخت. مفقود.
* كتاب لحميد بن سعيد بن بختيار المتكلم رد فيه على النصارى في مسألة النعيم و الأكل و الشرب في الآخرة وعلى جميع من قال بضد ذلك. مفقود.
* رد على النصارى للقحطبي. مفقود.
* رد على النصارى للحسن بن أيوب, وهو كتاب إلى أخيه علي بن أيوب يبين فيه فساد مقالات النصارى و تثبيت النبوة. محفوظ جله في الجواب الصحيح لابن تيمية, وقد حقق مستقلا في هولندة كرسالة دكتوراه.
* الكلام على النصارى مما يحتج به عليهم من سائر الكتب التي يعترفون بها لأبي الحسن الأشعري.
* رد على النصارى (ناقص) لمؤلف مشرقي من القرن الرابع. نشر مع دراسة عنه بالفرنسية بمجلة دراسات إسلامية.
* الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري (ت381ه)ـ مطبوع.
* كلام على النصارى للقاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403هـ) في كتاب التمهيد، له. مطبوع.
* رد على النصارى للقاضي عبد الجبار المعتزلي ضمن كتابه تثبيت دلائل النبوة. مطبوع.
* كلام على النصارى في كتاب المغني ج 5 للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
* الرد على أناجيل النصارى لابن حزم. مذكور في سير أعلام النبلاء للذهبي.
* إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بين أيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل، لابن حزم.(جذوة المقتبس للحميدي).
* مناظرة الحسن ابن بقي المالقي صديق ابن حزم لنصراني. موجودة.
* مناظرة لابن حزم مع قاضي نصارى قرطبة حول الأكل والشرب في الجنة. نشرتها على الملتقى المفتوح.
* مناظرة ابن الطلاع القرطبي لنصراني من طليطلة. مفقودة.
* قصيدة في الرد على نقفور فوقاس لابن حزم. ورد نصها في فهرسة ابن خير، والبداية و النهاية لابن كثير، و طبقات الشافعية الكبرى.
* جواب أبي الوليد الباجي (ت 474هـ) على رسالة راهب إفرنسة. نشرت أربع مرات اعتمادا على مخطوطة وحيدة في الأسكوريال رقم 538.
* شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل لأبي المعالي الجويني (ت 478هـ). منشور مرتين.
* إفحام النصارى لابن جزلة المتطبب (ت 493هـ). مفقود.
* رسالة ابن جزلة ( أبو علي يحيى بن عيسى) كتبها إلى إليا القس. مفقودة.
* الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ). نشر ثلاث نشرات مختلفة.
* رسالة ميزان الصدق المفرق بين أهل الباطل وأهل الحق، إملاء أبي مروان عبد الملك بن مسرة بن عزيز اليحصبي قاضي الجماعة بقرطبة (ت 552هـ) في مجاوبته عن كتاب أساقفة النصارى إليه مع قصيدة له نظمها في معنى هذه الرسالة (فهرسة بن خير ص 373). مفقود.
* مقامع الصلبان لأبي جعفر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي القرطبي (ت582هـ). طبع مرتين.
* قصيدة في الرد على نقفور فوقاس عظيم الروم، للفقيه أبي الأصبغ عيسى بن موسى ابن عمر بن زروال الشعباني ثم الغرناطي. توفي قبل سنة 575هـ (فهرسة ابن خير ص 368 رقم 1145). مفقودة.
* كتاب في الرد على النصارى للرهاوي (ذكره صالح بن الحسين الجعفري صاحب التخجيل لمن حرف الإنجيل).
* كتاب في الرد على النصارى لخلف الدمياطي (ذكره الجعفري صاحب التخجيل).
* الرد على المتنصر لأبي الطاهر ابن عوف المالكي (ت 581هـ).
* الداعي إلى الإسلام للأنباري (ت 577هـ) (فيه فصل في الكلام على النصارى). مطبوع.
* النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية لنصر بن يحيى بن سعيد المتطبب. مطبوع.
* مناظرة في الرد على النصارى لفخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606هـ). مطبوعة.
ومما جاء على لسان الأنبا جرجى أيضا فى المجادلة المزيفة المصنوعة قوله: "فقد شهدت السماء والأرض والملائكة والناس والملوك والعوام والجاهل والعاقل أن الحواريين رسل الله تعالى وأنصار دينه الحق الصادق. ونبيك محمّد يشهد لهم ويحقّق قولهم وإنجيلهم بقوله في القرآن: "إننا أنزلنا القرآن مصدّقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل". فإذا كان نبيّك وكتابك قد صدَّق الإنجيل فقد لزمك أنت أيضا أن تصدّقه، وإن كذبته فقد كذّبت نبيّك وكتابك". وجوابنا أن هذا كله كلام خطابى لا برهان عليه، إذ ليس كل الناس (وخَلِّ الملائكة الآن على جنب!) يؤمنون برسل المسيح، وهذا لو كان الذى يُنْسَب لهم من الكتب هو مما كتبه فعلا حواريوه الحقيقيون رضى الله عنهم، وهو ما نشك فيه شكا مطلقا لأن الحواريين لا يمكن أن يكفروا بالله ويشركوا به عبده عيسى بعد أن صح إيمانهم به على عهده صلى الله عليه وسلم، بل الذين يؤمنون به على النحو الذى تشرحه كتبهم هم النصارى المثلثون فقط. أما قول الأنبا التعبان فى مخه إن فى القرآن نصا يقول: "إننا أنزلنا القرآن مصدّقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل" فهو كذب مبين لأن مثل هذا النص لا وجود له فى القرآن، بل الموجود فيه هو قوله تعالى: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ"، "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ". والمهم أن القرآن (كما نرى) يعلن نفسه مهيمنا على الكتب السابقة، أى أن ما يقوله عنها هو الصواب الذى ينبغى اعتماده. ومعنى هذا أن الأنبا، إذا أراد أن يحاجّ المسلمين بكتابهم، فعليه أن ينقل كلام كتابهم كما هو، مثلما أفعل أنا مثلا حين أجادل القوم فأنقل كلامهم بنصه، لا أن يؤلف كلاما من عنديّاته ثم يزعم أن هذا هو كلام القرآن.
وعلى هذا فلا معنى لقوله إن القرآن قد شهد للتوراة والإنجيل، ومن ثم فعليكم أيها المسلمون أن تصدقوا بما فى أيدينا. ذلك أن التوراة والإنجيل لدينا غير التوراة والإنجيل لديهم، فالتوراة والإنجيل لدينا وَحْيان نزلا على موسى وعيسى، أما الذى عندهم فهو العهد القديم والعهد الجديد، وهما مجموعة من الكتب ألفها أشخاص متعددون بعد موت موسى وانتهاء حياة عيسى على الأرض، وليسا وحيين سماويين، وإن لم يعن هذا بالضرورة أن كل ما فيهما لا يمت إلى الوحى بصلة، إذ قد بقيت فيهما أشياءُ وأصداءٌ من وحى السماء مختلطة بما سطرته أيدى البشر. ومن هنا فلا بد أن ينزل الأنبا على حكم القرآن إن كان يريد أن يقنع المسلمين من خلال آيات ذلك القرآن، أما أن يلوى النصوص القرآنية ويحرفها جريا على ما تعوده قومه مع التوراة والإنجيل فليس من العدل ولا من الأمانة ولا من المنهجية فى شىء. واضح أيها القمص المنكوح، يا من أرسلت لى تلك الحدوتة التافهة تفاهة عقلك، أم نعيد الكلام من أول وجديد؟
ومن ثم فقول المسلم للأنبا المزعوم: "أنا مصدّق الإنجيل، ولكنّكم حرفتموه بعد نبيّنا (أحسب أن المقصود: "بعد نبيكم") وجعلتموه على غرضكم وهواكم" هو كلام صحيح تمام الصحة. لكن ماذا قال الراهب؟ وماذا كان رد المسلم عليه؟ وكيف مضت المحاورة؟ هذا ما سنقرؤه الآن. "قال الراهب: لا تتحدّث بهذا ولا تورد قضية لا يمكنك القيام بتحقيقها، وأخيرا تخجل بباطلك كمن يروم ستر الشمس عن الناس بكفِّه. قل لي يا أبا سلامة: كم من السنين مضت من المسيح إلى محمد؟
قال المسلم: ما أدري.
قال الراهب: أنا أقيم لك البيّنة. إن من المسيح إلى محمد ستمائة سنة ونيّف.
قال المسلم: صدقت يا راهب. كذلك هو، وكذلك وجدنا في التواريخ.
قال الراهب: أفما كان النصارى قد وُجِدوا في الدنيا كلها؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: مثلما في وقتنا هذا؟
قال المسلم: نعم. (وما زاد).
قال الراهب: فهل يمكنك أن تعدَّ الأناجيل التي كُتِبت في أقطار الأرض وفي سائر اللغات والألسن؟
قال المسلم: لا أقدر على ذلك.
قال الراهب: فاجعل أن طائفة من أهل الغرب حرَّفت أناجيلها، فكيف وصلت هذه الأناجيل إلى الذين هم في أواخر الشرق، ولهم لغة أخرى ولسان آخر؟ وكذلك الذين هم في الجنوب والشمال مع تخالف لغاتهم وسجاياهم. فكيف يمكن أنْ كان إنجيل واحد قد تحرّف كما تقول أمكن أن تحرَّف به أناجيل لا تعدّ ولا تحصى في أقطار الأرض كلّها عند شعوب مختلفة لغاتها؟ فهذا من الممتنع أن يكون الاتفاق عليه. ولو كان ذلك لوجدت بعضها محرّفة عند جماعة من النصارى، وبقيت عند غيرهم أناجيل غير محرّفة. ولكنّك إن طفتَ الدنيا كلها: الجنوب والشمال والشرق والغرب تجد الأناجيل في سائر اللغات على المثال الذي سلَّمه إلينا الحواريين رسل المسيح لا يخالف الواحد للآخر. وأنا أحضر لك مثال يصدّق ويحقّق قولي: إن قَدِم أحد الناس وأظهر قرآنا يخالف القرآن المعروف الآن عندكم وقال لكم: هذا القرآن المنزل على النبي، وليس هو ذاك، فهل كنتم تقبلونه؟
فقال الأمير: لا. وعليّ ما كنّا نقبله بل نحرقه ومن أتى به.
قال الراهب: فإذا كان كتابكم قد كُتِب في لغةٍ واحدة وبشفةٍ واحدة لا يمكن ولا يجوز أن يحرّف، فكيف يمكن لمن يروم تحريف الأناجيل، وقد وُزِّعت في المسكونة كلها عند شعوب مختلفة لغاتها؟ وقد يوجد عندنا حجج واضحة وبراهين بيّنة غير هذه توضّح صدق ما أوردنا الآن لكم من الكتب العتيقة مما قَدِمَتْ به الأنبيا من قديم الزمان عن المسيح ورسله، لكنْ أَوْجَزْنا الكلام خيفة أن يكون عندكم ثقل من إطالة الشرح".
وواضح أولا أن كاتب الحدوتة لا يحسن التلفيق، فالشيخ المسلم يعلن جهله بالمسافة الزمنية التى تفصل بين النبيين العظيمين، وهو أمر لا يجهله أصغر تلميذ مسلم. لكن الله سبحانه يأبى إلا أن يفضح الأنبا، وبلسانه هو الذى يستحق القطع من اللغلوغ، إذ يقول على لسان الشيخ تعليقا على الموضوع ذاته: "صدقت يا راهب. كذلك هو، وكذلك وجدنا في التواريخ"، يما يعنى أنه يعرف الفارق الزمنى بين محمد والمسيح ولا يجهله كما ادعى عليه الكاتب الكذاب. وواضح كذلك ما فى ردود الأنبا وتعليقاته من سفسطة مضحكة، فهو يتحدث كما لو لم يكن هناك إلا الأناجيل التى بأيدى النصارى المثلثين، متجاهلا ما يعرفه كل من له أدنى إلمام بتاريخ النصرانية من أن ثمة أناجيل كثيرة جدا سوى التى تعترف بها الكنيسة، وهى تختلف عن هذه اختلافات عنيفة، مثلما أن هذه تختلف فيما بينها اختلافات عنيفة أيضا حسبما وضحتُ أنا مثلا فى دراسة سابقة لى على المشباك نشرتْها عدة مواقع منذ شهور بعنوان "إلى القمّص المنكوح: الأناجيل- نظرة طائر"، كما أن هناك فِرَقًا أخرى من النصارى لا تؤمن بألوهية المسيح على أى وضع: لا ربًّا ولا ابنا للرب، بل عبدا ورسولا لا أكثر ولا أقل، وهو ما يقول به القرآن، علاوة على أن ثمة إنجيلا يحمل اسم برنابا ليس فيه عن المسيح إلا أنه عبد ورسول، مَثَلُه مَثَلُ أى نبى آخر من أنبياء الله. ليس ذلك فقط، بل هناك فى العهد الجديد أسفار لم تكن الكنيسة تعترف بها فى البداية، ثم عادت فأدخلتها فى كتبه، وهى رسالة يعقوب، والرسالة الثانية لبطرس، ورسالة بولس إلى العبرانيين، والرسالتان الثانية والثالثة ليوحنا، ورؤيا يوحنا اللاهوتى. بيد أن الأنبا غير المحترم يقفز فوق هذا كله محاولا إيهام القارئ الذى ليس لديه اطلاع على تاريخ الأناجيل أن الأشياء معدن، وكله تمام التمام. وهذا هو التدليس بعينه وأنفه وفمه! إذن فليس هناك إنجيل واحد، بل أناجيل كانت بالعشرات اختفى جزء منها وبقى جزء آخر عندى منه أكثر من عشرة أناجيل مترجمة إلى الإنجليزية، ولا تعترف الكنيسة إلا بأربعة من هذا الجزء الباقى فقط. وقد اتخذت الكنيسة إجراءات صارمة للقضاء على هذه الأناجيل وأصدرت أمرا بإعدامها، إلا أن الحق غالبٌ مهما كانت قوة أعدائه. ولسوف يأتى يوم ينكشف فيه ما تخبئه الكنائس فى سراديبها البعيدة عن العيون من مخطوطات لا تريد أن يلقى عليها أحدٌ نظرةً مخافة الافتضاح وانهيار البناء المؤسس على الباطل، ولسوف يتضح أن كل ما يهرف به القوم هو هراء فى هراء. هذه هى حقيقة الأمر، لا الذى يطنطن به الأنبا البكاش!
ومرة أخرى نقول: إن الإنجيل الذى يتحدث عنه الإسلام هو الإنجيل الذى نزل على عيسى لا الأناجيل التى كُتِبَتْ بعد رفع الله له، فهذه مجرد تراجم للسيد المسيح تشبه فى إطارها العام سيرة نبينا عليه السلام، مع الفارق الكبير المتمثل فى أن السيرة المحمدية قائمة على الإسناد بحيث يعرف القارئ من أين بدأ الخبر، ومَنْ نقله لنا، وعَمَّنْ نقله، أما الأناجيل فهى كتابات كتبها أصحابها دون أن يعنّوا أنفسهم بإسناد ما يكتبونه، بل يعتمدون على الشائعات والروايات المختلفة بلا أية محاولة للتثبت والتمحيص. لكن أين الإنجيل الذى كان يبشر به المسيح عليه السلام؟ ذلك هو مربط الفرس! إن فى الأناجيل الحالية كلاما للسيد المسيح صلى الله عليه وسلم يذكر فيه الإنجيل، وهو ما يعنى أنه كان هناك إنجيل يبشر به عليه السلام قبل تلك الأناجيل التى بأيدى النصارى حاليا. إلا أن الأناجيل الحالية لا تذكر فى أى موضع منها على الإطلاق أن تلاميذ عيسى بن مريم كانوا يكتبونه. وأعتقد أن هذا هو السبب فى أنه قد ضاع. لقد بقيت منه، فيما نتصور، عبارات وشذرات نقلها لنا كتاب الأناجيل الموجودة بين أيدينا الآن، أما باقى ذلك الإنجيل فلم تحتفظ به ذاكرة النصارى آنذاك، وبخاصة أن أتباع عيسى عليه السلام كانوا، كما هو واضح من القراءة اليقظة للأناجيل، قلة قليلة جدا حتى إنهم، عند القبض عليه (حسب رواية تلك الأناجيل)، قد تركوه يقاسى وحده مصيره الرهيب دون أدنى محاولة من جانبهم للدفاع عنه أو تخليصه من أيدى أعدائه، لا يُسْتَثْنَى من ذلك أقرب المقربين من حوارييه إليه، إذ وجدنا بطرس ينكره ويقسم بالله كذبا إنه لا يعرف عن هذا الرجل شيئا، كما أن واحدا آخر من المؤمنين به خلع عن نفسه ملابسه التى أمسكه الجند منها ومضى يجرى لا يلوى على شىء وهو بلبوص لا يغطى عورته غطاء، فضلا عن أن الاضطهادات كانت تنتاش هذا العدد القليل جدا من كل جانب فلم تدع لهم عقلا، فيما يبدو، يذكرون به كل ما قاله السيد المسيح، وبخاصة فى ظل الظروف الغريبة التى انتهت بها حياة المسيح على الأرض! ومن هنا كانت الاختلافات الرهيبة بين الأناجيل المختلفة، إذ كان كل مؤلف يكتب ما يعنّ له أو ما يؤمن به أو ما وصله وكان على هواه!
وهذا ما يقوله لوقا مثلا فى أول الترجمة التى كتبها عن السيد المسيح والمسماة: "إنجيل لوقا"، وهى فى الحقيقة ليست من الإنجيل فى شىء، اللهم إلا بعض بقايا من بقاياه مما استطاعت الذاكرة النصرانية آنذاك الاحتفاظ به بعُجَره وبُجَره: "1إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، 2كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، 3رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، 4لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ". فالأمر إذن، كما يرى القارئ، لا يعدو أن يكون تأليفا منقولا مما سمعه لوقا وغيره، لا وحيا من السماء نزل على عيسى وحفظه التلاميذ من بعده كتابة واستذكارا كما هو الحال فى القرآن الكريم، أو حتى فى الحديث النبوى الشريف رغم نزوله فى درجة اليقين عن كتاب الله. لقد كان القرآن المجيد يُكْتَب أولا بأول غِبَّ نزوله من عند الله، كما كانت الذاكرة البشرية تظاهر القلم فى ذلك. وفى كل جيل كان ولا يزال هناك ملايين من المسلمين كبارا وصغارا يحفظون القرآن عن ظهر قلب. وفى الأحاديث كان هناك منهج لكل محدِّث يعتمده فى قبول أو رفض ما يجمعه من الروايات المنسوبة إلى رسول الله، علاوة على أن المسلمين يحفظون كثيرا من كلامه صلى الله عليه وسلم. أما الإنجيل فلم يعرف هذا ولا ذاك، إذ لم يحدث أن كُتِب منذ البداية أو فكر أحد فى حفظه فى صدره، كما أن مؤلفيه لم يستندوا إلى أى منهج فى قبول ما وقع لهم من الروايات المتعلقة بحياة السيد المسيح أو رفضها، وهذا جَلِىٌّ من كلام لوقا فى مفتتح السيرة التى ألفها عن حياة عيسى عليه السلام كما مرّ آنفا .