

-
وعلى كل حال ها هو ذا كاتب الحدوتة يعلن كيف عومل الرهبان والقساوسة من قِبَل الأمير الأيوبى المسلم: "اتفق أن رئيس دير القديس ماري سمعان العجائبي البحري حضر بين يدي الأمير والسلطان صاحب مدينة حلب وأعمالها حيث كان ينزل جيشه في الفضا الذي بين عُمّ وحارم. وكان حضور الرئيس لدى الأمير لأجل حوائج عرضت له من حوائج ديره ومصالحه. فلما مثل بين يدي السلطان مع من كان قد صحبه من الرهبان قبلهم أحسن قبول وأمر بقضاء حوائجهم وما التمسوه. ورسم لهم النزول في خيمة أخيه الملك المشمّر... فحين حضر بين يدي الملك المشمّر قبلهم أحسن قبول بغاية الإكرام والإجلال. ولما نظر إلى الشيخ أنبا جرجي استلذّ بالنظر به وأدناه إليه ورسم له الجلوس بقربه. ولما عاد الرئيس من عند السلطان ليكمل حوائجه تمسك الأمير بالشيخ وأخذ يحدّثه ويسأله عن أمور الدين والرهبان وعيشتهم وسيرتهم وتصرفهم"، فضلا عما ذكرته الحدوتة فى نهايتها من إتحاف الأمير للرهبان بوَسْقِ بغلٍ (مثل الأنبا جرجى) سمكا، وبغلةٍ من بغاله الأميرية مُسْرَجة. وواضح أن ما حدث لهم من الإكرام والترحيب لم يكن شيئا استثنائيا، بل كان أمرا معتادا، وإلا لم يفكروا أصلا فى المجىء والمثول بين يَدَىِ الحاكم المسلم. أليس هذا ما يقول به المنطق؟ علاوة على أنه لم تصدر عن الكاتب أية كلمة تدل على أن هذا الاستقبال الذى حَظِىَ به الرهبان والقساوسة كان شيئا غريبا لم يتوقعوه. لكن الخبيث القليل الأدب لا يريد أن يقر بجميل للمسلمين، بل ينزل على حكم طبيعته الثعبانية السامة فيعض اليد الكريمة التى امتدت له بالحسنى! ألا لعنة الله على الحقدة المارقين الذين يعاملهم الإسلام أجمل المعاملات فلا يكون منهم إلا أن ينقلبوا عليه فيتهموه كذبًا وزُورًا بكل نقيصة فيهم، وإن كنا نشك فى الحدوتة كلها، لكننا إنما ندينهم بما تخطه أيديهم النجسة الدنسة! بالسم الهارى، يا بعيد، السمك الذى أطعمكم إياه الأمير رغم أننا لا نصدق حدوتتك، وبخاصة أنك تقول إن الأمير قد أمر حاجبه الموجود عند مَسْمَكته (ولا أدرى ماذا يفعل الحُجّاب عند مصايد السمك!) أن يعطى السمك الرهبان "معافًى مبرّأً من سائر الغرامات والحقوق"، وكأن عطايا الملوك والأمراء فى تلك الأيام كانت تخضع للمحاسبة الضريبية وأمثالها فأراد الأمير أن يستثنى الرهبان المناجيس منها! عال والله! هذا ما كان ينقصنا فى يومنا العجيب! كما تذكر الحدوتة أن اسم الحاجب هو تمام السيارى، وقد حاولت العثور على هذا الاسم فى مواقع المشباك المختلفة، وبالذات فى المواقع التى توجد فيها عادةً كتب ذلك العهد فلم أفلح فى الوصول إلى شىء! وأغلب الظن أنه اسم منتحل كأسماء بيّاعى البطاطة الثلاثة الذين اخترعهم دبر الكاتب السقيم وجعلهم من "أئمة الإسلام"!
وبالإضافة إلى ذلك نرى الأمير يوقع باسم "المشمر الملكى"، وهذا غريب، فالمعروف أن لقب "المشمر" إنما أطلقه الأمير على نفسه (حسبما كتب بعض المؤرخين) إشارة إلى أن أباه لم يعطه مملكةً كبعض إخوته، فكيف لم يستخدم لنفسه إلا هذا اللقب الذى يرمز إلى الحرمان، مع أن له لقبا آخر فخما ليست له هذه الإيحاءات السلبية، وهو "الظافر"؟ ثم، وهذا مجرد استفسار، هل كان أحد من الأمراء الأيوبيين يصف نفسه بــ"الملكى"؟ ليس ذلك فحسب، إذ يقول الكذاب النجس إن المصيدة كانت عند برزة. أتدرى، أيها القارئ، أين تقع برزة؟ إنها فى غوطة دمشق، ونهرها (الذى سوف يأخذ الراهب المنفوخ ذو الدبر المشروخ السمك منه) هو نهرٌ محلىٌّ صغير ينبع من عينٍ هناك ولا يزيد طوله كثيرا عن عشرة كيلو مترات، والمسافة بين دمشق ومنطقة حلب حيث جرت أحداث الحدوتة وحيث كان دير الرهبان السناكيح المناكيح، الذين يخرج من أدبارهم دائما فحيح، علامة الشوق إلى التشليح والتلقيح، هى فوق الثلاثمائة والخمسين كيلو مترا. أى أن الكذاب يريد أن يفهمنا أنهم قد خرجوا عن مسار عودتهم إلى ديرهم عدة مئات من الكيلومترات كى يحصلوا على وَسْقِ بغلٍ مثلهم سمكا، وأن الأمير لم يجد فى ممتلكاته إلا هذه المصيدة التى يقطّع الوصول إليها الأنفاس كى ينعم على الراهب ببعض ما يصاد منها من سمك! هذا ليس سمكا. هذا سمك، لبن، تمر هندى! ثم بالله كيف يمكن أن يبقى السمك طوال طريق العودة سليما لا ينتن كدبر قمصنا وراهبنا، ومعروفٌ بطء وسائل المواصلات فى ذلك العهد وعدم وجود حافظات للَّحم والسمك وأمثالهما من الأطعمة التى تفسد سريعا؟
وهذا النهر، كما هو واضح، لا يتبع مملكة حلب، التى كانت تحت إمرة الملك الظاهر، بل يقع فى مملكة دمشق، التى كانت تحت سلطان أخ آخر هو الملك الأفضل، الذى كان يتبعه الأمير المشمر (اسمه الحقيقى "الخضر"، ولقبه الرسمى "الظافر" كما سبق بيانه)، ولعل فى ذلك ما يفسر أن المصيدة التى يملكها الأمير كانت فى دمشق لا فى حلب، وإنْ ظن محقق الحدوتة أنه كان تابعا لأخيه الملك الظاهر صاحب حلب (الذى لم يكن شقيقا له)، على عكس "الأفضل" (الذى كان أخاه لأبيه وأمه معا). وهذه عبارته: "ويظهر أنه كان من أتباع أخيه الملك الظاهر غياث الذين غازي صاحب مدينة حلب أصغر أولاد صلاح الدين. ومن ثم كان الأمير المشمّر أقل شأنا من أخيه الملك الظاهر الذي مات في حلب ودفن في قلعتها سنة 617 للهجرة التي توافق سنة 1216 مسيحية عندما جرت هذه المجادلة، ولعلّه كان تابعا لأخيه المذكور". والصواب ما ذكرناه من أنه كان تابعا للأفضل، أما الذى كان تابعا للظاهر فهو شقيقه الأمير داود، وكانت فى يده قلعة البيرة على الفرات. يقول النويرى فى "نهاية الأَرَب": "استقر ملك دمشق وما معها للملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي، وهو أكبر أولاده وولي عهده، وعنده أخواه شقيقاه الملك الظافر خضر والملك المفضل موسى. واستقر ملك حلب ما يليها للملك الظاهر غياث الدين غازي، وعنده أخوه الملك الزاهر، فجعله من قِبَله على البيرة"، وفى "النجوم الزاهرة" لابن تغرى بردى أن أولاد صلاح الدين "كانوا ستة عشر ذكرًا وابنةٌ واحدةٌ: أكبرهم الأفضل علي، ولد بمصر سنة خمس وستين يوم عيد الفطر. وأخوه لأبيه وأمه الملك الظافر خضر، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوهما أيضا لأبيهما وأمهما قطب الدين موسى، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. فهؤلاء الثلاثة أشقاء. ثم الملك العزيز عثمان الذي ملك مصر بعد أبيه، ولد بها سنة سبع وستين. وأخوه لأبيه وأمه الأعز يعقوب، ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين. والملك الظاهر غازي صاحب حلب، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوه لأبيه وأمه الملك الزاهر داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. والملك المعز إسحاق، ولد سنة سبعين. والملك المؤيد مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين. والملك الأشرف محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمه الملك المحسن أحمد، ولد بمصر سنة سبع وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمه الملك الغالب ملكشاه، ولد بالشام سنة ثمان وسبعين. وأخوهم أيضا لأبيهم وأمهم أبو بكر النصر، ولد بحران بعد وفاة أبيه سنة تسع وثمانين. والبنت مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل... ابن الملك العادل وماتت عنده. وملك بعد السلطان صلاح الدين مصر ابنه الملك العزيز عثمان...، وملك دمشق بعده ابنه الملك الأفضل علي، وملك حلب ابنه الظاهر غازي كما كانوا أيام أبيهم"، وإن كنت لا أحب أن أقف عند هذه النقطة أطول من ذلك رغم إمكان اتخاذها دليلا إضافيا على الاضطراب والتدليس فى تلك الحدوتة، إذ ثم سؤال يفرض نفسه هنا، ألا وهو: ماذا كانت صلاحية الأمير الظافر فى حلب بحيث يقوم بتضييف الرهبان المذكورين، ولم تكن له صفة رسمية فى تلك المملكة؟
كذلك ففى هذه الفقرة الأخيرة يوقع المحققَ فى المهالك غباؤُه مرة أخرى فيكون فى هذا برهان جديد على أنه لا توجد جريمة كاملة أبدا مهما ظن مرتكبها أنه قد احتاط فيها لكل شىء فسدّ كل الثغرات ولم يترك وراءه قط أى أثر يمكن أن يكشف أمره، إذ قال الكذاب عن الأنبا جرجى المزعوم إنه "من هؤلاء الشجعان الذين أرهفوا القلم وأحسنوا البيان"، مع أن راوى الحدوتة المضحكة قد ذكر أن ما جرى على لسان ذلك الأنبا (الذى ليس له وجود إلا فى العقول المدلسة) لم يكن سوى كلام شفوى لم يُسْتَخْدَم فيه قلم ولا ورق ولم يكن ثمة وقت للتحبير وإظهار البيان، على عكس ما يكذب المحقق المدلس الذى يعرف قبل غيره أن هذه المجادلة لم تقع قط وأنه لم يكن هناك مثل ذلك اللقاء المزعوم بين جرجى ومن سماهم بـ"أئمة المسلمين". كذلك أين كتبه الأخرى التى تظهر براعته البيانية ومواهبه العقلية؟ بل أين أخباره وتاريخ حياته عندهم، وهو الرجل الذى انتصر ذلك الانتصار الباهر على المسلمين وفى حضور أمير من كبار أمرائهم كما يزعمون؟ وبالإضافة إلى هذا فإن فى الحدوتة أخطاء لغوية لا تليق إلا بكذاب غبى مثله. إنهم أهل الإعلام الطنان من قديم الزمان، وصناع النجوم الزائفة بالباطل! ثم لو كان هناك لقاء كهذا، فأين خبره فى كتب المسلمين؟ أمن المعقول أن يقع مثل ذلك اللقاء، وأن يكون وقوعه فى معسكر الأمير الأيوبى ابن صلاح الدين، ثم تسكت عنه كل كتب المسلمين فلا تتعرض له ولو بكلمة؟ لقد ذهبتُ ففتشتُ بطون كتب تلك الفترة فلم أجد لتلك الحدوتة من أثر، بل لم أجد أى أثر لأى واحد من طرفيها: لا الأنبا جرجى ولا الفقهاء الثلاثة الذين تقول الحدوتة إنهم جادلوا هذا الجرجى فجندلهم، وهم أبو سلامة وأبو ظاهر والرشيد بن الهادى. ثم ما هذه النغمة الغريبة، نغمة انتصار النصارى على المسلمين فى الجدال، والمعروف أن علماء المسلمين لم يدخلوا قط مع رهبان النصارى ورجال دينهم فى جدال إلا كان الفلج للمسلمين، وكثيرا ما انتهى الجدال بدخول مجادليهم فى الإسلام. وما خبر المناظرة التى تمت فى السودان بين مجموعة الدكتور محمد جميل غازى وجماعة القساوسة السودانيين فى أواخر القرن الماضى وانتهت بإعلان القساوسة جميعا اعتناق الإسلام على بكرة أبيهم ببعيد! وبإمكان القارئ أن يطالع وقائع تلك المناظرة كاملة فى كتاب "مناظرة بين الإسلام والنصرانية"، ويقع فى طبعته الثانية (الرياض/ 1413هـ- 1992م) فى 500 صفحة، وهو متاح على المشباك لمن يريد تحميله. وبالمناسبة فقد كان بين أعضاء الوفد المسلم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد، وهو قس مصرى سابق أسلم وأصبح من أشد المدافعين عن سيد الأنبياء والدين الذى جاء به.
كذلك أين خبر هذا اللقاء فى كتب النصارى فى ذلك الوقت، بل إلى ما بعد ذلك الوقت بعدد من القرون؟ لقد جرت المجادلة المزيفة عام 1216م تقريبا، إلا أن أقدم مخطوط لهذه الحدوتة يعود إلى عام 1539م، فأين كانت تلك الحدوتة طوال تلك القرون الثلاثة والعقدين والنصف؟ يقول المحقق الكذاب ككاتبها الكذاب: "لم ننشرها إلا بعد أن قابلناها على عدة نسخ قديمة وجدناها في مكتبة الأمّة في باريس وغيرها من مكاتب الشرق، وهي كثيرة تعدّ بالعشرات، وأقدمها وأصحها كتبت بخط جميل سنة 1539 عن نسخة قديمة لا نعلم تاريخها". إننى فى الواقع لا أطمئن إلى أولئك الناس، فهم متخصصون فى التزييف والعبث حتى بكتبهم المقدسة، وما خبر تحريفهم إنجيلهم بالذى يجهله أحد، ومن هنا فليس لكلام ذلك الكذاب عندى وعند كل عاقل من معنى إلا أنها قد وُضِعَتْ وَضْعًا فى ذلك التاريخ إن صح ما يقول. أى أنها قد اخْتُرِعَتْ من بُنَيّات الخيال والأوهام بعد الوقت الذى قيل إنها وقعت فيه بأكثر من ثلاثة قرون! ترى أين حمرة الخجل عند أولئك الكذابين؟ الواقع أنهم لا يخجلون ولا يستحون، ومن كان هذا شأنهم فإن الله سبحانه لا يكتب لهم التوفيق أبدا، بل يفضحهم ويهتك سترهم كما فضح القمص المنكوح، ذا الدبر المقروح، الذى منه الديدان تلوح، والنتانة تفوح!
ثم من هم أولئك المشايخ الثلاثة النكرات الذين لا نعرف عنهم شيئا البتة، وكأن الحاشية الأيوبية والبيئة الحلبية قد خلتا من مشاهير المشايخ والعلماء والكتاب ممن كانوا يستطيعون أن ينفضوا هذا الراهب فى الأرض كما أفعل أنا الآن بالقمص المنكوح رغم أنى عبد ضعيف لا أرتقى إلى مستواهم من العلم بهذه الموضوعات؟ ودعنا الآن من أن الأمير المشمر ذاته كان من أهل العلم والحديث وصاحب ثقافة تاريخية واسعة كما سيأتى فيما بعد من هذه الدراسة! أو كأن المسلمين يمكن أن يتجاهلوا مثل أولئك العلماء فلا يكتبوا عنهم أو يترجموا لهم! عال والله عال، لم يبق إلا أبو سلامة وأبو ظاهر والرشيد بن المهدي! لو أن الملفق الكذاب قال إن هؤلاء ثلاثة من العربان مثلا أو من بائعى البطاطا من أمثاله فلربما كان لكلامه بعض القبول، أما أن يكونوا علماء فقهاء فليس لذلك من معنى إلا أن الأبعد كان يفكر بدبره المنتن كفمه ويستملى قلمه من دواته الخلفية السفلية! أيعقل أن يكون هؤلاء من كبار أئمة المسلمين على ما يزعم ملفق الحدوتة ولا يرد لهم ذكر بين علماء حلب ولا غيرها من تلك البلاد؟ لقد وقعت مثلا، وأنا بصدد إعداد هذه الدراسة، على مقال فى العدد 1007 من "جريدة الاسبوع الادبي" (20/ 5/ 2006م) بعنوان "لماذا حلب عاصمة للثقافة الإسلامية؟" ذكر فيه كاتبه د.أحمد فوزي الهيب، ضمن من ذكر من علمائها فى الميادين المختلفة على مر العصور القديمة، مشاهيرهم فى العصر الأيوبى، فكان منهم الأسماء التالية، وليس فيها لا أبو ظاهر ولا أبو باطن ولا دياولو، ببساطة لأنهم ليس لهم وجود إلا فى دبر الراهب المدلس. قال المؤلف: "ومن علماء حلب آنذاك في التفسير والحديث والفقه وعلوم العربية والخط والتاريخ والجغرافية الفلك والرياضيات والطب والفلسفة: القفطي وابن العديم وابن سعيد الأندلسي وابن شداد وابن العجمي وعالي بن إبراهيم الغزنوي وابن الصلاح والكاشغري والكاساني وصقر بن يحيى وعبد الله الجماعيلي والهاشمي عبد المطلب بن عبد الفضل وابن الخباز وشهدة بنت ابن العديم وابن يعيش وابن عمرون وابن مالك والواسطي القاسم بن القاسم والحسين بن هبة الله الموصلي وسعيد بن أبي منصور الحلبي وحمد بن علي المازندراني وابن خروف النحوي وعبد اللطيف البغدادي وعلي بن أبي الفرج البصري والأسعد بن مماتي وابن المولي ويحيى بن محمد وابن أبي طي وياقوت الحموي وحمد بن طلحة والهروي علي بن أبي بكر والسهروردي الفيلسوف المتصوف وأبو الفضل بن يامين الحلبي وأبو الحجاج يوسف الإسرائيلي وغيرهم. ومن أطبائها عبد اللطيف البغدادي وعفيف بن سكرة الحلبي وحسون الرهاوي"ـ وغير هؤلاء كثير.
على أن هناك شيئا فى زاوية السرد الخاصة بالحدوتة، ألا وهى أن الراوى، رغم ما قيل من أنه كان أحد أعضاء الوفد الذى ذهب للقاء الملك الأيوبى وأنه كان حاضرا المجادلة المزعومة فى حضرة الأمير المشمر كلمة كلمة، لم يَرْوِ الحدوتة بضمير المتكلم، شأن من كان فى مثل موقفه من الحضور والمشاركة، بل حكاها بضمير الغائب، لا على سبيل النحو فقط، بل على سبيل الملاحظة والوجدان أيضا، إذ لم يحدث أنْ فَكَّر فى التعبير عن مشاعره مرة أو التعليق على ما جرى رغم خطورته البالغة ولو بكلمة واحدة، فيقول مثلا: كنت واحدا من وفد الرهبان الذى ذهب للقاء الأمير المشمر فى شأن كذا فقال لنا كذا وقلنا له كيت، وكنت أشعر بالسرور وأنا أرى الأنبا جرجى يفحم المشايخ المسلمين ويحظى بتشجيع الأمير...إلخ. بل إنه حين تكلم عن الراهب الذى تولى المجادلة المزعومة لم تبدر منه لفظة واحدة تنبئ أنه كان يعرفه أو كانت له به علاقة قط! وهذه ثغرة خطيرة فى الحدوتة تدل على أنها مصنوعة صنعا وأن قائلها لا يمكن أن يكون قد حضر شيئا مما يَدَّعِى وقوعه بين الأنبا المذكور والمشايخ الثلاثة.
ولكى يعرف القارئ ما أريد أن أقوله ويتمثل الأمر التمثل الصحيح أسوق له هذه الأسطر من رواية أم سلمة رضى الله عنها عما وقع للمسلمين فى الحبشة فى عهد النبى حيث كانت معهم هناك: "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ: أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى لا نُؤْذَى وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الأُدْمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمَا إلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلاهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، وَقَالا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ. فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْنَا وَلا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إنَّهُمَا قَدَّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ. وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ...". فانظر كيف روت أم سلمة حكايتها بضمير المتكلم فقالت: "نزلنا، جاورنا، أَمِنّا، عَبَدْنا، لا نُؤْذَى، لا نسمع..." رغم أنها لم تكن من الحاضرين مجلس النجاشى، بل كانت فقط واحدة من جماعة المهاجرين المسلمين هناك، فما بالنا بمن كان حاضرا وسمع ورأى كل شىء كراوى هذه الحدوتة؟
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 26-02-2008, 12:39 AM
-
بواسطة دفاع في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 17-01-2008, 09:58 PM
-
بواسطة طالب علم1 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 12-02-2007, 02:10 AM
-
بواسطة lelyan في المنتدى الإعجاز العلمي فى القرأن الكريم والسنة النبوية
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 24-11-2006, 11:51 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات